جرجير (ود الناير)

يحيى فضل الله
استراتيجية حاذقة تلك التي مكنت (ود الناير) من المحافظة على مبلغ – 75 جنيهاً – للخروج بها غداً،لابد من خطة لمواجهة الجمعة، مساء اليوم الخميس عاد (ودالناير) مع الغروب إلى البيت، منتصراً على زحام المواصلات،محتشداً بفراغ أسري كبير، يعرف أنه سيحدق في النجوم بينما صوت الراديو يأتي من هناك، من بعيد تضج فيه الأحداث وتتمايز فيه الأغنيات. يظل ذلك الراديو يثرثر حتى يغفو (ود الناير) مستمتعاً وهو يحاول أن يتذكر ملامح (الناير)ابنه الصغير،يحس بالندم لأنه لم يحفظ تلك الملامح في صورة فتوغرافية.
اشترى (ود الناير) طعمية بـ 50 جنيهاً ورغيفتين لينتهي إلى هذا الحد الأمر، دخل البيت، أحكم إغلاق الماسورة بعد أن ربطها بحبل ووضع كيس الطعمية على منضدة بثلاثة أرجل لذلك هي تتكئ على حائط الجالوص، فتح الغرفة، بحث عن الراديو،أخرج مرتبة جاهزة للحمل بينما كانت موسيقى مجلة المساء تنبعث من الراديو، شرب كوباً كبيراً من ماء الزير أخذ الراديو ووضعه على تلك المنضدة، قذف بنفسه على السرير، حاول أن يتمدد تراجع عن ذلك، هب واقفاً، تناول جك البلاستيك واتجه نحو حوض الجرجير الذي زرعه بحرفة مزارع قديم،أحس بالانتعاش حين بدأ الجرجير يعلن رائحته النفاذة، جمع كمية لا بأس بها ووضعها داخل الجك،اتجه نحو الماسورة، أحس بأن أمرها قد يطول، صب على الجك كم كوب من ماء الزير، غسل قطعاً من الجرجير ومضغها بإلفة قديمة، تمدد على السرير، تناول الراديو، بدأ يبحث عن صوت العرب وسط تزاحم المحطات جذبته موسيقى صاخبة استراح المؤشر وقذف ود الناير بنظره إلى السماء. قرر أن يبحث عن (العنقريب) وسط النجوم الكثيرة المتناثرة مستغلاً عذوبة الموسيقى، حين توغل بعيداً في ذاكرته أحس بأن الراديو يتحدث إليه بالفرنسية، عاد مؤشر الراديو إلى أمدرمان وهنا قرر (ود الناير) أن يسترخي على أصوات تألفه ويألفها على الأقل أن ملامح (الناير) الصغير تنسجم مع هذه الأصوات تذكر أمراًآخر، هب من رقدته دخل الغرفة، فتح الدولاب،أخرج بروازاً صغيراً،خرج من الغرفة. أضاء البرندة نظر إلى صورة (أم النفل) زوجته، بحث عن ملامح (الناير) فيها، امتلأ بالصورة، خزنها بين أنسجة الذاكرة، عاد إلى السرير وهو ينظر إلى السماء وحاول أن يستعذب هذه الأغنية:
(قلنا ليك طلي
وحي لو أمكن
قلتي لا لا
في الربيع أحسن
الربيع أهو فات
وحزنت الساحات
وإنتي ماجيتي
يا النسيتينا
وقلتي ما نسيتي).
لم يتمكن ود الناير من قذف نظره إلى السماء لأن الباب قد طرق، بحيوية كل الترحاب، اتجه نحو الباب صائحاً:(اتفضل مرحب)،ضجة من السلام، صرخات لأشواق قديمة، يدخل (ود الناير) ضيوفه الخمسة إلى الداخل، يتهيأ المكان وسط كلمات الترحاب التي يستمر (ود الناير) في ترديدها، يتحرك نحو الزير ويأتي منه محاولاً أن يسقي كل الضيوف بالكوب الوحيد، يقذف بمخدة إلى هذا، لا يكف مطلقاً عن ترديد كلمات الترحاب،استراح الضيوف الخمسة، بدأ الهمس بينهم، (ود الناير) يجلس ويقف ويدخل الغرفة ويخرج وهو يحس بالحرج،يقلب في ذهنه احتمالات أن يستدين لكن مِن مَنْ؟، كل الدكاكين مغلقة في وجهه،استطاع ود الناير أن يحافظ على شارع وحيد داخل الحي يستطيع أن يدخل ويخرج به هارباً من نظرات أصحاب الدكاكين.
(ود الناير)
(أيوه يا مرحب)
(قلت ليك، الحلة كيف؟)
(من ياتو ناحية)
(بالنسبة للخندريس وكده)
(ما في مشكلة بتلقي)
(سمح كدي أنت أقعد يا ود الناير)
بحيوية تدخل الأكف في الجيوب وتخرج الأوراق النقدية،تتجمع في يد (عظمة) الذي يتمتع بمركز قيادي في الشلة ويتذوق معنى العظمة حين ينادى بها، (ود الناير) يحس بالحرج، يدخل كفه في جيبه ليخرجها فارغة يتكاثف فيه الحرج فيعلن موقفه
(معليش يا أخوانا والله مقشط)
(ولا يهمك يا ود الناير الحالة واحدة)
تجمعت العملة الورقية بمختلف ألوانها وقيمتها في يد (عظمة) من فئة المائة جنيه إلى 250 جنيهاً انتهاءً إلى500 جنيه، رزمة من النقود، باحثاً عن قرار الجماعة قال (عظمة).
(أه يا أخوانا نجيب كم حبة؟)
(القروش عملت كم؟)
(عملت خمسة آلاف جنيه)
(خلاص جيب بيها كلها)
(أقول ليكم قولة؟نعملها ستة آلاف عشان نجيب خمس حبات)
أثناء حوارهم كان (ود الناير) قد احتله التردد، لاحظ أنهم لم يفكروا في أمر العشاء كان يحاول أن يذكرهم بالأمر ويمنعه الحرج، أخيراً حسم أمر التردد وببقية من حرج قال لهم:
(يا أخوانا ما كدي نفكر في العشاء)
واختلفت الشلة في أمر العشاء، لم يمتلك (ود الناير) إزاء هذا الاختلاف إلا صمته، ابتعد عنهم متابعاً الراديو، محاولاً أن يدعي الاهتمام وأخيراً حسم (عظمة)الأمر..(يا جماعة ده لت وعجن ساكت).
وخرج لإكمال مهمته وتناثر في الحوش الحديث واختلف واختلط بأصوات الراديو، تفاصيل عوالم المهن تتصارع ولكن يبدو أن عالم السماسرة أصحاب اللت والعجن والحياديون الذين لهم حق التدخل في كل الشؤون هو المسيطر،وسطاء حقيقيون ينحرفون عن عوالمهم متحدثين إلى درجة الصراخ حول مباريات كرة القدم، يهرب (ود الناير) من كل تلك الضجة التي أمامه مهموماً بأمر العشاء، ينتبه إلى نفسه يحاول أن يرجع إليهم يجدهم مشغولين عنه، لا يحسون حتى بوجوده، دارت كأسات النشوة ودارت معها هموم وأحزان وأفراح،إشكالات صغيرة تتضخم، أبعد من أي انسجام كانوا يمارسون هذيانهم.
يستغرق(عظمة) في حالات عاطفية، يعلن (عبد الستار) حلمه بالتجارة في العملة الصعبة ويصرخ في وجه الجميع بعظمة الدولار،(شاكر) بدأت الأسئلة الصعبة تمتلكه فلا يملك إلا أن يرددها: (في شنوا يعني؟ عشان شنوا؟ ولي منو؟ وأنت ذاتك منو؟)..
كأنما تهرب منه الكلمات ما عدا تلك التي يستخدمها بتكرار عبثي،الراديو ينتقل من موضوع إلى موضوع، كل ما يستطيع أن يفعله (إدريس)هو أن يصمت ويشعل سيجارة وراء أخرى، لا زال (ود الناير) يتجادل مع حرجه،قرب للمجلس تلك المنضدة،عالج مشكلة الرجل المفقودة بعود، فتح كيس الطعمية والعيش، وزع قطع الطعمية عليهم بترحاب أليف:(أكلوا الطعمية دي يا أخوانا).
وانزوى بعدها حين أحس بأنهم قد يفهمون ما فعله هذا أنه حريص على العشاء أكثر منهم (عشاء شنو أنتو ما لكم دايرين تبقوا بطينين كده)، فتوارى بذلك الخجل المتوارث عند السودانيين في ممارسة أكل الطعام، ابتسم(ود الناير) وهو ينظر إلى (حامد) يرقص منتشياً مع أغنية (حسن عطية) التي انبعثت من الراديو، كان (حامد) يرقص بمتعة وشفافية عالية جذبت الجميع إليها، يرددون مع المغني هذا المقطع:
(الحجل بالرجل
سوقني معاك
سوقني معاك)
استغل (ود الناير) هذه الفرحة وانسحب خارجاً من البيت كان قد قرر أن يحسم الأمر اتجه نحو الطابونة كآخر احتمال، سأل عن (حسين) ابن صاحب الطابونة رحب به حسين:
(إزيك يا ود الناير، الأولاد بخير)
(الأولاد في البلد)
(يعني ما سافرت جبتهم؟)
(لسه والله يا حسين،أسمع معاي ضيوف وداير لي عشر عيشات، معليش ياحسين الحالة واقفة)
(جداً يا رجل ولا يهمك)
دخل (ود الناير) البيت ومعه خبز معقول، كان الجميع في الهذيان بما في ذلك الراديو وضع (ود الناير) الخبز داخل الغرفة،حمل جردل البلاستيك متوسط الحجم واتجه نحو حوض الجرجير،حصد كمية من الجرجير وضعها داخل الجردل، صب عليها الماء،غسل الجرجير جيداً بيديه، دخل الغرفة، بدأت عملية تحويل الخبز والجرجير إلى سندوتشات،لم ينس (ود الناير) أن يرش عليها ما يناسب من ملح،وضع السندوتشات على صينية قديمة ووضعها أمام أولئك السكارى البائسين،التهموا سندوتشات الجرجير بنهم غريب جعل (ود الناير) يتخلى عن ذلك الحرج،أصوات الأفواه وهي تمضغ شكلت معنى عبيثاً جداً حين تختلط بأصوات الراديو وبنشوة عارمة قال (حامد) لـ( ود الناير)
(الأكلة دي من وين يا ود الناير؟ متابع طبق اليوم ولا شنو؟)
ودوت ضحكة جماعية صاخبة ليعلن (عظمة) بفم محشو (تعرفوا يا أخوانا دي وجبة غذائية كاملة والجرجير بالمناسبة فيهو فيتامينات كثيرة من أهمها الحديد وديني وجبة ما سهلة)..حين خرج أولئك الخمسة من منزل ود الناير لم ينس (عظمة) أن يربت على جيبه متأكداً من وجود رزمة من الجنيهات، آسف، رزمة من الدينارات.
الديمقراطي