
السجل الصحفي، أو ما يعرف في السودان بـ(القيد الصحفي)، هو سجل تحتفظ به الجهات الرسمية المنظمة لقطاع الصحافة يحوي أسماء الصحافيين المرخص لهم بمزاولة المهنة، بعد اجتياز امتحان معين. كان الامتحان ينظمه المجلس القومي للصحافة والمطبوعات، وتحول في فترة من الفترات إلى الاتحاد العام للصحافيين السودانيين. لن نخوض كثيراً في الحديث عن الجهة التي تنظم الامتحان او التي تحتفظ بالسجل الصحفي، لأن جوهر هذا المقال يتأسس على تساؤل حول مدى مشروعية السجل نفسه من منظور حقوق الإنسان والقانون الدولي؟، وما جدواه، طالما كنا نصبو لصحافة حرة وقوانين تكفل ممارسة حرية الصحافة؟.
سجل الصحافيين (القيد الصحفي) وإنتهاك حرية التعبير:
لكي نتمكن من النظر في مسألة سجل الصحافيين بصورة موضوعية، يجب أولاً أن نجد تعريفاً عادلاً ومهنياً لمن هم الصحافيون الذين تسعى السلطة السياسية (او جهة أخرى تمثلها) لتسجيلهم؟.
في العادة يتم تعريف الصحافيين من خلال وظيفتهم وطبيعة خدمتهم. وفقاً للمُقرّر الخاص المعني بتعزيز وحماية الحق في حرية الرأي والتعبير التابع للأمم المتحدة، فإن “الصحافيون هم الأفراد الذين يراقبون ويصفون الأحداث، والوثائق، والتحليلات، والسياسات، والتصريحات، وأي اقترحات يمكن أن تؤثر في المجتمع بغية وضع هذه المعلومات في إطار منظم وجمع الوقائع والتحليلات لإعلام فئة محددة من المجتمع أو المجتمع بأكمله”. وبالتالي فإن هذا التعريف يشمل: الإعلاميين وسائر العاملين في وسائل الإعلام، وموظفي وسائل الإعلام في كل البلد، كما يشمل (الصحفيين المواطنين) الذين ينطلقون من المنصات الإلكترونية، ويقومون بالمهام المذكورة أعلاه.
علاوة على هذا التعريف الذي قدمه المقرر الخاص المعني بحرية التعبير ، فقد اعتمدت لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، أيضاً، تعريفاً عملياً لمهنة الصحفي، فقد أوردت اللجنة في أحد تقاريرها ان “…والصحافة مهنة تتقاسمها طائفة واسعة من الجهات الفاعلة، بمن فيها المراسلون والمحللون المحترفون والمتفرغون فضلاً عن أصحاب المدوَّنات الإلكترونية وغيرهم ممن يشاركون في أشكال النشر الذاتي المطبوع أو على شبكة الإنترنت أو في مواضع أخرى” ، ووفقاً لهذا التعريف، فإن أي نظام لمنح التراخيص، أو التسجيل الإلزامي للصحافيين يُعتبر غير شرعي بموجب القانون الدولي.
وقد أشارت لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة صراحةً إلى أن: “النظم الحكومية العامة لتسجيل الصحافيين أو الترخيص لهم تتعارض مع الفقرة 3 من المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية”.
وفي سابقة قانونية يُعتد بها، فقد قدمت محكمة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان رأياً إستشارياً مهماً في مسألة تتعلق بشرعية نظام التسجيل الإلزامي للصحافيين (في العام 1985م)، فقد كانت حكومة (كوستاريكا) تتبنى نظاماً يُلزَم الصحافيون بموجبه بالانتماء إلى رابطة محددة تفرض عليهم شروطاً تتعلق، على سبيل المثال، بسنّهم ومستواهم التعليمي. وكانت الحكومة المعنية (كوستاريكا) ترى أنه “من الشرعي أن يُفرَض على الصحافيين الانتماء إلى رابطة، وقدمت ثلاثة أسباب لذلك، وهي :
– أولاً : لأن التسجيل يُمثل الطريقة “الاعتيادية” لتنظيم المهن؛
– ثانياً: لأن الهدف المقصود من السجل كان النهوض بالمستوى المهني والأخلاقي على نحو يعود بالفائدة على المجتمع في مجمله ويضمن حق الجمهور في تلقي معلومات أكمل وأكثر تطابقاً مع الحقيقة؛
– ثالثاً : لأن نظام منح التراخيص يُفيد في ضمان استقلال الصحافيين تجاه الجهات التي تُوظّفهم.
ويمكن تبرير هذه الأسباب الثلاثة واعتبارها ضرورية لحماية النظام العام بمفهومه العام المتمثل في (الظروف التي تضمن سير عمل المؤسسات على نحو طبيعي ومنسجم استناداً إلى نظام مترابط من القيم والمبادئ ).
ذكرت محكمة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان في ردها على حكومة كوستاريكا، أن النظام العام يستفيد من حماية حرية تداول المعلومات والأفكار أكثر مما يستفيد من مراقبة مهنة الصحافي، وأوردت نصاً: “تُمثل حرية التعبير العنصر الرئيسي والأساسي في النظام العام ضمن المجتمع الديمقراطي، الذي لا يمكن تصوّره من دون حرية المناقشة ومن دون منح الأصوات المعارضة إمكانية الوصول إلى أسماع الناس بلا عوائق … وتتحقق أيضاً مصلحة النظام العام الديمقراطي المتأصل في الاتفاقية الأمريكية لحقوق الانسان من خلال الاحترام التام لحق كل فرد في التعبير بحرية وحق المجتمع بأكمله في تلقي المعلومات”.
ولدى النظر في الحجة الأولى، التي قدمتها حكومة كوستاريكا، وهي (أن التسجيل يُمثل الطريقة “الاعتيادية” لتنظيم المهن)؛ ميّزت المحكمة بين مهنة الصحافة والمهن الأخرى، إذ أشارت إلى ما يلي: ” تقتضي مهنة الصحافي – الطبيعة ذاتها لما يقوم به الصحافيون – على وجه التحديد التماس المعلومات وتلقيها ونشرها. ومن ثَمَّ فإن ممارسة الصحافة تتطلب من الفرد أن يُكرِّس اهتمامه لأنشطة تُعرِّف حرية التعبير التي تضمنها الاتفاقية (الأمريكية لحقوق الإنسان) أو تندرج في حرية التعبير هذه. […] ولا ينطبق ذلك، على سبيل المثال، على ممارسة مهنة المحاماة أو مهنة الطب – أي الأنشطة التي يزاولها المحامون والأطباء – لأنهما لا تمثلان نشاطاً تضمنه الاتفاقية على وجه التحديد. […] ولذا فقد استنتجت المحكمة أن الأسباب المتعلقة بالنظام العام والتي يمكن أن تكون صالحة لتبرير منح ترخيص في إطار مهن أخرى، لا يجوز الاستناد إليها في حالة مهنة الصحافي لأن ذلك سيؤدي إلى حرمان دائم لأولئك الذين لا ينتمون إلى هذه المهنة من حقهم في الانتفاع التام [بالحق في حرية التعبير] ورفضت المحكمة أيضاً الحجة القائلة بأن نُظم منح التراخيص ضرورية لضمان حق الجمهور في الحصول على معلومات، من خلال غربلة واستبعاد الصحافيين السيئين ووضع قواعد مهنية صارمة، من بين أشياء أخرى، لأن هذا النظام يمكن أن يترك الباب مفتوحاً للتجاوزات.
وركّزت المحكمة اهتمامها في المقابل على ضرورة الحصول على أكبر كمية ممكنة من المعلومات أكثر من التركيز على ضرورة ممارسة رقابة على هذه المعلومات.
ثم وجَّهت المحكمة اهتمامها إلى الحجة القائلة بأن نظام منح التراخيص يدعم الرابطة، مما يؤدي إلى تعزيز المهنة والإسهام في حماية الصحافيين من خلال مساعدتهم على الدفاع عن حقوقهم أمام الجهات التي تُوظّفهم. ورأت المحكمة أن هذا الهدف يمكن أن يتحقق بفضل وسائل أقل إثارة للاستياء وأنه لم يتم الوفاء بشروط الاختبار الثلاثي- المتضمن في القانون الدولي- والمتعلق بالقيود التي يمكن فرضها على حرية التعبير.
وتعتبر هذه السابقة التي أرستها المحكمة الامريكية لحقوق الانسان من السوابق المهمة في سياق بحث مدى مشروعية نظام تسجيل الصحافيين من وجهة نظر القانون الدولي.
وهنالك مسالة أخرى تطرأ في سياق تناول مسألة سجل الصحافيين (القيد الصحفي) أو نظام تسجيل الصحافيين، وهي الإمتيازات التي توفرها بطاقة الصحفي المسجل. وهنا يجب النظر إلى ان اي نظام لتسجيل الصحافيين، يهدف إلى توفير أو منح امتيازات معينة للصحافيين المسجلين، إنما هو هدم لأحد أهم أعمدة الديمقراطية، وهو الحق في الحصول على المعلومات، فلا ديمقراطية بلا حرية تعبير، ولا حرية تعبير بلا ضمانات وافية لحق الحصول على المعلومات. إذ ” تُمثل حرية تداول المعلومات حقاً أساسياً من حقوق الإنسان وحجر الزاوية لكل الحريات الأخرى…”.
إن نظام تسجيل الصحافيين الذي يوفر امتيازات معينة للصحافيين المسجلين، يؤدي في نهاية المطاف إلى حرمان الصحافيين غير المسجلين من حقهم في الحصول على المعلومات، وحرمانهم من حقهم في التعبير، وبالتالي يقود إلى تقويض أسس الديمقراطية. لذلك فإن مناهضة نظام تسجيل الصحافيين، ومناهضة القيود المفروضة على ممارسة مهنة الصحافة هو في جوهره دفاع عن قيم الديمقراطية، وبناء على ذلك فإن المنطق القائل بأن البلاد تمر بوضع استثنائي (مرحلة انتقال) تتطلب “معالجات استثنائية” هو منطق مردود عليه بعبارة بسيطة وهي أن مراحل الإنتقال يجب أن تؤسس لوضع ديمقراطي حقيقي، وإن اي معالجات “استثنائية” من شأنها أن تشوه عملية الإنتقال.
هنالك مسألة ثالثة تطرأ هنا، وهي مسألة الإعتراف بالوضع القانوني للصحافي. ويمكن النظر إليها في سياق الغرض من تسجيل الصحافيين، وكيفيته. فإذا كان الغرض من تسجيل الصحافيين هو خلق وتقنين امتيازات لفئة معينة الصحافيين “المسجلين”، فهذا أمر مرفوض، ومتعارض مع مبدأ حرية التعبير. أما إذا كان الغرض هو تنظيم ذاتي للصحافيين أو تسهيل انعقاد جمعية عمومية لبعض رابطات الصحافيين فهذه ممارسة معترف بها، شريطة ألا تكون إلزامية، وألا تخلق وضعاً تمييزاً .
بينت الممارسات في عدد من البلدان، انه من الضروري الاعتراف لبعض الأفراد التمتع بالوضع القانوني للصحافي تحقيقاً لهدف محدد، مثلاً إمكانية دخول قاعة محكمة، أو الدخول إلى البرلمان ، أو حضور مؤتمر صحفي أو نقل معلومات إلى الجمهور …
وجرى حل هذه المشكلة في العديد من النظم الديمقراطية من خلال الاستعانة بنظام للاعتماد يُستند إليه في الاعتراف بشرعية بعض رابطات الصحفيين، وبذلك يصبح أعضاء هذه الرابطات معتمدين من خلال الاعتراف بالبطاقات الصحفية التي تمنحها هذه الرابطات. وهناك نظم مختلفة لتحديد الرابطات الشرعية والرابطات غير الشرعية.
وعلى سبيل المثال، اجتمعت مختلف روابط الصحافيين في المملكة المتحدة، ووضعت عملية للتصديق الذاتي (أي نابعة من الصحافيين أنفسهم) تعترف بها قوات حفظ النظام.
وفي حالات أخرى، تقوم القوات النظامية التي تمنح أذونات الدخول إلى امكان معينة (مثل قاعة المحكمة) بالاعتراف بمختلف الرابطات. ومن المهم جداً في هذه الحالة أن تؤدي القوات النظامية هذه المهمة على نحو عادل وموضوعي لكي تكون إجراءات الاختيار خالية من التمييز ضد بعض الرابطات. ويترك ذلك للصحفيين حرية تنظيم أنفسهم، كما يتيح للسلطات حماية حرية تداول المعلومات الموجهة إلى الصحفيين الذين يصبحون بدورهم قادرين على نقل هذه المعلومات إلى الجمهور.
وفي بعض الحالات التي تتعلق مثلاً بالبرلمان أو بالمحاكم، قد يكون هناك نظم خاصة بمنح الاعتماد من أجل الحرص على تمكين الصحفيين الذين يُغطون، بإنتظام، هذا النوع من الأحداث من الدخول إلى مكان الحدث. ففي بعض البلدان، يضع البرلمان بعض الوسائل كالانتفاع بالإنترنت أو حتى أحد المكاتب في تصرف الصحفيين المعتمدين.
ومن المهم هنا أن نشير إلى أن الهدف من هذه النُظم ليس الاعتراف بحقوق خاصة أو بامتيازات لبعض أفراد المجتمع (أي للصحفيين)، وإنما الهدف هو ضمان حرية تداول المعلومات الموجهة إلى الجمهور. وبعبارة أخرى، إن ما يحظى بالحماية في هذه الحالة هو بالتحديد حرية تداول المعلومات الصادرة عن هذه الأماكن الهامة والموجهة إلى الجمهور، وليس منح الصحفيين نوعاً من الحقوق الخاصة او الامتيازات.
ولكن حتى نظم الاعتماد يجب أن تراعي بعض القواعد المحددة، كما تعلن ذلك لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة: “ولا يُسمح بنظم الاعتماد المقيَّد إلا عندما تكون هناك ضرورة لمنح الصحافيين امتيازاً للوصول إلى أماكن و/ أو مناسبات معيّنة. وينبغي أن تُطبَّق هذه النظم بطريقة غير تمييزية ومتلائمة مع المادة 19 ومع الأحكام الأخرى للعهد على أساس معايير موضوعية وبمراعاة أن الصحافة مهنة تتشارك فيها طائفة واسعة من الجهات الفاعلة ” . أي انه حتى عندما يوفر نظام الاعتماد امتيازاً معيناً يجب ألا يكون هذا الإمتياز محصوراً على فئة معينة. كما يجب ألا تتدخل الجهات الرسمية في نظام الاعتماد. وفي بلدان، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، أرسى الصحافيون من تلقاء أنفسهم نظام اعتماد نموذجي للممارسة الجيدة، إذ يشرف على نظام الإعتماد لدى الجمعية التشريعية، لجنة دائمة للمراسلين، يُنتخب أعضاؤها من بين الصحافيين المعتمدين مسبقاً، ومدة دورة اللجنة سنتين، وعلى الصحافيين الراغبين في الحصول على اعتماد أن يودعوا طلباً لدى اللجنة. وهنالك ثلاثة أنواع من الاعتمادات او تصاريح المرور لوسائل الإعلام تتيح دخول الصحافيين إلى مجلس النواب ومجلس الشيوخ، وهي: ( 1) تصريح المرور اليومي؛ ( 2) وتصريح المرور المؤقت؛ ( 3) وتصريح المرور الدائم.
نظام تسجيل الصحافيين في التشريعات الإعلامية في السودان:
من المعروف إن أول قانون للصحافة في السودان، صدر في العام 1930م، أي في فترة الحكم الإستعماري، وقد صدر القانون بتوقيع نائب الحاكم العام، ونصت المادة (3) من القانون المتعلقة بـ( وجوب الترخيص للصحف بواسطة السكرتير الإداري)، على أنه “لا يجوز نشر جريدة تشمل أخبار عامة أو تعليقات على أخبار عامة سواء أكانت تصدر بانتظام أو بغير انتظام إلا بمقتضى رخصة يصدرها السكرتير الإداري ، ويبين في الرخصة اسم الجريدة، وصاحبها ، وطابعها وناشرها، ومحررها أو محرريها …”. كما نصت المادة (5) من القانون على “كل شخص يكون بالفعل مالكاً أو شريكاً أو ناشراً أو طابعاً أو محرراً في جريدة مرخص لها … يجب أن يتحقق من تدوين اسمه كاملاً”.
كانت هذه بداية التقنين لنظام التسجيل في التشريعات المحلية، ومن المهم هنا الإشارة إلى ان قانون الصحافة لسنة 1930م، الذي أصدره المستعمر، قد صدر في ظروف تنامي حركة المقاومة الوطنية المناهضة للإستعمار، وبعد مرور ست سنوات فقط على إندلاع ثورة 1924م. وقد كان الهدف من القانون هو تكميم الأفواه المناهضة للإستعمار والناقدة لسياساته، وقد كانت صحافة ما قبل 1924م في طابعها الأعم إما صحافة أدبية، أو صحافة أجنبية أسسها المستعمر لخدمة أغراضه، أو صحافة وطنية متماهية مع سياسات المستعمر. ولكن بعد ثورة 1924م، حدث تحول في بنية وطبيعة الصحافة، وهو ما جعل المستعمر يستعجل إصدار قانون الصحافة لسنة 1930م، المعيب شكلاً ومضموناً.
عندما نال السودان إستقلاله، لم يتم إنهاء الإستعمار بصورة كاملة، فقد تم إنهاء الإستعمار على المستوى السياسي (أي ان البلاد نالت إستقلالها وحصلت على حكم وطني مستقل)، ولكن لم تتخلص من التداعيات والتبعات والآثار الإستعمارية الرهيبة على مستوى التشريعات، خاصة التشريعات الإعلامية، ومن المثير للسخرية ان جوهر القيود المفروضة على حرية الصحافة والتعبير التي أسس لها المستعمر في قانون الصحافة لسنة 1930م، بغرض تكميم أفواه أصوات المقاومة، ظلت سارية إلى يوم الناس هذا!.
توارثت أنظمة الحكم الوطنية، التشريعات الإعلامية من المستعمر، وأضافت عليها المزيد من القيود والكوابح.
جرى أول تعديل وطني لقانون الصحافة والمطبوعات لسنة 1930م، في العام 1965م، وتضمن هذا التعديل، نصاً صريحاً على تقنين نظام تسجيل الصحافيين، ومنح المسجلين منهم امتيازات معنية. وقد نصت المادة (7) البند (ه) من لائحة المطبوعات (تعديل) لسنة 1965م، على الآتي: “تشكيل لجنة لتسجيل الصحفيين ومنح المسجلين منهم البطاقة المهنية اللازمة لممارسة العمل الصحفي”. وهو نص مستمد من جوهر القيود التشريعية التي وضعها المستعمر لكبح أصوات الصحافة الناقدة. وظل هذا النص المقيد متواتراً (مع بعض التحوير) في كل قانون جديد للصحافة يصدر في السودان، منذ ذلك الوقت وحتى قانون 2009م، الساري الآن.
ومن المؤسف أن مشروع قانون الصحافة والمطبوعات لسنة 2021م، الذي طرحته وزارة الثقافة والإعلام اليوم الاثنين 2 أغسطس 2021م، قد حوى نصاً يتضمن إلزام الصحافيين بالتسجيل في القيد الصحفي!!!.
في العام 1973م، صدر أول قانون للصحافة (في ظل حكومة وطنية) وذلك في أعقاب إستيلاء نظام مايو على الحكم في البلاد عبر إنقلاب عسكري، تضمن القانون الجديد نصاً مماثلاً للقوانين السابقة له في مسألة تسجيل الصحافيين، ونصت المادة (7) ، البند (4) من قانون الصحافة والمطبوعات لسنة 1973م، على الآتي: ” تعيين لجنة لقيد الصحفيين ووضع لائحة تنظم أعمالها وتحدد الشروط الواجب توفرها في الصحفي”. ظل هذا القانون المعيب سارياً حتى العام 1993م، حيث جرى إصدار قانون جديد للصحافة في ظل نظام الإنقاذ البائد، تضمن القانون النص نفسه، مع بعض التحوير، إذ نصت المادة (24) البند (ط)، من قانون الصحافة والمطبوعات لسنة 1993م، على الآتي: ” إنشاء سجل للصحافيين وتشكيل لجنة لتسجيلهم ومنح البطاقة الصحفية اللازمة لممارسة العمل الصحفي”.
في العام 2005م، وفي أعقاب توقيع “اتفاق السلام الشامل” بين الحكومة السودانية (نظام الإنقاذ) والحركة الشعبية لتحرير السودان بزعامة جون قرنق ، شاركت الحركة الشعبية وحلفائها من أحزاب المعارضة في البرلمان. بوصول المعارضة إلى قبة البرلمان تفاءل الصحافيون السودانيون بأن الوضع الجديد سؤسس لقليل من الإنفتاح السياسي، وفتح الصحافيون نقاشاً مهماً حول إصدار قانون جديد للصحافة في ظل الوضع الجديد الذي تميز بقليل من الإنفتاح السياسي، من المفارقة ان القانون الجديد الذي صدر في العام 2009م، تضمن نصاً مماثلاً للنص “الإستعماري” حول تسجيل الصحافيين!، وقد نص الفصل الخامس من قانون الصحافة والمطبوعات لسنة 2009م، المادة (23)، المتلعقة بـ(شروط العمل بمهنة الصحافة)، على انه: ” یشترط في الصحفي قبل ممارسة المهنة أن یكون مسجلاً في سجل الصحافیین لدى الإتحاد العام للصحفیین السودانیین”.
هذا الإستعراض السريع، لتأريخ نظام تسجيل الصحافيين في التشريعات الاعلامية في السودان، يبين التركة التي يجب علينا مناهضتها من أجل الوصول لصحافة حرة تعبر عن إرادة الصحافيين الأحرار، وتخدم الجمهور المتعطش إلى المعلومات والمعرفة. هذه هي تركة الحكم الإستعماري، والحكومات العسكرية المستبدة، والحكومات المدنية الضعيفة، يجب أن نناهضها من أجل مستقبل الصحافة الحرة في بلادنا.
_____
* عبدالقادر محمد عبدالقادر/جامعة الخرطوم، صحافي، مستشار إعلامي، باحث في مجال حرية التعبير وحقوق الإنسان.
المصادر:-
– دليل اليونسكو حول حفظ النظام واحترام حرية التعبير، تونس ، 2014 م.
– ورقة بحثية غير منشورة، حول تأريخ التشريعات الاعلامية في السودان، عبدالقادر محمد عبدالقادر.