الإنتقال الديمقراطي وأزمة المفاهيم والسلوك ..

عبدالقادر محمد احمد المحامي
تعددت وتضاربت الآراء حول وسيلة إصلاح وإستقلال الأجهزة العدلية وعلى رأسها القضاء، …تدور الآن خلافات حادة حول منصب رئيس القضاء وصلت مرحلة جعلت أحد السادة القضاة يكتب قائلا : ” نحن فلان وأشقائه فلان وفلان ” ساردا الأسماء التي رفعت لمجلس السيادة “… وبقية الأحباب لا نقبل بغير مرشحي قوى الثورة ونموت وتقطع أوصالنا ونوضع في المنجنيق في سبيل ذلك.. لكل حادث حديث.. نحن والله نشتاق الى الموت … و البلاقيك مشمر لاقيهو عريان ” .!!!
هذه جرأة غريبة وخروج غير مقبول على تقاليد وآداب وضوابط مهنة القضاء، وإذا كان مثل هذا الكلام يصدر عن قاض بيده كلمة العدل التي تفصل بين الناس فيما يمس أنفسهم وأموالهم، فهذا يدل علي أننا في أمس الحاجة للجلوس وإلتقاط الأنفاس والتفكير بروية في كيفية الخروج من هذه الأزمة الخطيرة التي نمر بها وهي لا شك جزء من تجليات “أزمة المفاهيم”.
ثم في إطار ذات الأزمة ” أزمة المفاهيم ” يأتى البيان الذي أصدره الأستاذ المحترم علي قيلوب يستنكر فيه قرار التنقلات الأخير الصادر من سعادة نائب رئيس القضاء، وهو بالتأكيد بيان متعجل وغير موفق، وغير مستساغ لكون صاحبه هو رئيس اللجنة التسييرية لنقابة المحامين وعضو مفوضية الخدمة القضائية، فقد كان من السهل عليه أن يعلم خلفيات ذلك القرار ولو علم لما أصدر بيانه الغريب هذا …
ثم نلاحظ حتى نحن “بعض” الذين نتحدث بإسم الثورة، واقع حالنا يكشف عن ان ما تعرضنا له خلال سنوات الإنقاذ من إستبداد وقهر وظلم وحرمان وتهميش ومحاربة في الأرزاق، قد أثر على الكثير من القيم والمفاهيم التي جبلنا عليها، فأصبح مفهوم التمكين عندنا يختلف بإختلاف من هو المتمكن ومفهوم الفساد عندنا يختلف بإختلاف من هو الفاسد، …ننتقد الإنقاذ ونمارس ذات السلوك والمفاهيم التي عرفتها الانقاذ.! بل نمضي أكثر ونلوم من ينتقد سلوكنا علنا، بأنه كان عليه الصمت حتى لا يشمت فينا الغير ..!!
نحن في حاجة ماسة لنقد الذات، والتخلص من الإزدواجية والمكابرة وحب النفس وضيق الصدر والإنطباعية والتمسك بالرأي وحب الإنتقام والسعي لإفشال الآخر .
ثم ، ومن بعد ذلك ، نحن في حاجة ماسة لميثاق يحكم سلوك من يتصدي للشأن العام، ليكون من حق أي منا تبني وجهة نظر في مسألة معينة، يطرحها بتواضع ويستمع للرأي الآخر لعله أكثر وجاهة، لا أن يصم أذنيه ويدمغ من يخالفه الرأي بما يشاء من قبيح الأوصاف.
ليس من حق أحد أن يلبس نفسه وشاح الثورة ويوزع صكوك الوطنية على من يشاء ويخون من يشاء، فوشاح الثورة وصك الوطنية لا تملكه جهة بعينها يحتكم إليها، …. المطلوب فقط أن نستفتي قلوبنا وأن نتقي الله في أنفسنا وغيرنا وأن ندلي بآرائنا دون حجر لآراء الآخرين، مع إحسان الظن بهم.
نحن جميعا متفقون بأن إصلاح حال الأجهزة العدلية وعلى رأسها القضاء، هو المدخل للكثير من الإصلاحات المطلوبة، بالتالي لا بد من نظرة موضوعية في كيفية إحداث الإصلاح، وهذه الموضوعية لن تتوافر إلا بتوافر الآلية الصحيحة ليتم الإصلاح بنظرة متأملة ومتأنية في إطار إعادة بناء كل المنظومة العدلية، وفاء بما نصت عليه الوثيقة الدستورية، ويشمل ذلك كافة الجوانب المتعلقة بالكوادر والأجسام المؤسسية والقوانين ذات الصلة.
لقد أبدينا وأعلنا رأينا، الذي جاء مخالفا لرأي من ينادي بإزالة التمكين في القضائية بواسطة لجنة التفكيك، ليس لسبب إلا لأن تلك اللجنة يجب أن تعمل فقط في المهمة الموكلة إليها في حدود ما عنته الوثيقة الدستورية، ولأن القضاء جسم حساس و مستقل وجب أن تعالج أموره بوسيلة وبأسس مختلفة، لا تزرع الخوف والشتات وسط القضاة أوتزيل ما ينبغي لهم من هيبة، فكل الدول تحرص بأن يكون القاضي هو سيد المجتمع ومحل إحترام وتقدير الجميع، ليظل مؤتمنا على الأنفس والأموال.
وللأسف نتج عن تدخل لجنة التفكيك في القضاء أن أصبح حاله أسوأ مما كان عليه في عهد الإنقاذ.
ختاما،، مهما كان من أمر المفاهيم والسلوك فهي لا ولن تنسب إلا لأصحابها، أما الثورة فستمضي نحو تحقيق غاياتها، وسيزال التمكين وستتم عملية إعادة بناء وإصلاح كل المنظومة العدلية والحقوقية، وسيتحقق استقلال القضاء وسيتم الإنتقال الديمقراطي الآمن بإذن الله وعزيمة وتضحيات هذا الشعب الذي يستحق كل الخير ،… فقط يتوجب علينا أن نتمسك بمحاسبة كل من يتدثر بثياب الثورة، أو يرتدي وشاحها بغير حق، ويمارس فعل أهل الإنقاذ..
سبحان الله ! السودان لا ينقصه العلماء واصحاب العقل الرشيد ويحكمه المجرمين والاغبياء ، لا حول ولا قوة الا بالله .