مقالات وآراء

عن ذاتِهِ، وعن الليل

شكري عبد القيوم

محاكمنا السودانية، وبعد الفراغ من قضية الإتهام، واستجواب المُتَّهم، إذا رأت المحكمة أن البينات المقدَّمة بواسطة الإتهام لا تُفْضي إلى إدانة المُتَّهَم، فإنَّها، وعلى الفور، تُقَرِّر شطب الدعوى الجنائية، وتأمُر باطلاق سراح المتهم ما لم يكن مطلوباً في اجراءات أُخْرَى. ويمكن للمحكمة أن تُوجِّه الشاكي للمحكمة أو الجهة التي تنعقد لها الاختصاص، أو إلى المسلك القانوني أو الإداري الواجب اتباعه إذا رغب. ويمكن للمحكمة أيضاً أن تأذن للمتهم، بناءً على طلبه، بفتح

اجراءات جنائية ضد الشاكي إذا كانت بيَّنة الإتهام ضعيفة على نحوٍ بَيِّن.

أمَّا إذا وجدت المحكمة أنَّ بيِّنة الإتهام تُبرِّر السير في المحاكمة، فإنَّها تصيغ صَكَّاً كما يلي: ( أنا القاضي فلان بن فلان. الدرجة كذا. أتَّهِمُك بأنَّك في أو حوالي يوم كذا شهر كذا سنة كذا، قُلتَ أو فعلتَ كذا. وهذا ما يجعلك عندي مخالفاً للمادة كذا من القانون كذا لسنة كذا. فهل أنتَ مُذْنِب ?). وهذا ما يُسَمَّى ب: ( توجيه التُهْمة).

في المحاكم البريطانية، حسب ما قرأتُ وأقرأ، وإن كانت الاجراءات مشابهة، إلا أنَّ هناك اختلاف في الصيغة، فهُم يكتبون بعد عبارة:( قُلتَ أو فعلتَ كذا)،، ( فإذا ثبت ذلك، فإنَّكَ مُذْنِب، وينبغي أن تُعاقَب وفقاً للقانون، لردع الآخَرِين عن ارتكاب جرائم مماثلة في كُلِّ زمانٍ آت.).

هذه الإضافة لدى البريطانيين تبدو بسيطة وتافهة، ولكنَّها في رأيي، عميقة تحفر في أساس مشروعية العقاب. وأن يكون العقاب وفقاً للقانون. وأن يكون القانون قد حدَّدَ سلفاً قبل وقوع المخالفة عقوبتَها. إضافةً إلى أن يكون الأصل في الحق في توقيع العقوبة واضِحاً. هذا من جهة.

من الجهة المُقابِلة، فإنَّ العبارة الإضافية في الصياغة البريطانية، تُعَلِّمُنا أوَّلاً، أن الغرض من توقيع العقاب مُوجَّه في جوهره نحو المستقبل، وليسَ إلى الماضي، بحيثُ لا يُتَصَوَّر نجاعة للعقوبة إلا كأداة ردع في المستقبل. والمبدأ هو أنَّ شخص رفضَ أن يُبَيّن الطريق الصحيح لعابر سبيل ضلَّ طريقَه لا يُعَد آثِماً، لكن إذا وجَّهَه إلى طريق خاطِئ، فإنَّه يكون قد ارتكب إثماً في حقه.

ومناسبة العقوبة للمخالفة هي ما تجعل الخوف منها دافعاً مضاداً ترجح كفَّتُه على كل الدوافع الممكنة لارتكاب المخالفة. وهي تتيح لنا، ثانِياً، أن نفهم ونستبصر ما يُمَيِّز العقاب عن القصاص، لأنَّ القصاص يكون مدفوعاً فقط بما حدث، يعني بالماضي في حد ذاته، وأنَّ كل معاقبة لأي مخالفة دونَ أن يكون هناك غرض يتعلَّق بالمستقبل، إنَّما هو ثأر أو قُلْ انتقام. والانتقام لا يمكن، في تصوُّري، أن يكون لهُ غرض سوى بعض العزاء عن ألَمٍ يكون قد كُوبِدَ، وذلك برؤية المعاناة لدى شخص آخر. وهذا نوع من السادِيَّة لا أظنها تليقُ بكرام الناس، ولا يمكن تبريرها أخلاقياً. فأن يرتكب أحد دناءةً في حقي، لا يُعطيني حقاً أو مُبَرِّراً أخلاقياً أن ارتكب دناءةً في حَقِّه، وإلا كُنْتُ دنيئاً مثلَه.
“شُكْرِي”

[email protected]

تعليق واحد

  1. يا شكري حسب ما علمناه منك أنك كنت تعمل موظفاً في وزارة العدل ككادر إداري وليس مستشاراً قانونياً وبحكم بيئة العمل القانوني اكتسبت شيئاً من الثقافة القانونية. لكن ليس لدرجة أن تفهم في فلسفة القانون jurisprudence وسياسة العدالة الجنائية والعقاب criminal justice & penal policy فهذه مفاهيم لابد لها من دراسة جامعية للقانون للإلمام بكل جوانب فلسفة القانون والعدالة الجنائية في التجربم والعقاب criminalisation & punishment وأغراضها المختلفة والمتنوعة. صحيح أن الردع deterrence من أغراض أو آثار العقوبة أو العقاب والردع المقصود قد يكون موجهاً لمرتكب الجريمة المحتمل أي لكل شخص حتى لا يفكر في مقاربة الجريمة وهذا الردع العام المسبق يتأتى من مجرد وجود القانون الجنائي ونصوصه التي تبين العقاب ونوع ومقدار العقوبة. وأما العقاب الذي يوقع فعلاً على الجاني بعد محاكمته ففيه نوعان من الردع: العام القبلي بسبب النص العقابي والبعدي الخاص بردع الجاني حتى لا يعود recede وكذلك الردع العام الموجه للآخرين وذلك باتخاذ الجاني عظة لهم فيتجنبوا مقارفة الجريمة أو يتخلوا عن فكرة أو خطة أو نية اقترافها ويعدلوا عنها فلا تقع منهم. إذن فالعقاب له غرض أو أثر خاص أو مباشر بألا يعود إلى جريمته وهذا هو الردع الخاص للجاني الذي ارتكب الجريمة بالفعل وهو بعدي أي ينتج من توقيع العقوبة وليس من مجرد النص الموجود بمواد القانون. ولا ينحصر الأثر الرادع للتوقيع الفعلي للعقوبة على المدان وحده وانما يشمل الآخرين الذين يفكرون في ارتكاب ذات الجريمة وذلك من اختيار القاضي للعقوبة الأشد أو الأخف وهذا هو الغرض من وجود حدين للعقوبة لتمكين القاضي من تفريد العقوبة بحسب وحشية الجاني وصحيفة سوابقه من عدمها. والعدالة الجنائية مختلفة الأنواع بحسب الأغراض فمنها الرادعة ومنها التعويضية لإزالة الضرر على الضحية أو تخفيفه restorative or redressive justice ومنها القصاص وهو لغة يعني المماثلة ولكنه لا يستلزم ذلك قانوناً كما فهم بعض الفقهاء بالمماثلة بأن يفعل بالجاني ذات الفعل الذي فعله ولكن المقصود هو إحداث نفس الأثر أو النتيجة فالقاتل فقط يقتل ولا يلزم قتله بذات الآلة أو الطريقة التي ارتكب بها القتل. وأظنك ياشكري لقطت هذا الفهم السلفي في معنى القصاص أن تفعل بالجاني نفس ما فعله بالضحية وثانيا لست أنت من تمارس القصاص بنفسك وإنما ولي الأمر هو الذي ينفذ نيابة عنك وعليه لا يتصور أنك تفعل بالقاتل نفس الفعل الذي فعله بالضحية حتى ازهق روحها. فليس لديك أي فرصة للانتقام من خلال طريقة القصاص والقانون هو الذي يحدد طريقة القصاص وكيفية استيفائه.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..