مقالات وآراء

هندسة وتصميم الوحدة الوطنية (2)

عبد الماجد عباس محمد نور عالم

خلصنا في سالف حديثنا الى أن الوحدة الوطنية،ما هي إلا بذرة تزرع فتثمر غرسها استقراراً وامناً وتعاضداً بين مكوناتها واحساس بالمسؤولية ،ووجداناً مشتركاً بين أفرادها،وبهذا فهي صناعة وصياغة لبناءِ يقوم على هندسة واعية عالمة بتباينات الواقع الماثل،ومتفهمة لجذور تناقضاتها الشاخصه وتعلم اسبابه وغور جذوره،ولعلنا لا نختلف أن قلنا بضرورة هذه المعارف،فهي مؤشرات ومحددات لضبط الاتجهات التي تعين على ضبط مقياس رسم هذه الخريطة وتضع النسب التي يمكن من خلالها دوزنة هذا البناء وتشكيل تصاميمه، وكلنا يعلم بأن رسماً بهذه الدقة والحساسية ،وفي زمن دقيق ومعقد كالذي نعيشه الان،وما فيه من كثير القنابل الموقوتة والمختبئة بثنايا تلافيف تجاربنا السابقة،حتى جعلت الثقة بين مكونات الوطن مهتزة،وقد زلزلت كل المكونات الموجودة بهذه الرقعة الجغرافية الممتدة بطول البلاد وعرضها،وعلى مدى عمرٍ من السنوات الماضية،طالت كل ما بذلت من جهودٍ مقصودةٍ وغير مقصودة،ومهما يكن فالمحصلة النهائية قد أفضت الى تأكل المشتركات ،وهدم الكثير من الجسور الممتدة التي كانت تربط وتشبك هذه المكونات السودانية في غرب البلاد وشرقها،وشمالها وجنوبها ،وكادت أن تفصى بها وتفتتها،علماً بأن هذه الجسور قد نسجت،عبر حقبٍ ضاربةٍ في عمق التأريخ ولعله بعمر هذة الارض وتسلسل نشأتها طبقٍ إثر طبقة لتربط بعضها على بعضٍ كحلقاتٍ متداخلة ،من عهودٍ سحيقة الآماد والأغوار،وتطورت حتى وصلت بها ببعضها عهودها الى افاق القومية الوطنبة،ولسوف تجد تلك البصمات مكنونة في سلطنة الفور،وباحشاء مملكة سنار،تجدها مبثوثة في اركان تلكم السطلنات في شخصيات ملوكها وسلاطينها وقياداتها العسكرية والمدنية،وفي القائمين على القضاء والتجارة ،كل هذه التداخلات و قد اخذت ملمحاً قومياً ليس به مسحة من مسوح القبلية أو الجهوية ،بل أن ما النظرة والنشأة كانت يومئذٍ للقومبة أقرب،بل هو الواقع والحاضر الذي كان يمشي بين الناس حضواً وثقةً ،وكان هذا جزء عزيزاً في في التجربة السودانية القديمة،ونعم النموذج الموحد هو،فقد كان حاضراً رغم التنافس والاحتكاكات الطارئة ما بين السلطنات، إلا أن هذه الاحتكاكات كانت لا تمنع التصاهر والتواصل والتأز والتوحد في حالات العدوان والمهددات الخارجية،لاي منهما،لذا كانت الحدود السودانية مستقرة من الاضطرابات ولم تنكمش بفعل التهديدات الخارجية،بل في الحقيقة قد تمددت،فلقد تمددت حدود المملكة السنارية في منطقة القلابات، وانتصرت بمعارك كثيرة على ملك الحبشة،وحدت من سلسلة غزواته على الحدود الشرقية،وربما قد يدهشك إن قلت لك أن قائد من قواد الدولة السنارية كان له الدور الحاسم في هذه المعارك ،وسبباً في تحقيق هذا الانتصار،هو أميرٌ من امراء سلطنة الفور،وهو ابن عم سلطانها مباشرةً ،ومن المفارقات بأنه قد لجاء لسنار هرباً من ابن عمه،فقاد جيوشاً من السناريين وانتصر بتلكم المعارك،وستتجد أمثلة لهذا الامير المقاتل وبطول تاريخ السودان العريض،ولا سيما سلطنة دارفور،وحتى عهد السلطان على دينار،فلا تستغرب إن وجدت القاضي،والقائد العسكري والفقيه العالم، من مكونات السودان الشمالي والغربي والجنوبينوالشرقي (من شوايقة،ودناقلة،وفلاتة،وعرب،وجنوبيين وحلب وكل مكونات الوشائج السودانية وفسيفساء الأعراق والقبائل السودانية ممزوجة في خريطة قومية تاريخية متعددة المشارب والألوان فكانت كتلة منصهرة في بوتقة تلكم السلطنات في نسيج قومي بديع..حتى قالوا في مدائنهم تلك بالفاشر أوغيرها “عند ختلافك مع احدٍ ما ،اضرب ما شاء لك الضرب وإياك ثم إياك والتنابذ،فإن فعلت فلا محال أنك ستنال نفسك في ما فعلت نصيباً موفوراً،فالكل رحمٌ وأهلٌ ،أصلٌ وفصل.هذا التماذج المنداح طوعاً صهر القوم في سمتٍ وديباجة قومية الملامح والهوى وقدم نموذج بائن القسمات لهذا الرسم المتصاهر المتشابك بالأوصار والعلاقات.اذن هناك جذور لتجربة تاريخية قامت على هذه الأرجل حدود زماننا القريب،ومفاد هذه التجربة تقررلنا حقائق تقول بأن الوطن بناء قايمٌ على المصالح والتوازن ما بين المجموعات السكانية،ذات التنوعات العرقية،والثقافية،الدينية،واللغوية،رغم هذه التعددات إلا أنهم ويجمعهم مساحات الجغرافيا،ويتحكم فيهم قوة تضاريسها،التي صاغت تداخلاتهم التاريخية،وفاعلتهم اجتماعياً،أفرزت من تلكم المفاعلة رصيداً من المشتركات التي قامت على التراضي والتعايش المتأقلم مع الظروف الطبعية والاقتصادية ،والسياسية حتمة عليهم ،خيارالتشارك في المصير الواحد للتعاون لدفع التحديات والتهديدات الخارجية والداخلية ،ومن هنا يجب البناء والتركيز على هذه المشتركات وتدعيمها حتى تكون من مجموعة العادات السلوكية والطقوس التي ترسيخ قواعد هذه الإلتقاءات،والعمل على تمتينها بالممارسة الإيجابية وتحويل الى طاقة بناء في حياة الناس وجعلها،وواقعاً بطوع الإختيار،وحر الإرادة ،وجزءاً من إنفعالاتهم وتفاعلاتهم وبذلك ستكون هذه المشتركات حاضرة في تلافيف الوعي الثقافي وذاكرة التعبير اللغوي المتشبث بهذه التجارب لفظاً ومعناً،وبمثل هذا التوصيف ،يمكن إن يشكل أعمدة لهذا البناء المنظم والذي نسمية وطناً متصالحِاً ومتآلفاً في مكوناته وسيعيشون تحت ظل هذا البناء ،طالما ظل هذا التوازن الذي يجد الجميع نفسه فيه،ستجده ملتزم ُ بحدوده،وحريصاً على محدداته طوعاً وبلا أكراه،ومن الجديرُ هنا التذكير بالحقيقة القائمة،هي أن تكوين السودان الحالي وبمساحته الجغرافية المعلومة قد وحدتها قوةً غازية عنوةً وقسراً،مستخدمةً في ذلك كل جبروت القوة العسكرية الفيزيائية،من وبها رسموا معالمها الادارية والجغرافية ،وقد كان ذلك بفعل الاستعمار التركي والبريطاني، فهما قد كانتا الساعد والمعصم الذان دمجا السلطنة الزرقاء وسلطنة الفور فكانت رقعة السودان الحالية ما خلا دولة جنوب السودان،اذن ولا شك أن هذه الخريطة تعكس رغبتهما وتصورهما لادارة هذه الرقعة الجغرافية ويجسد طموحاتهما للانتفاع بمواردها وخيراتها بما يحقق لهما اقصى فائدة وبأقل تكاليف وهذا هو جوهر دوافعها لإستعمار السودان،وبهذا فليس من اولوياتها واهتماماتها الصرف من اجل تحقيق التوازن الاجتماعي للمكونات التي تعيش ضمن هذه الرقعة،بل على العكس تماًماً،فهي طالما لعبت على هذه التناقضات وغذتها بغرض السيطرة عليها واستخدامها للتحكم في الكتل الاجتماعية والسياسية،وهذا لا يكلفها من الإنفاق إلا شيئاً يسيراً،على عكس الصرف الباهضة الذي تحتاجه عملية تحقيق التوازن الاجتماعي للمكونات السودانية،.وعلى الرغم من أن هذا الدمج القسري الذي تم للسلطنات السودانية (دارفو وسنار) فقد كان لتعايشهما ضمن هذا الجسد المدموج قسراً،ولفترة من الزمان،عرفا فيه فائدة هو أن الواقع الذي افرزه هذا الدمج جعل التعايش بينهما ممكنٌاً بل وفعالاً حتى غدى بينهم بنايناً ووجدان وذلك بفضل الادارة القوية والإستقرار النسبي وما نشأ من موسسات ،تعليمية وصحية وخدمات تمتع بريعها الأنسان العادي البسيط مقارنة بأوضاعهم قبل الإندماج أو بمعنى ادق قبل الإستعمار وبهذا التوازن الاداري الجديد ،قد وجد فيه كل الاطراف المندمجة قسراً واقعاً أفضل مما كانا عليه قبل دمجهما ،وهكذا اصبح السودان سوداناً كما نرى جغرافيةً متداخلة عظماً ولحماً ،ويحركه التناغم المتوازن بين المصالح وسيبقى بذلك متماسكاً ما دام هذا التوازن قائماً ،وكلما اضطرب التناغم واختلت اوزانه،فعليك أن تنظر لكفتي الميزان ورمانته وهي قائمة على عدالة توزيع التنمية الاقتصادية وممارسة السلطة الادارية والسياسية قسطاً وعدلا.

عبد الماجد عباس محمد نور عالم

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..