هبوطاً ناعماً وأممياً!..

عبدالمنعم عثمان
بنعومة الثعابين وخبثها، استطاعت قوى الثورة المضادة في الداخل والخارج نسج الهبوط الناعم بصورة تدعو للإعجاب والتعجب! فقد بدأ الأمر بمحاولات فرض الأمر الواقع بتسيد العسكر وجنرالات المليشيات، ولكن قوى الثورة استطاعت، وقتها والثورة في أوجها، أن تنتصر انتصارًا جزئيًا يعبر عن توازن القوى وقتها بين المنضمين إليها في شوطها الأخير ومسانديهم من القوى الإقليمية والدولية، ومن كانوا ولا يزالون يدعون إلى ثورة مكتملة الأركان تمهد لسودان جديد استمر سعيهم إليه منذ الاستقلال مرورًا بانتفاضتي أكتوبر وأبريل. ولأن الانتصار كان جزئيًا، فقد جاء بالتحالف الأعرج بين قوى الانتفاضة والعسكر الذين ادعوا مساندة الثورة وبرهنت مواقفهم بعدها عكس ذلك. وأيضًا لأنه كان جزئيًا، فهو لم ينه نوايا ومقاصد القوى الخارجية المساندة، ولكنه فقط أدى إلى تغيير التكتيكات المرحلية انتظارًا للوقت والظرف المناسب للانقضاض من جديد!
تنوعت تلك التكتيكات داخليًا وخارجيًا ولكنها كانت دائمًا تلتقى عند نقطة إجهاض الثورة، أو بالأحرى، فرملة سعيها لإكمال تنفيذ شعاراتها في بناء السودان الجديد، الذي إن حدث، فستكون نتيجته الحتمية هي إجهاض أحلام وتطلعات قوى الثورة المضادة في الداخل والخارج. فقد بدأت تكتيكات الداخل بمحاولة الخنق المستمرة للجماهير في أسباب عيشها اليومية، ظنًا منهم أن الجماهير قد خرجت في ثورتها أساسًا لتدهور الحال الاقتصادي والمعيشي، وأنها بالتالي ستثور ضد الحكومة الانتقالية لنفس الأسباب! وقد خاب ظنهم. فبالرغم من وصول الأحوال المعيشية إلى درجة مقارنتها بما كن قبل الثورة من سوء، إلا أن شعارات الثورة ظلت مرفوعة كما كانت: حرية وسلام وعدالة.. وأضيفت إليها شعارات أخرى من مثل “الجوع ولا الكيزان”، وذلك تعبيرًا عن وعي الثوار الذي خيب ظن الثورة المضادة. ومع ذلك فقد استطاع مسوقو الهبوط الناعم استغلال تلك الأوضاع المعيشية المتدهورة قصدًا وعمدًا لجذب الكثيرين من ممسكي منتصف العصاة، وذلك بالاستعانة بالقوة المساندة في الخارج لتوفير ما هو حق للإنسان من لقمة العيش والوصول إلى مكان عمله ورشوة الأسر بالبرنامج الذي يسند كل فرد بما يكفيه لشراء كيلو من اللحم شهريًا أو الوصول إلى مكان عمله في يومين متتاليين! وقد تصل تلك المساعدات الخارجية حد إنشاء بعض مشروعات البنية التحتية، بل وتوفير لقمة العيش بأفضل مما كان على العهود السابقة، ولكن يبقى السؤال الذي كان دافعًا لكتابة هذا المقال: هل من أجل هذا قامت الثورة وضحى شهداؤها منذ الثاني من يوليو 1989 وحتى التاسع عشر من ديسمبر 2019، بل وحتى الأمس في بورتسودان؟! لقد ظل المسئولون في السلطة الانتقالية يؤكدون لنا بأن الأحوال في جميع المجالات ستعود، إن شاء الله، إلى ما كانت عليه قبل الانقاذ وكأن هذا هو غاية المنى. ولعلي في هذا أرى الفرق بين ما تسعى إليه ثورة ديسمبر – المتفردة – وما كان قبلها. وقد يقول قائل من مساندي نهج السياسات الجارية أصلًا أو تعبيرًا عن عدم الوعي بمخاطر هذه المساندة على مستقبل البلاد، قد يقول: وماذا يضر إن قبلنا هذه السياسات مؤقتًا، ثم انتقلنا من بعد إلى تنفيذ شعارات الثورة وبناء السودان الجديد؟!
وللإجابة بصورة مفصلة، لا بد منها لإيصال الفكرة بحذافيرها، دعونا ننظر أولًا في ما ظللنا نصف به ثورة ديسمبر من الوعي والتفرد. وقد ذكرت في كثير من مقالات سابقة أن ذلك التفرد ينبع من وعي الجماهير من خلال تجاربها في أكتوبر وأبريل، حيث كان توازن القوى يسمح لقوى الثورة المضادة بالانتصار السريع والانتكاس بشعارات الثورة إلى أوضاع ما قبلها، بضرورة التمسك بتلك الشعارات مهما كلف الأمر، إذ أنه يستحيل بغير ذلك بناء سودان جديد يقوم على شعارات الحرية والسلام والعدالة. فلقد كان مبدأ الحرية أول ما يعبث به بعد شهور قلائل من الانتكاس على شعارات الثورة. أليس هذا ما حدث بعد ثورة أكتوبر، حيث جاءت الانتخابات المعبرة عن وجه من وجوه تلك الحرية بحكومة طردت نوابا منتخبين من نفس الجماهير التي أوصلت تلك الحكومة إلى السلطة، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل أن نفس الحكومة رفضت حكم السلطة الثالثة في الحكم الديموقراطي الحق، ألا وهي سلطة القضاء! وفي أبريل: ألم تتمكن قوى الإسلام السياسي من سرقة الثورة ومن خلال نفس الهيئات التي اعتمدت عليها ثورة أكتوبر، وقد كان ذلك نتيجة لما قامت به مايو قبل سقوطها من إضعاف للقوى الثورية من أحزاب يسارية ونقابات، ومن تقوية للوجود الإسلاموي في جميع مجالات السلطة والحياة؟! ثم ماذا كانت النتيجة لكل هذا؟ أليس استيلاء الجبهة القومية الإسلامية على كامل السلطة لمدة ثلاثين سنة، مما أدى إلى ارجاع البلاد لقرن كامل إلى الخلف، بما جعل الكل يسعى اليوم إلى الوصول إلى ما كان عليه الحال قبلها؟!
إذن فنحن لا نسعى إلى قبول ما يحدث الآن من سياسات نعلم أنها لن تؤدي، بحسب تجاربنا خلال سنوات ما بعد الاستقلال وتجارب آخرين، إلا إلى استمرار الحال على ما كان عليه على احسن الفروض في عهود ما قبل الانقاذ. ونكون في هذه الحالة وكأننا يا بدر لا رحنا ولاجينا، إذ أننا لن نكون قد فعلنا بذلك غير العودة إلى مربع الدائرة الشريرة! إن تفرد ثورة ديسمبر يأتي من تمسكها بشعاراتها لخلق سودان مختلف تمامًا عما كان وذلك بالتحقيق الحقيقي لشعاراتها من حرية وسلام وعدالة، وهو ما يدور حوله الصراع بين قوى الثورة والثورة المضادة. وهو صراع استمر بأطول وأفضل مما حدث خلال انتفاضتي أكتوبر وأبريل بما يدل على تبدل في ميزان القوى لصالح قوى الثورة، ولكن استمراره دون حسم كامل إنما يدل على أن كفة الميزان لا تزال تميل لصالح قوى الثورة المضادة، وهو ما يدعو قوى الثورة إلى مزيد من التوعية لمن لا يزالون في الطرف الآخر بسبب عدم الوعي بما يحاك وكذلك الاستفادة من أجواء الحرية النسبية المتوفرة للنضال في كل الجبهات ضد ما يحاك ومن أجل تنفيذ شعارات الثورة. وهذا طريق يفارق الطريق التقليدي “فراق الطريفي لجمله” وبالتالي فأنه لا يمكن أن يقبل السياسات المؤدية إلى الرضوخ لكل طلبات القوى الاستعمارية ويأمل في نفس الوقت في التحرر منها أو قبول عطاياها التي لا تسمن ولا يؤدى المقابل!
وأخيرًا فأن تعجل قيادات القوى الثورية لحسم الأمر قبل توفر الظروف الموضوعية له قد يؤدى إلى انتكاسة مثلما حدث في عديد من المواقف في تاريخنا السياسي، لن يكون مثالها الوحيد هو تخلف الدكتور قرنق عن سند جبهة كل القوى السياسية التي تجمعت وعزلت الجبهة الإسلامية بعد اتفاقية ميرغني/ قرنق، مما كان سببًا في تعجل الجبهة بانقلاب يونيو، الذي كانت خسائره في جبهة الجنوب وحدها هي فقدان ملايين الأرواح وانفصال الجنوب!!
________
الميدان