
عوض كفي
في ظِل الحكومات العسكرية التي تعاقبت على سدة الحكم في السودان منذ مر السنين ، وفي ظل الحكومات الديمقراطية الوطنية التي قليلاً ما أتت إلى السلطة ، بين هذه وتلك ظل الشِّمال مهمشاً تهميشاً متعمداً في كافة مجالات ونواحي التنمية ، بالرغم من ان الشمال مصدر حضارة يباهي بها الأمم. ومصدر ثروات مكمونة وظاهرة . وأخيرا وصلنا هامش من التنمية بتعبيد طريق ( حلفا – دنقلا – الخرطوم ) والذي سمي مجازاً (شريان الشمال) . وفي رواية أخرى ب ( الطريق القاري )، وقد إمتلأت قلوب أبناء الشمال قاطبة فرحاً وحبوراً ، وهلَّلوا وكبَّروا لهذا الانجاز الذي وصف بالتاريخي ،ظناً منهم ورجماً بالغيب بان هذا الشريان هو الذي سيضخ الدماء في جسد الشمال العليل وهو المخرج والموصل الآمن الوحيد والمنقذ لهم من ويلات السفر ومتاعبه حيث كانوا يعانون منها الأمرًّين قبل شريان الشِّمال ، والتي كانت تتمثل في سيوف وكثبان رملية ،ومنحدرات صخرية ، وانعطافات ومنحنيات هُنا وهناك ، حيث كل هذه العوامل مجتمعة بالرغم من اننا لم نشاهد حوادث كما اليوم ، الا انها كانت تعيق من سرعة وسائل النقل المختلفة في ذلك الزمن ، والتي كانت عبارة عن سيارات أو شاحنات ذات مواصفات خاصة تتناسب وطبيعة ذلك الطريق ومن شأنها أن تتحمل طبيعته الوعرة، مما كان يجعل السفر شاقاً ويجعل العاصمة بعيدة كبعد الثرى من الثريا ، حيث الرحلة إليها من حلفا كانت تستغرق من وقت المسافر أياماً وليالي . فرحنا كثيراً وتنفسنا الصعداء لان الإنقاذيين منُّوا علينا بالخير ، وان سفرنا سيصبح سهلاً و ميسراً ،واننا سنختصر الأيام إلى ساعات معدودة على أصابع اليَّد الواحدة ، وأن مواويل السَّفر القديمة المُحزنة المملة، والجميلة أحياناً ستصبح مُجرد أوهام وذكريات مُحفورة في وجداننا نرويها لمقبل الأجيال جيلاً بعد جيل ، كأنها أسطورة قصص ألف ليلة وليلة الخرافية ، لن يصدقها إلا من كانوا يُستخدمون ذلك الطريق القديم . هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فان هذا الشِّريان القاري أحدث نقلة نوعية وتطوراً هاماً في وسائل وسبل المواصلات ، والتي تحولت من نوع (نيسانات ،وشاحنات ولواري ) كانت تنقل الركاب والبضائع والدواب في آن واحد ، إلى سيارات صغيرة وبصات سياحية فارهة ومكيفة. فضلاً عن أنه ربط الشمال بالعاصمة تجارياً واقتصاديا.
ولكن للأسف فرحتنا بشريان الشمال لم تدم طويلاً ، ولان الرياح تأتي أحياناً بما لا تشتهي السفن ، ولأن هذا العمل لم يتم باخلاص وبدراسة متأنية على ما اعتقد ، فقد تحول من نعمة الى نقمة ، وتبددت فرحتنا بهذا الانجاز الضخم لانه بدأ يحمل الينا من وقت لآخر أخباراً وأنباءً غير سارة . أزكُم القَّائمون بالأمر أنُوفَنا وصدَّعوا رؤوسنا بهذا المشروع التاريخي العظيم اعلامياً، وعمَّتْ الفرحة والبهجة ومظاهر الاحتفالات كل مناطق الشمال وأهله ، دون ان يعلموا بان القدر يبطن لهم شراً مستطيراً ،وينسج أكفانهم وأكفان فلذات أكبادهم وأمهاتهم وآبائهم غيباً على قارعة هذا الطريق الجديد الذي صار شؤماً ووبالاً عليهم… !! شريان الشمال الذي كان من المفترض ان يضخ الدم والتنمية في جسد الشمال المريض ليتعافى، أصبح هاجساً وغولاً بعد أن كشَّر عن انيابه الحادة وتحول بقدرة قادر الى آلة حاصدة لأرواح مستخدميه ، ولهذا نجد كل من يسافر عبره ترتعد فرائصه خوفا فيضع يده في قلبه داعياً ربه أن يوصله الى مبتغاه في أمان وسلام ، وأحيانا اخرى لاعناً وداعياً على من فكر في تعبيد هذا الطريق بهذا الشكل. مواقع التواصل الاجتماعي ،وحاملات الفيديو ،وبعض الصحف المقروءة بمختلف أنواعها كل يوم وآخر تنقل إلينا صوراً مأساوية لحوادث مرورية مروعة تدمي القلوب ، وتقشعر لها الابدان ،جثث وأشلاء لشباب ونساء وشيوخ وأطفال لم يبلغوا الحلم بعد وقد تناثرت يميناً ويساراً على قارعة الطريق بالعشرات ،وآخرها كان حادث مروع بين سيارتين من نوع (هايس) قبل اسبوعين تقريباً راح ضحيته 21 فرداً بالقرب من المتمة، ومنظر لسيارات يخيل اليك من قوة الاصطدام كأنها خرجت لتوها من آلات كبس وفرم السيارات القديمة التالفة . حتى بدأنا نشمت على الشارع الجديد ، ونسب ونلعن من فكر فيه او أخرجه بهذا الشكل ، وبدأنا نتوق لماضي طريقنا التليد الذي لم يكن معبداً ، لان سلبياته كانت تنحصر فقط في مجرد التأخير عن مواعيد الوصول الى المبتغى ، ولم يشهد حادثة واحدة ناهيك عن إزهاق للأرواح البريئة بالجملة كما هو الحال اليوم . ولا أحسب نفسي مبالغاً في الامر اذا قلت لكم بان هذا الطريق منذ أن تم إفتتاحه وحتى يومنا هذا تجاوز عدد الذين راحوا ضحيته المئات من الأبرياء. وهنا جاء دور التهميش المُتعمَّد مرة أخرى ، فلا أحد يعر إهتماماً لهذه الأرواح التي تحصد ،ولم تقم أي جهة رسمية أو غير رسمية بدراسة أسباب حوادث شريان الشمال ، غير أن البعض جزافاً يرمي باللائمة على التخطي الخاطي والسرعة التي يتجازوها السائقون أحياناً ، وآخرون يحمِّلونها لضيق الطريق ، بينما البعض الآخر يعزيه الى عدم وجود إشارات ضوئية أو علامات مرورية ، مع عدم وجود دوريات شرطية مرورية كافية تراقب حركة المرور للحد من السرعة المتهورة. نعم لقد وصل أمر الاستهتار بأرواح البَّشر لحد انه لا توجد اي صيانة دورية لهذا الطريق بالرغم من وجود تشققات وتصدعات في بعض أجزائه بفعل السيول والأمطار ، والذي لم يصاحبه عمل مقار للاسعافات الأولية ، ولا توجد أي مراكز أو وحدات صحية لعلاج الحالات الطارئة ( كايقاف النزيف وجبر الكسور ) ، وكذلك لا توجد بالطريق سيارات اسعاف كافية وموازية لاعداد الحوادث ، ولهذا بعض الذين يصابون في حوادث هذا الطريق يلفظون أنفاسهم الاخيرة وهم في طريقهم لأقرب وحدة علاجية . وعلى العكس فبدل إقامة مثل تلك المراكز الحيوية ، ذهبت الدولة وحكومة الولاية الشمالية في إقامة أكشاك ونقاط لتحصيل الجبايات والأتاوات ، فما تمر أية وسيلة نقل باحداها الا ودفع صاحبها المعلوم وانصرف للنقطة التي تليها وهكذا دواليك حتى محطة الوصول النهائية، ولا يهم ان كان مسرعاً او مبطئاً ، ان كانت سيارته محملة بما لا تطيق حملها من ركاب وبضاعة ،أو حتى إن كانت السيارة لا تصلح للاستخدام، بقدر ما يهمها ما سيدفعها أصحابهم من أتاوات وجباية ما أنزل الله بها من سلطان ، نظير استخدامهم لهذا الطريق الذي يعبق رائحة الموت الزؤام بكل جنباته . أتمنى ان يهتم ولاة الامر في بلادي بآدمية انسان الشمال كباقي البشر ،وأن تجرى دراسة شفافة مستفيضة لهذا الطريق من القائمين بالامر ، ليعرفوا مواطن الإعوجاج فيقوموها ،و أسباب تلك الحوادث المأساوية الكثيرة فيتفادوها أو يقللوا من وتيرتها المحزنة، حتى يضعوا حدا لهذه الاوراح البريئة التي تزهق دون ذنب جنتها غير استخدامها لهذا الطريق . والا فالعودة للطريق القديم بعيوبه خير من ان تضيع أرواحنا سدىً. وختاماً علينا ان نعرف جيداً بان الوصول الى وجهتنا بتأخير ونحن سالمين ، خير لنا من أن تكون رحلتنا تلك هي الرحلة الأبدية من الدنيا. نسأل الله ان يحفظ الجميع ويبلغهم وجهتهم سالمين غانمين .