
يقول إدريس جماع…
النيل من نشوة الصهباء سلسلهُ
وساكنو النيل سمار وندمانُ
وخفقة الموج اشجان تجاوبها
من القلوب التفاتات واشجانُ
ذلك كان فيما سلف كما يبدو، اذ لم يبق إلا اشجان تجاوبها التفاتات واشجان، ويكاد الآن ينفض السامر ليتحول انس الندامى الى حرب وندامة.
النزاع حول حقوق دول حوض النيل ما انفك سجالاً بشأن سد النهضة المقام على أراضي إقليم بني شنقول، السوداني في الأصل، منذ نشأة مملكة الفونج في 1504م وحتى 1902م العام الذي حصل فيه ملك الحبشة منليك الثاني على حق استتباع هذا الإقليم الغني بالذهب لأراضيه بموجب اتفاقية بينه والجيش البريطاني.
هكذا فثمة ضرورة تبرز بإلحاح لنتجه بإيجابية الى طرح تصورات وحلول بديلة أكثر استدامة ومقبولية من جانب الاطراف الثلاثة.
دعونا نعمل على تحويل التحديات الى فرص ولنبدأ فوراً بالدعوة الى تصويب المصطلح الشائع ( دول المنبع ودول المصب) فالنيل الأزرق ليس ناتجاً عن انبجاس مائي water spring، بمعنى أنه ليس ينبوعاً ضخماً يتدفق من باطن الأرض الأثيوبية كما قد يظن البعض حتى تتحقق ملكيته لأثيوبيا، وإنما هو ناجم عن تجمع كميات كبيرة من مياه الأمطار عبر خمسة أودية تصب من ثلاث جهات في حوض صخري ضخم ، محاط بالجبال – طوله 84 كيلو متر وعرضه 66 كيلو متر، يقع هذا الحوض الصخري في منطقة جبلية شاهقة ارتفاعها 1788 متر فوق سطح البحر شمال غرب إثيوبيا ويميل غرباً لسكب هذه المياه داخل اراضي السودان.
التوصيف الدقيق الذي يجب ان تتبناه التشريعات الدولية والقوانين المحلية والمواثيق الاقليمية بدلا من دولة المنبع هو (دولة تجميع مياه النهر collecting river water)، لأن مصدر الماء أساساً غيوم السماء التي تتبادلها الرياح في سماء الإقليم ولا تملكها أو تتحكم فيها دولة بعينها، ولا يوجد تشريع يحدد ملكية وأسس توزيع مياه الغيوم كمصدر اساسي للأمطار، حتى إذا هبطت تلك الأمطارعلى الأرض تصبح حينئذ من حق الأرض التي هطلت بها، وأما اذا صعب حبس تلك المياه ورأت الدولة أن من مصلحتها أن تدعها مطلقة تتدفق حيث شاء لها الله تعالى وفقاً لتضاريس الأرض، فهذا سيعني فورا أنها ستصبح من حق الدول التي تصلها تلك المياه بصورة طبيعية من خلال المسيل والتدفق. لا بل تعتبر ( دولة المنفذ) ذات فضل أمني كبير على دولة التجميع، من حيث ان فيضانات تلك المياه وسيولها تهدد و تضر دولة المنفذ، بينما أية محاولة للسيطرة على كميات المياه المتجمعة داخل دولة التجميع ستكلفها ما لا تطيقه خاصة في حالة جامحة كمياه أمطار الهضبة الاثيوبية.
بناء على ما سبق من توصيفات ، فإن اثيوبيا ليست دولة منبع، بقدرما هي دولة تجميع لمياه عدة روافد ناجمة عن سيول الامطار الإقليمية.
وهكذا يصبح السودان (دولة تجميع) بجانب ميزة كونه (دولة منفذ) تتحمل تبعات استيعاب كميات تلك المياه الهادرة والخطرة التي تتخلص منها اثيوبيا بصورة طبيعية وتستفيد من تمريرها عبر السودان من اجل توليد الطاقة.
أما كيف يكون السودان دولة تجميع، فالواقع يقول إنه أوفر دول الإقليم تجميعاً لمياه النيل حيث يجتمع عليه نهر الدندر ونهر الرهد ونهر عطبرة، بجانب تجميع مياه نهري النيل الأبيض والنيل الأزرق في ملتقى المقرن بالخرطوم فضلا عن تجميع عدد آخر من مياه الأنهار والوديان الموسمية التي تغذي كلها نهر النيل العظيم، منها: نهر سيتيت بجانب الوديان الموسمية خلال موسم الخريف.
واذا كان طول نهر النيل يبلغ 6650 كلم فإن معظم هذه المسافة يقطعها النهر بروافده المختلفة داخل اراضي السودان أكثر مما يفعل داخل اثيوبيا أو مصر.
وفي الواقع فإن عملية (تجميع مياه النيل ) تكلف الدول التي تحتضنها اعباءً كبيرة ، لا مجال لحصرها هنا، ولكن نذكر منها إجمالاً آثار الفيضانات المدمرة للزراعة وللمساكن والبنى التحتية أحياناً، كجرف الطرق وشبكات الكهرباء والمياه وأبنية الخدمات كالمدارس والمستشفيات والأسواق ومحطات الوقود وغيرها من خسائر سنوية تطال جوانب هذه الانهار بجانب الأمطار الغزيرة التي تتسبب في السيول الجارفة.
علماً بأن عملية ( تجميع مياه النهر) في الأراضي السهلية المنبسطة كأرض السودان، تعد أشد خطورة وتكلفة من الأراضي الجبلية الصخرية العالية التي لا تتأثر كثيراً بتدفق سيول الأمطار واندفاع الوديان الموسمية المفاجئة ، كما هي الحال في الهضبة الأثيوبية العالية.
وعليه.. فهل يقوم السودان بتحمل اعباء تجميع مياه النيل من اجل مصرفحسب؟ بينما يعاني ثلثا البلاد من العطش ( ولايات البحر الأحمر، وجنوب النيل الأزرق، وكل ولايات غرب البلاد : كردفان و دارفور)، نقول ذلك لأن اتفاقية 1959 تقضي بأن تكون حصة مصر من حصيلة المياه المتجمعة طبيعياً في السودان – بكل تلك الأعباء – والبالغة حوالى 74 مليار متر مكعب سنوياً يتم تقاسمها بحصة 55.5 مليار متر مكعب لمصر، و18.5 مليار متر مكعب للسودان أي بنسبة 75% لمصر، علما بأن كمية المياه التي تهدرها مصر في البحر الأبيض المتوسط تبلغ 4 مليارات متر مكعب سنوياً.
ولابد أن نعلم بأن حجم موارد مصر المائية بحسب ما اعلنته وزارة الموارد المائية والري المصرية هو 76.5 مليار متر مكعب سنويا منها 55.5 مليار من حصة مياه النيل حسب الاتفاق غير المنصف مع السودان عام 1959م.
وعليه فإن العدل يقتضي بأن يحصل السودان على ما يلي من حقوق عادلة لا تؤثر على ما تحتاجه مصر واثيوبيا من المياه سنوياً:
1- تغيير صفة ( دول المنبع ) غير المعبرة عن دور تلك الدول التي تتجمع فيها مياه الأمطار، والاستعاضة عنها بصفة ( دول تجميع مياه النهر River water collector) واعتبار السودان احدى تلك الدول، على أن تشمل اثيوبيا والسودان ويوغندا وجنوب السودان.
2- الدول التي تقوم بدورين خدميين للنهر: الأولى دولة منفذ ( مكب) تتلقى عبء التخلص من ضغط المياه الزائدة والمضرة لدولة التجميع، والثانية دولة التجميع لمياه النهر نفسه، فإنها تستحق افضلية وحقوقاً أعلى من غيرها ، من بين دول حوض النهر، مقابل تحمل هذه الاعباء المكلفة أمنياً واقتصادياً عن الدورين.
3- تعديل اتفاقية 1959م بين مصر والسودان بما يمنح دولة جنوب السودان الوليدة اكتساب حق الكميات المهدرة من حصة مصر الملقاة في عرض البحر المتوسط والتي تبلغ سنوياً مابين 4- 5 مليار متر مكعب.
كما يجب ان تلتزم مصر بكافة تكاليف استكمال شق قناة جونقلي ومنح ما تحققه القناة من ايرادات لصالح دولة جنوب السودان .
4- ان تدفع مصر تعويضاً عن تحمل السودان لأعباء تجميع مياه النيل الأزرق والنيل الأبيض نيابة عنها، مبلغاً سنويا مناسباً لحجم اضرار عملية التجميع المتمثلة في تجريف الاراضي الزراعية وتدمير المنازل والمباني الخدمية كالمدارس والواق والمستشفات وتوقف محطات انتاج المياه والكهرباء ونفوق الثروة الحيوانية وغيرها من خسائر مادية، وما يترتب على ذلك من تكاليف تعويضات نزوح وتشريد السكان الذين يعيشون على ضفاف الانهار والوديان الموسمية.
5- أن تدفع اثيوبيا مقابلاً مادياً مجزياً وثابتاً نظير تكلفة تحمل السودان للتبعات الامنية والاقتصادية الناجمة عن التخلص من كميات المياه المستخدمة في توليد الطاقة الكهربائية بواسطة سد النهضة، باعتبار أن نفاذ المياه نحو السودان هو الوسيلة الوحيدة لتوليد للطاقة الكهربائية عبر السد المثير للجدل.
6- سداد قيمة المياه المستلفة من جانب مصر على حساب حصة السودان على مدى الستين عاماً المنصرمة منذ 1959م. وذلك من خلال شق قنوات دائرية طويلة من النيل واليه ، ومد خطوط مياه شرب و ري زراعي الى الأجزاء الجافة من السودان والتي ماتزال تعاني من العطش والفقر، شرقاً وغرباً وجنوباً.
7- أن تتعاون دول حوض النيل على اقامة مشاريع أمن غذائي تحقق الاكتفاء الذاتي لشعوبها ( من خلال إنتاج القمح والحبوب الزيتية والبقوليات والخضروات) داخل السودان لما تتيمز به اراضيه من ميزات ولما يستحقه من افضلية كدولة تجميع ودولة منفذ في آن معاً.
8- إن للسودان حقوقاً تاريخية مثبتة بالوثائق تؤكد أن اقليم بني شنقول الذي اقيم على أرضه سد النهضة انما هو اقليم سوداني قامت بريطانيا بالتنازل عنه الى ملك الحبشة عام 1904م بموجب اتفاقية وقعت في اديس ابابا خلال فترة استعماربريطانيا للسودان ( 1898م – 1956م). وبالتالي فيجب اثبات حقوق تعويضية أخرى تقتطع من مخرجات وايرادات هذا السد على مدى عمره الافتراضي لصالح السودان مالك الأرض التي اقيم عليها السد.
9- في ظل مشكلة الانفجار السكاني بمصر فإن عليها ان تتجه بصورة اكثر جدية كدول الخليج العربية، الى تحلية مياه البحر الأبيض المتوسط والبحر الإحمر، وكذلك المياه الجوفية الضخمة التي تستبعدها، بدلاً عن الاعتماد على ماء النيل فقط ، واعتباره مصدر الحياة الوحيد، على حساب دول فقيرة لا تحظى بشريط ساحلي طويل كمثلها.
د. محمد عبد القادر سبيل
خبير ادارة استراتيجية وباحث اقتصادي