
تناولنا في الجزء الأول من هذه السلسلة برنامج الإغاثة الروسية التي نفذها رجل الأعمال الروسي يفغيني بريغوزين والتي جاءت تحت مسمى “من روسيا مع الحب” والتي إستهدفت الفقراء من السودانيين في مناطق مختلفة من البلاد، حيث قامت المنظمة التي يترأسها بريغوزين (فاغنر) بتوزيع عدداً من السلال الغذائية التي تحتوي على العدس والأرز والدقيق والبسكويت، وتم تغليف المساعدات بريغوزين بصور العلم الروسي، وكُتب عليها عبارة “من روسيا مع الحب” و “من يفغيني بريغوزين”.
وذكرنا أنه بدأ غريباً على الكثيرين أن تقوم دولة مثل روسيا التي لا تربطها أي علاقات أو روابط عقائدية مع السودان بتوزيع وقبول تلك المواد الغذائية، اذ إعتاد محتاجي البلاد على قبول الهبات والصدقات من الدول العربية والمسلمة، لا سيما أن يفغيني بريغوزين الذي زينت صورته أغلفة السلال الغذائية هو الرئيس لمجموعة مرتزقة فاغنر الروسية سيئة السمعة، وهو المطلوب دولياً لدى الولايات المتحدة لتورطه في التأثير على الإنتخابات الأمريكية في العام 2016 ودعمه لحملة دونالد ترامب الانتخابية، كما ظهر اسمه من قبل في القضية الشهيرة الخاصة بوكالة أبحاث الانترنت، التي تتخذ من مدينة سانت بطرسبيرغ الروسية كمركز لها وتقوم بإختلاق حسابات زائفة على مواقع التواصل الاجتماعي بغرض التأثير على الناخبين الأمريكيين، كما يفرض الإتحاد الأوروبي على يفغيني عقوبات بسبب أنشطة مجموعة فاغنر في ليبيا، وتقديم الدعم لمجموعات المرتزقة “مما يشكل تهديدا لسلام واستقرار وأمن ليبيا”.
وذكرنا أنه في ذات الوقت الذي يحاول فيه رئيس مجموعة فاغنر يفغيني بريغوزين تحسين صورته في السودان بتوزيع العدس والأرز والدقيق على الفقراء والمساكين في السودان، في ذات الوقت، كانت قواته المرتزقة في جمهورية جنوب أفريقيا تعمل على قتل المسلمين من الأطفال والنساء في جريمة وصفتها الأمم المتحدة بأنها جريمة حرب، اذ قامت مرتزقة “فاغنر” الروسية، خلال شهر أبريل الماضي بمهاجمة مسجد “التقوى” في مدينة “بامباري” وسط البلاد، وأعدمت 20 مدنياً من المسلمين كانوا بداخله! فكيف لنا كمسلمين أن نقبل بمساعدات كهذه ملطخة بدماء المسلمين في جمهورية افريقيا الوسطى وبل في سوريا وليبيا وغيرها من الدول التي تتورط فيها فاغنر بجرائم حرب؟!.
وبالطبع لم تجد هذه المساعدات الروسية الكثير من الإهتمام والترويج في وسائل الإعلام المحلية، بل قام البعض برفض قبولها، فلجأت مرتزقة فاغنر التي تحاول تحسين صورتها لدى السودانيين، الى إستخدام عددا من الصفحات الوهمية على موقع فيسبوك، وبعض مواقع التواصل الإجتماعي، وذلك للترويج لتوزيع هذه المواد الإغاثية الروسية، وفي محاولة منها لتلميع صورة روسيا، وإظهارها كدولة صديقة للشعب السوداني، مع تصوير القادة المدنيين في نفس الوقت على أنهم عملاء للغرب.
لكن إدارة فيسبوك إكتشفت “شبكة التضليل” الإخبارية الروسية، حسبما وصفتها إدارة الموقع، وقامت على الفور بإزالة عددا من الحسابات والصفحات الترويجية المزيفة والوهمية التي عملت طوال الفترة الماضية نشر قصص دعائية عن روسيا، مع التركيز بشكل خاص على المساعدات الغذائية التي أرسلها رئيس مجموعة فاغنر يفغيني بريغوزين، والترويج للمصالح الروسية في السودان وفوائد إنشاء قاعدة عسكرية روسية في مدينة بورتسودان.
وأشارت إدارة فيسبوك الى أن الشبكة ذاتها إرتبطت بوكالة أبحاث الإنترنت الروسية (IRA) المقربة من بريغوزين، والتي اشتهرت بالتدخل خلال الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016، وتعمل حالياً على التدخل في العديد من الدول الأفريقية.
وقامت إدارة فيسبوك بأزالة الشبكة المكونة من 30 صفحة و 6 مجموعات و 83 حسابًا و 49 ملفًا شخصيًا على انستغرام، بعد أن أبلغت الباحثة المستقلة تيسا نايت، وهي باحثة من جنوب إفريقيا في مختبر ألابحاث الرقمية من مؤسسة (دي اف ار لاب) ، أبلغت بشأن الصفحات المزيفة على موقع فيسبوك و التي كانت تدار من روسيا، فيما يُدار بعضها من السودان.
ولكن دعونا نتساءل ما الذي جعل إدارة فيسبوك تزيل هذه الصفحات، مع إنها لم تستخاد صوراً خادشة للحياء أو ما شابه ذلك، الإجابة تكمن عند إدارة فيسبوك، فقد ذكرت أن الأشخاص الذين يقفون وراء هذا النشاط إستخدموا حسابات مزيفة بأسماء وصور شخصيات معروفة، جعلوها وسيلة للنشر والتعليق على المحتوى الخاص بهم و إدارة الصفحات والمجموعات، اذ قامت المجموعة بنشر أخباراً أفريقية وأحداثاً جارية في المنطقة، بما في ذلك عن السياسة في السودان، والتوترات في تشاد وإثيوبيا وليبيا، فضلاً عن تعاليق رافضة لسياسات رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، بل وعملت الصفحات المزيفة على توجيه نقد لاذع لرئيس مجلس السيادة الإنتقالي عبدالفتاح البرهان، وإنتقدت بعض الصفحات الحكومة لعدم سماحها بدخول الحلويات الروسية، حيث إشترطت الجهات المسؤولة الحصول على شهادات مواصفات تتناسب مع المعايير السودانية، اذ نعلم كلنا أن الحلوى التي تتم صناعتها في الدول الأوروبية غالباً ما تستخدم فيها زيوت حيوانية مثل زيوت الخنزير والتي يحرم علينا تناولها كمسلمين.
وهاجمت بعض الصفحات الحكومة وقالت أن رجل الخير بريغوزين يحاول أن يدخل البهجة في نفوس السودانيين، ولكن البيروقراطية السودانية تمنعه من ذلك. و نشرت صفحة مؤيدة لروسيا حذفها فيسبوك صورة كاريكاتورية لرئيس الوزراء حمدوك يسرق المساعدات الروسية من طفل يبكي.
وبحسب بيان صادر عن فيسبوك فأن الأشخاص الذين يقفون وراء هذا النشاط إستخدموا حسابات مزيفة للنشر والتعليق وإدارة المجموعات والصفحات عبر منصات وسائط اجتماعية متعددة، وقالت إدارة فيسبوك ليست هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها إكتشاف شبكات تضليل من هذه النوع حيث حدد فيسبوك في العام 2019 صفحات مرتبطة بكيانات على علاقة ببريغوزين وشركته العسكرية الخاصة، مجموعة فاغنر، وفي العام 2020 حلل مرصد ستانفورد للإنترنت ثماني صفحات تستهدف السودان كانت مرتبطة بروسيا كجزء من عملية تضليل إعلامية واسعة تروج في المقام الأول لبريغوزين وروسيا.
وأكتشفت إدارة فيسبوك أن كافة التعليقات المؤيدة لهذا النشاط الروسي تم إجراؤها بواسطة ملفات شخصية تستخدم صورًا مسروقة من شخصيات معروفة. بل وقام أعضاء الشبكة بتزوير المئات من الصور الخاصة بأشخاص على وسائل التواصل الإجتماعي مع تغيير لون الشعر وإضافة الألوان للأزياء التي يرتدوها، لكن إدارة فيسبوك إستطاعت الكشف عن هذا التزوير.
وفي الفترة ما بين شهري أبريل و مايو نشرت الصفحات التي أزالها فيسبوك محتوى يتعلق بالقاعدة الروسية البحرية ومدى فائدتها للسودان. وألقت الصفحات باللوم على (السلطات الفاسدة) التي أرادت ابتزاز روسيا لتعليقها قرار المصادقة على إنشاء القاعدة.
وذهبت إحدى الصفحات التي كانت تدار روسيا إلى حد القول إن الأمور كانت أفضل للشعب السوداني في ظل حكم الرئيس السابق عمر البشير.
و يبدو أن بعض المحتوى الذي تم نشره على الحسابات التي تم إغلاقها بواسطة فيسبوك قد تمت ترجمته بإستخدام مواقع الترجمة الآلية مثل مترجم موقع قوقل، حيث ظهرت العديد من الأخطاء اللغوية والنحوية، مما يُظهر تدخلاَ خارجياً في إدارة هذه الصفحات.
ويبدو أن الحكومة إنتبهت مؤخراً للشبكات المزيفة التي تستغل وسائل التواصل الإجتماعي “بشكل ممنهج لإنتاج وبث الشائعات والأخبار الكاذبة عن السودان”. حيث قالت وزارة الثقافة والإعلام في بيان رسمي لها الخميس الماضي أن حكومة الثورة ظلت تتابع تزايد وإنتشار شبكات تعمل عبر وسائط التواصل الإجتماعي بشكل منهجي على إنتاج وبث الشائعات والأخبار الكاذبة عن البلاد وإثارة الكراهية والنعرات العنصرية والجهوية والقبلية وتشويه صورة السودان في محيطه الإقليمي والدولي.
وقال البيان أن تلك المخاطر تمثلت في تزايد تلك الأنشطة المتصلة بنشر الإشاعات والأخبار الكاذبة في السعي لتقويض المرحلة الإنتقالية وبث روح اليأس والإحباط لدى السودانيين والسودانيات، بالإضافة لإنتهاك تلك الصفحات لحقوق أساسية لجميع المواطنين تتمثل في الخصوصية والإحساس بالأمان.
وقالت الوزارة في بيانها أنها تعاقدت مع إحدى الشركات الخبيرة في هذا المجال لإعداد دراسات وتقارير حول تلك الشبكات وتحليل محتواها، و خلصت نتائج تلك الدراسات التي قامت بها الشركة خلال الأشهر الماضية لوجود شبكات تستهدف السودان بشكل ممنهج بنشر الإشاعات، والأخبار الكاذبة، وتفتيت النسيج الاجتماعي، والتحريض على العنف والكراهية، وذكرت الوزارة أن هذه الشبكات “إرتبطت بالنظام المباد، وبعض الجماعات الإرهابية المتطرفة بالمنطقة ذات الصلة الوثيقة بالعهد المدحور الذي قبرته ثورة ديسمبر المجيدة”. و أظهرت التقارير أن معظم الشبكات المذكورة تقوم ببث محتواها التحريضي من خارج الأراضي السودانية، حيث وجّه مجلس الوزراء بمخاطبة تلك الدول تنبيهاً لها بخطورة تلك الأنشطة ومخاطرها المحتملة.
في إعتقادي أن التأثير الذي تقوم به شبكات التضليل الإخبارية على وسائل التواصل الإجتماعي، بما فيها شبكة التضليل الروسية التي كشفتها إدارة فيسبوك، في إعتقادي أن ذلك التأثير ذو فعالية مؤقتة، لما يمتلكه القارئ السوداني من ذكاء وفطنة ومعرفة بالأخبار والصفحات الزائفة، وتكتمل تلك المعرفة بإكتشاف طرق محاربة الأخبار الزائفة، وعدم مشاركتها على صفحاتهم الخاصة، وإرسال تقارير جماعية الى إدارة مواقع وسائل التواصل الإجتماعي حتى تتم محاربة هذه الصفحات وإزالتها تلقائياً.