حظر شركات تهريب حصائل الصادرات تغريد خارج السرب

الهادي هبّاني
جاء في الراكوبة بتاريخ 29 يوليو 2021م أن بنك السودان المركزي قام بحظر 189 شركة حظراً مصرفياً شاملاً لعدم التزامها بسداد حصائل صادرات استحقت لفترات سابقة. وأنه تمّ إلقاء القبض على بعض أصحاب الشركات وعليه فقد نقص عدد الشركات المتهرّبة من الدفع من 402 شركة إلى 200 شركة.
هذا النوع من التصريحات من البنك المركزي تصريحات مضللة للناس الهدف منها تصوير أن البنك المركزي بنك قوي وصارم بينما العكس صحيح والحقيقة مخزية. وأيضا يعتبر هذا النوع من العقوبات غير مجدي ولا يؤدي إلي وقف تهريب حصائل الصادرات بل يؤدي إلي أولا: الحكم علي حصائل صادرات هذه الشركات المتهربة بالإعدام أو الشطب من الدفاتر المحاسبية كما تعدم أو تشطب الديون المشكوك في تحصيلها للمؤسسات والشركات في المحاسبة المالية وبالتالي زيادة الفجوة بين الصادرات والواردات وزيادة العجز في الميزان التجاري وثانيا: إلي الاستمرار في الإفصاح عن صادرات دفترية غير حقيقية ليس لها حصائل نقدية فعلية من النقد الأجنبي في الميزان التجاري وميزان المدفوعات دون تعديلها وهو ما يعني الإفصاح عن بيانات مضللة للجهات متخذة القرار والباحثين بل ولكل أصحاب المصلحة (Stakeholders) وهو ما يؤدي في نهاية الأمر إلي اتخاذ قرارات غير صحيحة لأنها تعتمد علي بيانات غير صحيحة. وهذه تعتبر خدعة محاسبية سبق وأن أشرنا إليها في مقالات وندوات سابقة، نعيد شرحها مرة أخري ليعرف الجميع وبالذات القراء الكرام والمواطنين العاديين الشرفاء ملح الأرض الحادبين على مصلحة البلد والمكتوين بنتائج فشل السياسات الاقتصادية التي تتبعها الحكومة الانتقالية وعدم الشفافية والتضليل الذي تمارسه عليهم (بوعي أو بغير وعي). وفيما يلي إعادة شرح للموضوع مرة أخري للأهمية:
أولا: من المعروف أن الحساب التجاري أو (الميزان التجاري) الذي يمثل الفرق بين الصادرات والواردات هو أحد مكونات حساب أو (ميزان المدفوعات) الذي يعتبر بدوره حساب مثله ومثل أي حساب عادي في مجال المحاسبة المالية يشتمل على جانب مدين وجانب دائن وتنطبق عليه كل مبادئ ومعايير المحاسبة المالية المعتمدة، كمبدأ التوازن، ومبدأ الاستحقاق وغيرها من المعايير والمبادئ المعروفة في المحاسبة المالية.
ثانيا: يشتمل ميزان المدفوعات على عدة حسابات متفرعة أولها الحساب الجاري والذي يشتمل بدوره على الحساب التجاري أو ما يعرف (بالميزان التجاري) ويتم فيه تقييد الصادرات والواردات من السلع وأنه يكون في حالة عجز عندما تزيد الواردات عن الصادرات وفي حالة فائض عندما تزيد الصادرات عن الواردات. وأيضا يشتمل على الحساب الخدمي أو ما يعرف (بالميزان الخدمي) وتُقَيَّد فيه حركة الطلب الخارجي على الخدمات الموجودة داخل البلد كقدوم الأجانب للسياحة أو للعلاج أو للتعليم داخل السودان مثلا أو عبور الطائرات الأجنبية للمجال الجوي السوداني أو رسو البواخر في الموانئ الداخلية …إلخ مما يترتب عليهما سداد رسوم بالعملات الصعبة للسودان أو العكس في حالة سفر السودانيين إلى الخارج للسياحة، أو العلاج أو التعليم أو عبور الطائرات السودانية للأجواء الجوية للدول الأخرى أو رسو البواخر السودانية في موانئ الدول الأخرى أو غيرها من الطلب علي الخدمات الخارجية. فكلما كان الطلب الداخلي للخدمات الخارجية كسفر المواطنين للعلاج أو التعليم أو السياحة في الخارج مثلا أكبر من طلب الأجانب لتلك الخدمات في داخل السودان كلما حقق الميزان الخدمي عجزا والعكس صحيح. والمعروف أن الميزان الخدمي للسودان دائما في حالة عجز مزمن لضعف وتخلف القطاعات التعليمية والصحية والسياحية وغيرها من الخدمات الجاذبة للأجانب وأيضا للفساد المستشري في قطاع خدمات الطيران المدني وخدمات الموانئ البحرية وغيرها من الخدمات التي لا تعود حصائلها من العملات الصعبة لخزينة وزارة المالية.
ثالثا: وفقا لمبدأ الاستحقاق في المحاسبة المالية فإن الصادرات يتم تقييدها في الميزان التجاري كصادرات فعلية بمجرد عبورها للحدود الجمركية بغض النظر عن أن قيمتها قد تم سدادها أو لم يتم بعد. وبالتالي عندما يفصح البنك المركزي ووزارة المالية في بياناتهما المنشورة وفي تقاريرهما الرسمية تكون قيمة الصادرات المعلنة مقيدة كرصيد دفتري فقط لا يعني بأي حال من الأحوال أن قيمتها النقدية كدولار أو أي عملة صعبة أخري قد تم استلامها ودخولها حسابات البنوك أو حسابات بنك السودان إعمالا بمبدأ الاستحقاق المحاسبي. وبالتالي فإن رصيد قيمة الصادرات المقيدة في تقرير بنك السودان لسنة 2020م مثلا والبالغ 3.8 مليار دولار هو رصيد دفتري لا يعني أن قيمة هذه الصادرات هذي كنقد فعلي قد تم استلامها، ولكنها حسب مبادئ المحاسبة يتم الاعتراف بها كصادرات.
رابعا: وبالتالي، ووفقا للنقطة أعلاه فإن رصيد حصيلة الصادرات المقيد في بيانات وتقارير وزارة المالية وبنك السودان المركزي والبالغ 3.8 مليار دولار عام 2020م مثلا مجرد رصيد دفتري لا يعكس قيمة الدولارات أو العملات الصعبة التي تم تحصيلها بالفعل ودخلت خزينة الدولة بما فيها القيمة الدفترية لصادرات الشركات التي تتهرب من توريد حصائل صادراتها ويقوم بنك السودان المركزي بحظرها من الخدمات المصرفية. وهذه الشركات في حقيقة أمرها هي شركات وهمية أو ما يصطلح عليه بالوراقين تعبيرا عن تلك الشركات التي يتم تسجيلها خصيصا لتنفيذ عمليات الصادر وتختفي بمجرد عبور السلع للحدود الجمركية وتقييدها في الحساب التجاري وميزان المدفوعات كصادرات ضمن ما يتم الإفصاح عنه.
خامسا: ونسبة لمثل هذه الحالات التي لا يتم فيها التحقق الفعلي لتحصيل قيمة الصادرات بالعملات الصعبة تحصيلا نقديا فعليا، أو نسبة لحدوث كثير من الأخطاء والسهو خلال العام في تقييد بعض الحركات المحاسبية في الحساب التجاري بالشكل المطلوب أو في أي حساب من حسابات ميزان المدفوعات فإن المعايير الدولية للمحاسبة نصَّت أن يكون هنالك حساب آخر ضمن ميزان المدفوعات وأحد مكوناته الأساسية والتي بدونها يكون غير مكتمل وغير مطابقا للمعايير الدولية وهو ما يعرف بحساب (السهو والخطأ) والذي يتم فيه قبل الإغلاق السنوي للحسابات أي قبل نهاية السنة المالية تسوية وعلاج كل الحركات المحاسبية التي لم يتم تقييدها نتيجة السهو أو تم تقييدها بالخطأ أو الحركات المحاسبية التي تتعمد فيها حكومات بعض الدول (من ضمنها حكومة السودان) عدم الإفصاح عنها كالحركات المحاسبية المتعلقة بتجارة السلاح تصديرا واستيرادا مثلا وقد يكون ذلك بهدف إخفاء تفاصيل تجارة السلاح لأغراض حماية الأمن القومي أو لإخفاء تورط الحكومة في تجارة السلاح بشكل مخالف لبعض القيود الدولية كما كانت ولا زالت إيران تفعل بسبب العقوبات الدولية المفروضة عليها. وتدخل في هذه الأخطاء أو الحركات المحاسبية التي يجب تسويتها قبل نهاية السنة المالية ما ذكرناه بشأن عدم التحصيل النقدي الفعلي للعملات الصعبة لقيمة الصادرات التي تم تقييدها في الميزان التجاري في فترات سابقة من السنة بعد عبورها الحدود الجمركية الرسمية في فترة استحقاقها. ونقصد بفترة استحقاقها هنا الفترة المفصح عنها في طريقة السداد المعتمدة من قبل الحكومة والمفصح عنها في لحظة عبور تلك السلع للحدود الجمركية والتي تحدد موعد سداد قيمة أو حصائل الصادرات من النقد الأجنبي والتي تتمثل في منشور بنك السودان رقم (4/2020) علي سبيل المثال وليس الحصر، الذي يحدد أنظمة الدفع المعتمدة التي تسمح بتصدير بعض السلع بنظام البيع تحت التصريف والتي تُعلن عنها وزارة الصناعة والتجارة بغرض فتح أسواق جديدة وتشجيع صادراتها بدون وجود اعتمادات مستندية مسبقة، كما أنها تسمح بالدفع بنظام الدفع ضد المستندات، ونظام المستندات مقابل القبول وهي أنظمة دفع (برغم أنها متعارف عليها عالميا) ولكنها أكثر عرضة للتلاعب بحصائل الصادرات من الاعتمادات المستندية بالاطلاع أو الآجلة خاصة وأن كثير من الشركات الخارجية المستفيدة من الاعتمادات المستندية الصادرة هي شركات إما مملوكة لطالبي فتح الاعتمادات من المصدِّرين أنفسهم أو هم شركاء فيها أو تربطهم مصالح مشتركة معها أو هي من الشركات التي تمارس تجارة العملة عن طريق الشراء من المغتربين في بلدان المهجر وإيداعها في حساباتها بالخارج وإدخالها للسودان في شكل بضائع مقابل الاعتمادات المستندية الصادرة التي يفتحها لهم بعض المصدِّرين من الداخل. ووفقا لأنظمة الدفع المعتمدة هذي تكون الأمور واضحة في حالة الاعتمادات المستندية الفورية حيث يتم تحصيل قيمة الصادرات بالعملة الأجنبية فورا أو خلال أيام معدودة جدا بمجرد تقديم مستندات الاعتماد للبنك وبالتالي تتحقق قيمة الصادرات بالفعل، وأيضا في حالة الاعتمادات المستندية الآجلة التي يكون فيها المصدِّر السوداني حاصل علي مهلة في السداد شهر أو شهر ونصف أو ثلاثة أشهر من تاريخ بوليصة الشحن مثلا فإن تحصيل قيمة الصادرات أيضا تكون مضمونة لأنها مقابل اعتماد مستندي معزز ومضمون ولكن تاريخ الخصم يتم في تاريخ آجل من تاريخ الشحن. ولكن في طرق الدفع الأخرى التي يتم فيها عبور الصادرات للحدود الجمركية دون أن يكون هنالك اعتماد مستندي وفقط تعهدات غير ملزمة أو مضمونة ضمن صادرات بعض السلع بنظام البيع تحت التصريف المذكورة سابقا، أو نظام الدفع ضد المستندات، والمستندات مقابل القبول يسهل من خلالها التحايل على توريد حصائل الصادرات أو التواطؤ فيها كما هو مذكور سابقا.
سادسا: للأسف الشديد أن البنك المركزي لا يقوم بتسوية الصادرات في الحساب التجاري من خلال حساب السهو والخطأ المذكور أعلاه قبل نهاية العام أو قبل إقفال السنة المالية في الحالات التي لا يتم فيها توريد حصائل الصادرات. فمن المفترض مثلا في حالة ال 189 شركة التي تم حظرها لعدم توريدها لحصيلة الصادرات أن يقوم بنك السودان بعمل قيود محاسبية تصحيحية في ميزان المدفوعات ضمن حساب السهو والخطأ لتعديل رصيد الصادرات المفصح عنه. فإذا كانت مثلا قيمة الصادرات التي لم يتم توريدها من هذه الشركات تبلغ 500 مليون دولار عام 2020م مثلا فيجب تعديل قيمة الصادرات التي تم الإفصاح عنها سابقا عند لحظة عبور هذه الصادرات للحدود الجمركية من قيمة الصادرات المفصح عنها وخصم هذه ال 500 مليون دولار من رصيد الصادرات المفصح عنها في الميزان التجاري البالغة 3.8 مليار عام 2020م لتصبح 3.3 مليار دولار بدلا عن 3.8 مليار دولار مع توضيح ذلك في الهامش أو في أية إيضاحات متممة في التقارير السنوية. فهذا التعديل يترتب عنه معرفة العجز الحقيقي في الميزان التجاري ليصبح عام 2020م مثلا 6.5 مليار بدلا عن 6 مليار دولار.
وبالتالي فإن هذه العقوبات التي يفرضها بنك السودان علي هذه الشركات فهو غير كافي لوحده ويساهم في ترسيخ مخالفة المعايير الدولية المتعارف عليها في الإفصاح المحاسبي وبالتالي اعتماد تقارير غير صحيحة مما يؤدي لاتخاذ قرارات غير صحيحة في حين ان المعالجة الشافية لهذه المخالفات التي تدخل في نطاق التضليل والتلاعب المحاسبي والتحايل علي المعايير أن يقوم بنك السودان بإصدار تعاميم صارمة جدا ونافذة تلغي كل أنظمة الدفع التي تساعد علي تهريب حصائل الصادرات وعلي رأسها أولا: أنظمة الدفع التي تسمح بتصدير بعض السلع بنظام البيع تحت التصريف والتي تُعلن عنها وزارة الصناعة والتجارة بغرض فتح أسواق جديدة وتشجيع صادراتها بدون وجود اعتمادات مستندية مسبقة، وثانيا: الدفع بنظام الدفع ضد المستندات، ونظام المستندات مقابل القبول التي درجت كثير من البلدان تجنبها لأنها تعتبر من الأدوات المصرفية المستخدمة في غسيل الأموال وتمويل الإرهاب وثالثا: حظر التجارة الحدودية للأشخاص الطبيعيين التي يسمح بها المنشور المذكور عاليا رقم (4/2020) الذي يمنع تنفيذ إجراءات الصادر للأشخاص الطبيعيين ولكنه يستثنى من ذلك تجارة الحدود وبذلك فهو يفتح منفذا كبيرا جدا لتجارة العملة وتهريب حصائل الصادرات خاصة وأن السودان حدوده ممتدة مع عدد كبير من دول الجوار التي تنشط معها تجارة الحدود في حين لا توجد أنظمة رقابية متكاملة ومتطورة لإدارة ورقابة تجارة الحدود مع تفشي الفساد في السودان وفي دول الجوار الحدودية.
الاخ الهادي هباني نشكرك على المعلومات القيمة لغير المختصين ،، التضليل وعدم الشفافية سياسة ودين الكيزان
العجز الحقيقى فى الميزان التجارى يكمن فى العجز البشرى الخاص بتطبيق لوائح الصادر والوارد وأليات تنفيذالقانون ( فى التباطوء عن تنظيف الخدمة المدنية من الطفيليات )