مقالات سياسية

مِن مُذكرات موظف فاسِد..!

منى أبوزيد
“ما فيش فايدة”.. سعد زغلول..!

لا شيءٌ يَعدِلُ عندي متعة الطعام الجيِّد سوى طعام آخر جيِّد لم أدفع فيه جنيهاً واحداً من عَرق جبيني. الأغبياء فقط هم الذين يثرثرون طويلاً بشأن الحلال والحرام، ويُصدِّعون رؤوسنا بحديثٍ لا طائل منه عن الحق الذي لا بد أن ينتصر على الباطل، وعن العدالة والقيم ومحاربة الفساد. أمثال هؤلاء تجدهم دوماً في مؤخرة الركب، كالحين، مُتعبين، حَمقى، جَوعى، “يتلقّون الحجج” ويُثيرون المشاكل، ويتلفّعون بأسمال الكرامة لإخفاء خيباتهم الثقيلة..!

خُذ عندك مثلاً، هذه ثالث أمسية من ذات الأسبوع تضع فيها أم العيال أمامي كوب الشاي “المُقنَّن” الكبير وصحن الزلابية الساخنة المُغطاة ببودرة السُّكّر “كما أحبّها تماماً”. لكنني اليوم أفرطت في تناولها وتلذَّذتُ بذلك كثيراً. وللحق فإنّ السبب ليس نوع الدقيق الذي اشتريته اليوم بعد فراغي من العمل، بل مصدر المال الذي دفعت جُزءاً زهيداً منه لشراء الدقيق والسُّكّر..!

اعترف بأنني لا استطيع أن أقاوم تلك النشوة التي تسري في عروقي كلما تقاضيت مبلغاً طائلاً مقابل خدمة سِريَّة أقوم بها لتبديل اسم أحد أولئك الحمقى – الذين ينتظرون الفوز بالوظائف المرموقة في مقابل جهدهم فقط ودون أن يدفعوا شيئاً – باسم أحد الأقوياء الكرماء الذين يفهمون أصول اللعبة جيداً، ولذلك يدفعون بسخاءٍ. هؤلاء المُتنطِّعون البلهاء يسمونها رشوة، بينما أسمِّيها أنا بكل بساطة مكافأة. مُشكلتي دوماً مع هؤلاء الحمقى هي تلك المبالغة في استخدام المصطلحات..!

في كثيرٍ من الأحيان لا يكون مُقابل الخدمة مالاً، بل خدمةً أخرى، أو عرضاً لطيفاً من أحد الكبار بأنّ يكف أذاه عني وأن يتركني بسلامٍ إذا قُمتُ بتنفيذ طلبه لصالح شخصٍ يهمّه أمره. الأغبياء يسمون هذا فساداً، بينما أسمِّيه أنا دفاعاً مشروعاً عن حقِّي في العيش بسلامٍ. أنا مجرد ترسٍ صغير في آلةٍ ضخمة، ولن تُغيِّر استقامتي المزعومة شيئاً من فساد الكبار في هذا البلد. قامت ثورةٌ أو لم تَقُم، ذهبت حكومةٌ أو جاءت أخرى، سوف يظل أمثالي – من الذين فهموا الحياة كما يجب – قابعين بهدوء في مكاتبهم، يقدمون خدماتهم للأكبر نفوذاً والأكثر سخاءً..!

هذا الهاتف اللعين الذي لا يكف عن الرنين يفسد عليَّ متعة الاستلقاء بعد شاي المغرب. الأخبار المشئومة تأتي دوماً في المساء. كانت تلك المُكالمة مُزعجة حقاً, يتحدثون عن تشكيل لجنة للنظر في شكاوى بعض الحمقى بشأن نتيجة المعاينات. “يا إله السموات” متى سيفهم أولئك السُذَّج أن هذا العالم لا مكان فيه للضعفاء السائرين على صراطٍ مستقيم. متى يدركون أننا لسنا في جنة الخلد وأن هذه الحياة ليست عادلة..؟!

أنا لا أخشى شيئاً لأن سقوطي يعني افتضاح أمر الكثيرين من عَلية القوم الذين لن يقبلوا باستمرار مثل هذه المهازل. أنا مُطمئنٌ وعلى ثقة بأنّهم سوف يقومون باللازم لحمايتي. ليس لأنّ أمري يعنيهم، بل لأن سقوطي يعني اكتشاف أمرهم، ولأنّ مُحاسبتي تعني أن يتم الزّج بأسمائهم في قضايا قد تلوك أخبارها بعض الصحف التي تُسعدها جداً مثل هذه الولائم..!

أنا لست خائفاً لأنني من القلائل الذين يفهمون أصول هذه اللعبة جيداً، ولسوف ترى كيف أنني سوف أعاود كتابة مذكراتي عن انتصارنا على أولئك الحمقى. بعد إخماد هذه الزوبعة في فنجانها بسلام، ومُرور هذه الضجة مُرور الكرام..!

[email protected]

الصيحة

‫7 تعليقات

    1. مرة أخرى العود ولا تنقطعي..عندما بدأت اقرأ الراكوبه بدأتها بمقالاتك..التي تبدأينها دائما بعباره لأحدى الفلاسفه أو المفكرين أو القاده…هذا المقال رائع هو تشخيصي للمشكله ولكن لم تقدمي رؤيتك للعلاج..أرى مشكلتنا كسودانيين.. عدم همتنا في معالجه الفساد.. وهي الرشوه والربا.. نجدها متفشيه بشكل خطير.. وأصبح الكل متقبل لذلك .. بل يسارع لتقديمها ولو لم تطلب منه.. اتقوا الله جميعا وأسعوا وأنصحوا من تعرفونه ومن لا تعرفونه.. سرا وجهرا.. ولا تقدموها إلا في حاله الإضطرار.. حينها من يأخذها هو المحاسب ولست أنت.

    1. ليبدا حمدوك بمحاربة للفساد داخل الحكومة التى يرأسها. اما القديم فيتركها للجنة إزالة التمكين والاسراع فى تكوين مفوضية محاربة الفساد.

  1. انا مستغرب فيك يا منى انت حلوة شديد ليه تبقي كوزة ياريت تراجعي نفسك هؤلاء القوم يستقطبون الجميلات لشي في نفسهم

  2. التحية والتقدير والاحترام لك وهذا المقال اخذني بعيدا لحقبة الثمانينات عندما كنا في طرابلس الغرب في الجماهيرية العظمى انذاك وكنت مولعا بقراءة شعر بدر شاكر السياب. فهذا المقال ذكرني تماما قصيدتي المخبر وحفار القبور حيث موضوعها الأساسي هو العيش وحياة الإنسان وكذلك ذكرتني بنظرية رائد البراغماتية الحديثة الفيلسوف ميكافيلي صاحب الغاية تبرر الوسيلة وطبعا في سياق السياسة وكذلك ذكرني د. روفائيل الذي كان يدرسنا الفلسفة والفكر السياسي في كلية الاقتصاد بجامعة الخرطوم وهو من أبناء جنوبنا الحبيب وكان دائما يردد عبارة ميكافيلي:Might is right and if you are weak it is your fault. فلك التحية والتقدير فقد هياتي لنا الرجعة لذلك الزمن الجميل ولا أريد أن استرسل والتحية موصولة لجميع قراء صحيفة الراكوبة وأصدقائي من الدفعة العاملين في السلك الدبلوماسي وتعالى رأسهم صديقي العيد محمد عيسى ايدام في سفارة السودان في استكهولم.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..