تأملات في نظام التعليم العام في السودان (1/2)

محمد الأمين أحمد التوم
كنت قد شاركت في يناير الماضي في منتدى التربية العالمي بلندن، وقدمت خلاله ملاحظات حول تحويل نظام التعليم في السودان ــ من نظام يخدم دولة مستبدة فاسدة ومفسدة، إلى نظام يساهم بفاعلية في بناء وطن ديمقراطي وينعم المواطنون فيه بالحرية والسلام والعدالة.
ركزت في إحدى ملاحظاتي على دور المعلم في إحداث هذا التحول المنشود، والأسئلة التي ظلت تؤرقني منذ ذلك الحين وحتى 29 يونيو 2020م هي:
كيف لي أن أتعرف على مجموعة المعلمين الذين يؤمنون بشدة بضرورة التغيير؟
وهل ثمة اتفاق بينهم حول طبيعة التغيير اللازم؟
وهل يدركون سبل إحداثه؟
دفعتني عظمة هذا “اليوم المشهود” لأعيد التفكير في هذه الأسئلة، وتذكرت فجأة أنني كنت قد قرأت قبل بضع سنوات مقالة لمعلمة أمريكية عنوانها: “نموذج المصنع مقابل نموذج التعليم في القرن الحادي والعشرين” (آن شو 2016م). ورغم أن المقالة ناقشت التعليم في الولايات المتحدة الأمريكية، بدا لي في مساء الثلاثين من يونيو 2020م، أن فكرتها الأساسية يمكن أن تشكل نقطة انطلاق لطرح فكرة التحول، ليس على المعلمين فحسب، بل على جميع المهتمين بقضايا التعليم في وطننا.
1. لا يزال التعليم اليوم، في معظم دول العالم، راسخاً في ما يطلق عليه غالباً “نموذج المصنع”، والذي تم تصميمه للثورة الصناعية (القرن التاسع عشر). لقد تم تعليم غالبية الأطفال في ذلك الوقت، بهدف إعدادهم للعمل في المصنع أو المزارع.
2. ماذا نجد في حجرات الدراسة اليوم؟ جدران عارية، وحدات إجلاس منتظمة في صفوف وطاولات عليها كتب محشوة بحقائق، يطلب من التلاميذ حفظها، ومعلم يقف أمام التلاميذ ويلقنهم ومن خلفه سبورة سوداء.
3. من المؤكد أنه لا توجد في حجرات الدراسة اليوم؟ أنشطة قائمة على المشاريع تتمحور حول المتعلم.
4. هل يتعلم التلاميذ في “مدارس المصنع”؟
يقول كثير من الباحثين: لا، ليس شيئاً يستحق الذكر. ولكي نفهم هذه الإجابة يلزمنا توضيح ما المقصود بالتعلُّم. وفقاً لبعض علماء النفس، هو العملية التي من خلالها تتسبب التجربة في إحداث تغيير دائم في المعرفة أو السلوك. لاحظوا أهمية خاصية الدوام هنا، فحفظ القصائد وكمية هائلة من الحقائق المعزولة لأغراض الامتحان تُنسى بعده لا تعتبر تعلُّماً. إن التعلُّم كتغيير دائم ليس من السهل أو الطبيعي تحقيقه.
5. تعاني مدارس الأساس بالسودان من ارتفاع نسب التسرب: بلغ معدل القبول الظاهري في عام 2017م نسبة 82%، بينما بلغت نسبة الإكمال 51%! نعلم أن الفقر يمثل أحد أهم العوامل التي تفسر هذه الظاهرة. لكن، هل يمكن أن تكون “المدرسة المصنع” عاملاً هاماً في فهم هذه الظاهرة؟
فالتلاميذ في القرن الحادي والعشرين قد يجدون هذه المدارس مملة ولا صلة لها بحياتهم.
6. لقد أصبحت هذه المدارس مصانع لإعداد الأطفال للامتحان. كما أصبحت وظيفة المعلم الأساسية هي التأكد من أن التلاميذ يحفظون أكبر قدر من الحقائق والمعلومات البالية، في أسرع وقت ممكن، مع أمل أن يتذكروا أكبر قدر منها للامتحان. وفي الأساس، نحن نطعم هؤلاء الأطفال قسراً أجزاء منفصلة من المعلومات، دون أي اعتبار لاهتماماتهم، ومهاراتهم، وتجاربهم، أو حتى حقيقة أنهم بشر وليسوا آلات.
7. لقد بدأ نموذج “مدرسة المصنع” عندما تبنت المدارس في الدول الصناعية الطريقة العلمية، التي دعا لها وسوقها فريدرك تيلور في دراسته: مبادئ الإدارة العلمية، التي نشرت عام 1911م. هل لدى أطفالنا أيّ خيار يتعلق بامتحانات معيارية؟ إن الامتحان، كما الإعداد له، مفروض عليهم. هل لاحظتم أبداً التعبيرات التي تظهر على وجوه الأطفال قبل الامتحان؟
8. تدلنا نظريات التعلُّم على أن التعلٌم الحقيقي ليس شيئاً نفعله للأطفال، بل عوضاً عن ذلك، إنه شيء يفعله الأطفال أنفسهم ـ من خلال التجربة والخطأ، والاستفسار، والربط بين التجارب السابقة. ووفق أبرز علماء التربية، أمثال بياجيه (Piaget)، ومنتيسوري ( (Montessori، وديوي (Dewey)، فإن التعلُّم تجريبي واستكشافي.
9. أكرر، إن حفظ كمية هائلة من المعلومات لا يشكل تعلُّماً. إضافة إلى ذلك، يمكن لأعداد مقدرة من أطفالنا في سن المدرسة الوصول بالفعل إلى حقائق مطلوبة من هواتفهم!
10. خلاصة: يعيش أطفالنا في القرن الحادي والعشرين، فلا يعقل أن نفرض عليهم التعلُّم، أو عدم التعلُّم، إن أردنا الدقة، من خلال نموذج عمره أكثر من مئة عام.
السؤال المطروح منطقياً: ما هو النموذج الذي يلائم زمانهم؟ وكيف نؤسسه؟
تتطلب الإجابة على هذا السؤال طرح سؤال آخر ذي علاقة مباشرة به.
11). كيف يتعلم الناس؟
بدأت الدراسة العلمية للتعلم بجدية في فجر القرن العشرين. تشمل المفاهيم والنظريات الرئيسية لتعلم النظريات السلوكية، وعلم النفي الإدراكي، البنائية، والبنائية الاجتماعية، ونظرية مجتمع الممارسة ونظرية التعلم ونظرية مجتمع الممارسة. يكفي لأغراض الإجابة على السؤال في 15) أن الغرض باقتضاب سديد لبعض هذه النظريات والمفاهيم.
السلوكية:
نشأت السلوكية في أوائل القرن الماضي وأصبحت سائدة في منتصفه.
وتركز السلوكية على وجهة نظر معينة للتعلم:
تحقيق تغيير في السلوك الخارجي يتطلب من خلال استخدام التعزيزات والتكرار (التعلم عن ظهر قلب)، لتشكيل سلوك المتعلمين.
إن المعلم من وجهة نظر السلوكية للتعلم، هو الشخص المهيمن في الصف ويتولى السيطرة الكاملة، ويتم تقييم التعلم بواسطته، حيث يقرر ما هو الصواب أو الخطأ. وليس للمتعلم أي فرصة للتقييم أو التفكير في عملية التعلم، ويتم إخباره ببساطة بما هو صواب أو خطأ. يمكن اعتبار التصور للتعلم باستخدام هذا المنهج سطحياً، ينصب التركيز على التغييرات الخارجية في السلوك وعدم اهتمامه بالعمليات الداخلية للتعلم، التي تؤدي لتغيير السلوك، ولا يوفر مكاناً للعواطف التي تنطوي عليها هذه العملية.
البنائية – الاجتماعية
ظهرت البنائية في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، مقدمة فكرة أن المتعلمين ليسوا متلقين للمعلومات، لكنهم يبنون معرفتهم بنشاط بالتفاعل مع البيئة، من خلال إعادة تنظيم هياكلهم الذهنية. لذلك تنظر البنائية للمتعلمين على أنهم صانعو معنى، لا يقومون فقط بتسجيل المعلومات المعطاة ولكنهم يقومون بتفسيرها. أدت هذه النظرة للتعلم إلى التحول من استعارة “اكتساب المعرفة”، إلى استعارة “بناء المعرفة”.
كانت الأدلة المتزايدة الداعمة لنظرة البنائية للتعلم متوافقة أيضاً مع ومدعومة بالعمل السابق للمنظرين المؤثرين مثل جان بياجيه وجيروم برونر.
وفي حين أن هناك إصدارات مختلفة من البنائية، فإن الأمر المشترك هو النهج الذي يضع المتعلم في المركز، حيث يصبح المعلم دليلاً معرفياً لتعلُّم المتعلم، وليس ناقلاً للمعرفة.
في أواخر القرن العشرين، تم تغيير وجهة نظر البنائية للتعلم في خلال ظهور منظور “الإدراك والتعلم السياقي”، الذي أكد على الدور الهام للسياق، خاصة التفاعل الاجتماعي. أصبح النقد الموجه للنهج البنائي لمعالجة المعلومات للإدراك والتعلم أقوى بظهور العمل الرائد لقيجوتسكي () إضافة إلى الأبحاث الأنثربلوجية والإثنوغرافية.
كان جوهر هذا النقد هو أن بنائية معالجة المعلومات رأت الإدراك والتعلم كعمليات تحدث داخل العقل، بمعزل عن ما يحيط به والتفاعل معه. وهكذا أعتبرت المعرفة مكتوبة ذاتياً ومستقلة عن السياقات التي توجد فيها.
يُفهم الإدراك والتعلم، وفق النظرة الجديدة، على أنهما تفاعلات بين الفرد وموقف: وتعتبر المعرفة متموقعة () وكنتاج للنشاط والسياق والثقافة التي يتم تشكيلها واستخدامها داخلها. أفسحت هذه النظرة المجال أمام استعارة جديدة للتعلم “كمشاركة” و”مفاوضات اجتماعية”.
• الذكاءات المتعددة
طور هاوارد جاردنر في عام 1983م نظرية عن الذكاءات المتعددة في تحدٍ واضح للافتراض في العديد من نظريات التعلم بأن التعلم عملية بشرية عالمية يختبرها جميع الأفراد وفقاً لنفس المبادئ. كما تتحدى نظريته أيضاً الفهم الذي يرى أن الذكاء تهيمن عليه قدرة عامة واحدة. ويجادل جاردنر بأن مستوى ذكاء كل شخص يتكون في الواقع من العديد من الذكاءات المتميزة، وتشمل هذه الذكاءات، وفق جاردنر، (1) منطقية – رياضية، (2) لغوية، (3) مكانية، (4) موسيقية، (5) جسدية – حركية، (6) علاقات بين الأشخاص، و(7) علاقات خاصة بالشخص.
قوبلت النظرية بتقدير المعلمين، إذ أنها وسعت من إيطارهم المفاهيمي إلى ما وراء الحدود التقليدية للمهارات، والمنهج والاختبار. ويعتبر جاردنر التعرف على الذكاءات المتعددة وسيلة لتحقيق أهداف تربوية وليس هدفاً تربوياً في حد ذاته.
• تعلُّم مهارات القرن الحادي والعشرين
برز اكتشاف التعلم أو المهارات في القرن الحادي والعشرين من الاهتمام بتحويل الأهداف والممارسات اليومية للتعلم لتلبية المتطلبات الجديدة للقرن الحادي والعشرين، الذي يتميز بأنه مدفوع بالمعرفة والتكنولوجيا.
تؤدي المناقشة الحالية حول مهارات القرن الحادي والعشرين إلى تشجيع الفصول الدراسية والبيئات التعليمية الأخرى، على تطوير المعرفة الأساسية للمادة، بالإضافة إلى التفكير النقدي والنظمي. مثلا،ً يعرف البعض ما يلي على أنه أساسي:
مواد أساسية (لغة الأم، رياضيات، تاريخ، جغرافية، والتربية المدنية);
موضوعات القرن الحادي والعشرين (الوعي العالمي، ومحو الأمية المدنية، ومحو الأمية الصحية، ومحو الأمية البيئية، ومحو الأمية المالية، والتجارية وريادة الأعمال);
مهارات التعلُّم والابتكار (الإبداع والابتكار، التفكير النقدي وحل المشكلات، والتواصل والتعاون);
مهارت المعلومات والإعلام والتكنولوجيا (مثلاً، محو الأمية بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، ومحو الأمية الإعلامية);
المهارات الحياتية والوظيفية (المرونة والقدرة على التكيف، والمبادرة والتوجيه الذاتي، والمهارات الاجتماعية والعابرة للثقافات، والإنتاجية والمساءلة، والقيادة والمسؤولية).
إن إحدى طرق التعلم الرئيسية التي تدعم تعلم مثل هذه المهارات والمعرفة، هي التعلم الجماعي أو المشاريع الموضوعية التي تتضمن عملاً تعاونياً قائماً على الاستفسار، ويخاطب قضايا وأسئلة العالم الحقيقي.
12) يتضح مما ذهبنا إليه آنفاً إذا أردنا للطفل أن يتعلم، فلا مناص من التحول من الفهم التقليدي الذي يضع المعلم في مركز العملية التعلمية إلى الفهم الذي يضع المتعلم في المركز، حيث يكون مشاركاً نشطاً. ولا شك أن هذا التحول ينطوي على تحديات لا يمكن المبالغة في التركيز عليها.
إن المعلم المتمرس يدرك أن الصف الذي يتكون من 40 طفلاً، يحتوي أيضاً على 40 أسلوباً مختلفاً للتعلم، و40 شخصية مختلفة، و40 طريقة للحصول على المعلومات والتفاعل معها. فهل يكفي، إيزاء هذا الوضع، أن يتبنى المعلم خطة واحدة للدرس وطريقة واحدة للتدريس؟
13) إن إقناع أوسع قطاع ممكن من المعلمين بضرورة التغيير، واستعدادهم التام للتخلي عن الأساليب التقليدية للتعليم والتعلم، وتقييم أداء التلاميذ والطلاب، تبنيهم للأساليب الحديثة التي تستند إلى التقدم العلمي والممارسات المميزة، يمثل أحد أكبر التحديات التي تواجه نظام التعليم العام في السودان.
يا سلااام كلام درر
نعم المنهج التقليدى يرتكز على الحفظ فقط
لهذا الفهم العالى لم يتركوك تعمل لتغير شيئا فهم يريدون اجيالا تسير على قضبان سكتهم وتؤدى الى محطاتهم ولكن هيهات