قوانين سبتمبر وفيديو ديسمبر

غربا باتجاه الشرق

قوانين سبتمبر وفيديو ديسمبر

مصطفى عبد العزيز البطل
[email][email protected][/email]

خبز التقدمة:
قيل انصرفوا،
قلنا: لن نبرح هذي الساحة،
حتى يندحر الإفكُ،
وحتى ينبلج الفجرُ،
وحتى ينتصب الشعرُ،
ويعتدل الميزان.

(من ديوان “هئت لك” للشاعر فاروق شوشة)

*******
(1)
هدأت فعاليات موسم الشجب الذي كان مداره فيلماً مصوّراً على موقع يوتيوب تُشاهد فيه فتاة سودانية يتم إخضاعها لعقوبة الجلد بصورة وحشية، استفزت مشاعر الآلاف من السودانيين وغير السودانيين داخل السودان وخارجه (أقول “بصورة وحشية” تجاوزاً، إذ أنني في الواقع لا أعرف أية صورة إنسانية يمكن أن تُساق فيها فتاة أو امرأة الى منتصف دائرة مكتظة بالرجال، ثم يتم إجلاسها قسراً، وضربها خمسين مرة بكرباج من جلد البقر)! وخفتت، بعض الشيء، الأصوات العالية التي عبَّرتْ عن مشاعر الغضب والسخط، وتهيأ الناس للانصراف الى أعمالهم راشدين، بعد أداء واجب الشجب.
كان واضحاً تماماً أنها المرة الأولى التي يُشاهد فيها كثير من الناقمين وقائع جلد علني لامرأة. ولهذا كانت الصدمة متناهية التأثير وردود الفعل متماهية التعبير. أما أنا فقد شهدت بعيني رأسي واقعات مشابهة في سوح المحاكم السودانية. لا يزال يشخص في ذهني منظر تلك المرأة التي أوقفوها في قلب ساحة المحكمة وسط عشرات المتفرجين، الذين اصطفوا في شكل حلقة دائرية تعيد الى الأذهان مشاهد روما القديمة، حيث كان أفراد الشعب يتحلقون حول المدان الذي يتم إجباره على الانتصاب في منتصف الحلقة، ثم يُطلق الأسد الجائع فيهجم عليه ويصرعه، يلتهمه بعد ذلك قطعةً قطعة. الغريب أن تلك المرأة لم تصرخ أبداً طالبةً الرحمة، مثل فتاة اليوتيوب، عندما انهال عليها الشرطي الجلاد بكرباجه، بل كانت كلما أحست لسع السياط تصرخ هاتفةً بسلسلة من الشتائم المقذعة في وجه القاضي الذي كان يقف أمامها. وقد تواصل سيل الشتم المجرّح، متزامناً مع الجلد المبرّح، للقاضي – وأُمه وأبيه وفصيلته التى توؤيه – مثل طلقات مدفع رشاش، حتى انقضت حفلة الجلد. ولا أظن أن هناك قاضيًا تعرَّض لترسانة من الشتائم، في تاريخ القضاء السوداني كله، مثل ذلك القاضي!
(2)
أول وأكثر ما لفت انتباهي في أمر ردود الفعل على شريط فيديو اليوتيوب هو ما تبيَّن لي من غياب حقيقةٍ مركزية عن أذهان الكثيرين، وهي أن عقوبة الجلد للرجال والنساء ليست من المفردات المستجدة في النظام العقابي السوداني. بل هي واحدة من مستلزمات حقيبة القوانين العقابية الإسلامية المطبقة منذ العام 1983م، ضمن منظومة التشريعات التي عُرفت في المصطلح باسم قوانين سبتمبر. عجيب والله. كيف لا يعلم هؤلاء أن عقوبة الجلد تطبق على الرجال والنساء معاً بصورة منتظمة في السودان منذ ما يربو على ربع قرن؟! النساء يجلدن بصورة راتبة في سوح المحاكم. ومن الطبيعي أن من تنال منهن سياط الجلاد يجزعن، فيصرخن بأعلى أصواتهن، تماماً مثل فتاة الفيديو. ائتوني بفتاة أو امرأة واحدة يمكن أن تُضرب بالسياط فلا تولول. فلماذا انداحت عن العيون كل تلك الدهشة عندما انفرج أمامها شريط اليوتيوب؟!
يبدو لى أن تطاول الزمان والأُلفة والاستئناس الى الأمر الواقع تجعل الأشياء تلتبس على بعض الناس أحياناً فينسون أن التشريع الجنائي المطبق في السودان مستمد من الشريعة الإسلامية، بل هو بحسب بعض الادعاءات شرع الله نفسه. بدليل انه عندما طرح رئيس الوزراء في العام 1987م قانوناً بديلاً للقانون الجنائي خرجت جماهير غفيرة تملأ طرقات العاصمة وهي تهتف: “لا تبديل لشرع الله”! (تعجبت عندما رأيت في صفوف الناقمين الشاجبين لجلد الفتاة كاتب صحافي قرأت له في الزمان القديم مقالاً شهيراً بعنوان: “ثورة المصاحف ضمير الأمة”. وثورة المصاحف هو المصطلح الذي كان قد أُطلق وقتها على تظاهرات المستمسكين بالقوانين السبتمبرية، الرافضين لتبديلها. يقول عن القوانين إنها شرع الله الذي لا تبديل له، ثم عندما يرى صفوف المستنكرين للتطبيق يهرع ليقف في الصف الأول. يا سبحان الله!)
نعم، ربما بتأثير هذا التطاول والأُلفة والاستئناس رُوّع البعض عندما وقفوا على مشاهد تنفيذ العقوبة. وقد لفت انتباهي انني كلما ذكّرت بعضاً من أصحاب العيون الجاحظة هؤلاء بالشريعة الإسلامية وقانونها ومستلزماته جاءتني الإجابات سراعاً، وهي انه لا اعتراض لديهم على مبدأ العقوبة، وان الاحتجاج إنما ينصبُّ على طريقة التطبيق. ولسان الحال هنا: “اجلدوا النساء علانيةً، “وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين”، ولكن مش بالطريقة دي!” وكنت بدوري أعاجلهم بالسؤال المضاد: طيب بي ياتو طريقة؟!
(3)
الشريعة الإسلامية تقرر أن القتل والصلب والرجم وقطع الأيدي والأرجل والجلد هي العقوبات الملزمة في الحدود، والممكنة التطبيق في التعاذير، فضلاً عن أنواع أخرى من العقوبات أضافها الفقهاء. ويتم تطبيق عقوبة الجلد في حد الزنا لغير المحصن من الرجال والنساء، كما يتم تطبيقها في حد القذف، بالإضافة الى حالات التعذير التى يتوسع القانون الجنائى السودانى فى تطبيق عقوبة الجلد عليها بغير عقال. بيد أن الذي يهمنا هنا بالدرجة الأولى هو أنه ليس هناك في الشريعة ما يدفع برفع عقوبة الجلد عن المرأة إن هي تألمت وبكت وولولت ونادت أمها لتنقذها فأثارت بذلك مشاعر الطائفة الشاهدة. العقوبة واجبة التنفيذ في المرأة المدانة، صبرت أم جزعت، لا فرق. ولا أعرف من حاول فأفلح في تحدي التشريع العقابي الذى يسند ظهره الى هضبة عالية من النصوص الفقهية. جميع الاجتهادات المضادة التي سعت الى تفادي العقوبات الشرعية انتهت الى دوائر مفرغة، مثل اجتهاد ذلك الفقيه المصري الذي زعم أن “قطع يد السارق” في الشريعة لم يقصد به القطع الحسي بل القطع المعنوي، من قبيل قولك في العامية المصرية في شأن الرجل الذي لا تريده أن يدخل منزلك مرة أخرى: “نقطع رجله من البيت!”
يمكن أن نُطلق على الأحكام التي نستبشعها، وتطبيقاتها المرتكزة الى سلطة الدولة، ما نشاء من الصفات. ولكن إذا كانت المرجعية هي الشريعة فلا بد من الأسانيد والأدلة. عندما ذهب الشيخ يوسف القرضاوي على رأس عدد من كبار الفقهاء المسلمين، بتكليف من منظمة العالم الإسلامي، في فبراير 2001م، إلى الملا محمد عمر زعيم طالبان افغانستان، وطلبوا منه إلغاء قراره بتدمير تمثالى بوذا في كهوف باميان التي كان يقصدها النُسّاك البوذيون، توقياً من آثار موجة الغضب العارمة في أوربا والولايات المتحدة وآسيا، ردَّ الملا عمر إنه على أكمل استعداد للاستجابة لرجائهم والنزول على مطلبهم لو أنّ بوسعهم أن يقدموا له دليلاً شرعياً واحداً يجيز الإبقاء على أوثان عبدها بعض الناس من دون الله في دولة موحدة تحكم بشريعة الإسلام. وبطبيعة الحال عجز الفقهاء عن إيجاد الدليل الشرعي وحاروا في أمرهم، ثم نكصوا الى بلدانهم يجُرُّون أذيال الخيبة، إذ أنّ حُكم الأصنام مما لا يتناطح حوله عنزان. وكان ان فقد التراث الانسانى التمثالين التاريخيين الذين يعود عهدهما الى القرن السادس الميلادى، وصنفتهما اليونسكو على انهما من أندر وأغنى نماذج الفن الهندو- اغريقى الكلاسيكى على وجه الأرض.
(4)
ولئن التمست شيئاً من العذر لفورة غالب أهل المهاجر، ممن غابت عنهم حقائق الأشياء وتقطعت الأواصر بينهم وبين الوقائع والممارسات الراتبة لسلطات الضبط القضائى فى بلادهم، فإن عجبي لا ينقضي مما ورد في مقال كتبه سياسي قيادي، ذو اسم ومنصب وصفة، هو الأستاذ تاج السر عثمان، مسئول قطاع الثقافة في الحزب الشيوعي السوداني، الذي لم يفُتْهُ التعليق على الحدث الجلل فكتب يقول إن واقعة جلد الفتاة “تعيد الى الأذهان” عهد الرئيس السابق جعفر نميري! أي والله. اقرأ – يا رعاك الله – ما أتحفنا به مسئول الثقافة في الحزب الشيوعي: (شاهد الآلاف، بغضب واستياء شديدين، على مواقع الإنترنت شريط فيديو جلد الفتاة بواسطة شرطة النظام العام، وعادت للذاكرة الأيام الأخيرة لنظام نميري الذي طبَّق قوانين سبتمبر 1983م التي أذلت الشعب السوداني). ما معنى هذا الكلام؟ وما حاجة الذاكرة للعودة لأيام جعفر النميري؟ أيجوز أن القيادي الشيوعي المخضرم لم يكن يعلم – هو أيضاً – أن قوانين سبتمبر لا تزال مطبقة، وأن المحاكم السودانية لا تعرف غيرها فما زالت تحاكم الناس بمقتضاها، وان عقوبة الجلد للرجال والنساء معاً تطبَّق كل يوم؟! القيادي الشيوعي هنا يتعامل مع الواقعة وكأنها حدث استثنائي فرض نفسه على حين غرة، تجاوز فيه النظام القضائي الإنقاذوي حدوده، فاستعار من نظام النميري الغابر بعض ممارساتٍ جائرة عفى عليها الزمان. ولكن الحقيقة بطبيعة الحال غير ذلك، لأن العهد القانوني واحد، والتطبيق واحد، فمن أين جاء الوهم بأننا نعيش – في مضمار التشريعات وتطبيقاتها – نظاماً قانونياً مختلفاً عن النظام الذي ساد على عهد جعفر نميري؟!
هذا الموقف يعكس، في تقديري، مدى تفاحش الحالة المزرية التي ترزح تحت نيرها القطاعات الوطنية التي اجتمعت على التصدي لمنظومة القوانين السبتمبرية عند أول صدورها عام 1983م، ويعبر أصدق تعبير عن المحنة الكبرى التي يجتازها المشروع المناهض للاسلاموية. وكفى زرايةً ومحنة أن قيادة الحزب الشيوعي، بجلال قدره، اختلطت عليها الحيثيات واستغبشت المرئيات، فأمست في يومها وهي تحسب واقعة جلد الفتاة بموجب القانون فلتة من فلتات الإنقاذ تعيد الى الأذهان عهد التشريعات النميرية، وكأن التشريعات النميرية شيء غير التشريعات البشيرية!
كان تراجع المشروع المناهض لقوانين سبتمبر مترادفاً مع نجاح انقلاب الحركة الإسلاموية في 1989م، بحيث تضاءلت وخفتت الدعوة لإلغاء قوانين سبتمبر، ثم ماتت بالسكتة القلبية، فداءً للهدف ذي الأولوية المطلقة والمتقدمة، ألا هو إسقاط نظام الإنقاذ نفسه واستعادة الديمقراطية. وواقعنا اليوم يدلنا على أن قوانين سبتمبر إنتهت في خاتمة المطاف الى كونها الرابح الأكبر من انقلاب الإنقاذ وعهده الذي استطال لما يربو على العقدين من الزمان، وذلك لسببين: الأول والبدهي، هو انها مكنت أنصار الدولة الدينية من رقبة السلطة. والثاني – الأكثر أهمية في سياق هذا التحليل – هو انه استغفل كل القوى الوطنية المعارضة لقوانين سبتمبر واستبلدها واستحمرها وربّاها على التعايش البطئ، والتواطؤ التدريجي، ثم الإذعان الكامل والقبول النهائي بمنظومة التشريعات الإسلاموية تسليماً بالأمر الواقع. وإلا فلتقل لي – أعزك الله – متى كانت آخر مرة علمت فيها عن عمل سياسي نضالي، أو فكري توعوي مناهض لهذه التشريعات على الساحة السودانية؟ بل قل لي متى كانت آخر مرة سمعت أو قرأت فيها مصطلح ” قوانين سبتمبر” على أي منبر سوداني؟!
بيد أنني أعود فأتقفَّى مقولة معاوية ابن أبي سفيان، حين جاءه نبأ مقتل الحسن بن علي (في رواية الأشتر النخعي) مسموماً، بعد أن تناول وجبة من عسل النحل إذ هتف محبوراً: “إن لله جنوداً من العسل”. فأقول: إن للدعوة الى إحياء حملة مناهضة قوانين سبتمبر جنوداً من اليوتيوب!
(5)
لو طرحنا الحسابات السياسية جانباً، فإننا نعتقد مخلصين أن هناك قواعد ومسوِّغات ينبغى أن يتوحد حولها أولو النُهى في مسار الدعوة لمناهضة القوانين النميرية السبتمبرية، واقتلاعها كلياً من نطاق التطبيق. هذه الشريعات – سيئة السمعة – يكتنفها الباطل من قمة رأسها الى أخمص قدميها، وتتكاثف ظلمات الشبهات بين يديها ومن خلفها. كذب سدنة النظام المايوي على الشعب حين أشاعوا أن الرئيس السابق جعفر نميري تدرَّج في مراحل التحول الإسلامي، وأن إعلان القوانين الإسلامية كان تتويجاً لحركة وئيدة مباركة باتجاه أسلمة المجتمع والدولة. تلك فريةٌ كبرى وهُراءٌ محض. التاريخ – ووقائعه لمّا تزل حية تنبض فى الصدور – ينطق بلسان فيقول لنا إن إضراب القضاة الشهير، الذي زلزل السودان وعطَّل السلطة القضائية تماماً عام 1983م، شكّل ضربةً قاسيةً أذلت كبرياء الرئيس السابق، وسحقت كرامته، ومرَّغتْ أنفه في التراب. وقد ولدت الفكرة الجهنمية التى ذهبت الى تبنى وتطبيق القوانين الإسلامية، ضربة لازب، حتى ينعتق بها الرئيس الممحون من ضيق المهانة الى سعة التمسح بالدين، فلمعت على عجل دعوة استبدال النظام القضائى فى مجمله بأنظمة يقودها قضاة يعيّنهم الرئيس بمعرفته، وتديرها مستشارية قضائية خاصة برئاسة الجمهورية، عوضاً عن جمهرة اعضاء السلطة القضائية من القضاة الذين تحدوا السلطة. جاءت القرارت المتعجلة لتحفظ ماء وجه الرئيس الطاغية الممتلئ غروراً. وقد صرح بعد ذلك – وجميع خطاباته محفوظة وكل بياناته متاحة لمن يقصدها – إنه يقبل استقالة قضاة السودان اجمعين، ويستعيض عن الجهاز القضائي بأسره بنظام قانوني جديد، يقوم على هدي الدين الحنيف، بعد أن هداه الله وأنار قلبه وبيّن له كيف أن شريعة الإسلام التي في جنبه أقوم وأهدى من النظام القضائي الذي شاد بنيانه الإنجليز النجوس، أو كما قال! وقد مات الرئيس السابق وهو – ونحن – نعلم أنه كان كاذباً. كذب على الله ورسوله والمؤمنون. بل كان الإسلام المنتحل، والقوانين الشوهاء التي طُبِختْ بليل، أداة الرئيس المخلوع لصون كبريائه وإرضاء غروره، لا وفاءً لعهد الله، ولا نزولاً على حكمه، ولا نشداناً لمرضاته. وتلك في حد ذاتها شبهةٌ كبرى لا تدانيها شبهة، تشين هذه القوانين – سيئة السمعة – وتدينها وتمحقها، وتُلحق المعرّة بالمتمسحين بأعتابها وهم يعلمون من شأنها البئر والغطاء. وقد شهد كتبة القوانين النميرية السبتمبرية ان الرئيس المخلوع وجههم بأن يستخفوا بخطتهم عن الشيخ حسن الترابى، خشية أن ينافسه فى الصيت ويضيّع عليه المجد إن هو ادخل فى الأمر يده. ولا غرو ان الرئيس السابق – بشهادة خلصائه وأقرب اتباعه – عاد ادراجه، بعد ان فقد الصولة والصولجان وانتهى به الحال منفياً خارج بلده الى معاقرة الصهباء. ثم خرج على الناس ذات يوم يحمل فى يده مرسوماً يعلن فيه إبطال العمل بالقوانين الاسلامية، يتودد بذلك الى الشعب التماساً لسكك العودة الى سُدة الرئاسة!
أى شريعةٍ هذه؟ مبدؤها الموجدة والحقد والضغينة والتآمر على القضاة المضربين، وموئلها غلواء النفوس والعزة بالاثم، وسبيلها الخداع والتمويه والاستخفاء ودفن الليل، ومُرادها الصيت والمجد وطلب الدنيا، والآمر بانفاذها، قبل ذلك كله، مريضٌ مخبول، وخاتمتها وذروة سنامها العودة الى قنانى الخمر!
(6)
وقد كان أداء الحكومات المتعاقبة في شأن تطبيق هذه القوانين مخزياً إذ تواطأت جميع الحكومات، التي لم تأنس في نفسها شجاعة مواجهة النفس والصدع بالحق، بما فيها حكومة العصبة المنقذة، على الاحتيال على تجميد الحدود الشرعية والالتفاف حولها بشتى الصيغ والمبررات. عندما تولت حكومة الوفاق الوطني السلطة عام 1986م كان من أول التحديات التي واجهتها العدد الكبير من السجناء الذين ينتظرون تنفيذ عقوبة قطع اليد والقطع من خلاف. نظر رئيس الوزراء والوزراء الآخرون باتجاه الشيخ حسن الترابي وزير العدل والنائب العام، فقال الرجل: لا تقلقوا! وبعد أيام أصدر قراراً بناءً على فتوى شرعية أتى بها من عنده أطلق بموجبها سراح جميع المحكومين. قال الشيخ الترابي في فتواه إن الأحكام قد صدرت منذ وقت طويل ولم تنفذ، وإن تطاول العهد بالحكم دون تنفيذ العقوبة يشكِّلُ شبهة تدرأ الحد، ثم تنفس الجميع الصعداء. يا لفقه الثعالب! الكل يعلم أن القوانين السبتمبرية، في مبتدأ الأمر ومنتهاه، لا تصلح لنا، وحالنا على ما هو عليه، ولكن الشجاعة أحياناً تكون أندر من لبن الطير، ودفن الرؤوس في الرمال يكون الملاذ الأكثر أماناً.
أضحت القوانين السبتمبرية، بعد ذهاب النميرى، مثل حذاء الطنبورى، تقذف به الحكومة الانتقالية، عقب الانتفاضة، الى حوبة حكومة الوفاق، ثم الى حكومة الوحدة الوطنية، ثم الى حكومة الجبهة الوطنية المتحدة. حتى أظلنا يومٌ وثب فيه أصحاب الحذاء الاصليون الى أرائك الحكم!
ونحن نعلم أن غالبية الحدود في يومنا هذا مجمدة فعلياً، وان تطبيق الأحكام الشرعية يتم بصورة انتقائية، وأن سياطها لا تطال غير ظهور البسطاء والفقراء والمستضعفين من أبناء شعبنا، الذي لم يرَ من قوانين الشريعة غير السيف والسوط (ونريد أن نمُنَّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمةً ونجعلهم الوارثين)، بينما ذوي الهيئات في حصن حصين. ونعلم أيضاً أن تصاعد الضغوط الدولية والتفاعلات الخارجية، التي يتألق فيها سيف الأجنبي وذهبه، بشأن جلد النساء وتعذيبهن في السودان ربما انتهى بالنظام الى تجميد عقوبة الجلد أيضاً والالتفاف عليها، تماماً كما تم الالتفاف على العقوبات الحدية الأخرى، فأى شبهةٍ هذه، وأي خطلٍ هذا.. وأي عوار؟! بارك الله في رئيس القضاء الأسبق المرحوم عثمان الطيب، ولله دره، فقد كتب في صحيفة “الأيام” ذات يوم من أيام الديمقراطية الثالثة، يهدي كلمة الحق لأولي الأمر ويرفع عنهم الحرج: لا تثريب عليكم أن سحبتم هذا القانون المجلل بالعار من نطاق التداول القضائي، وعطَّلتهم حد السرقة. القوانين الشرعية لا يجوز تطبيقها على أفراد الشعب في يومنا هذا لأن كثيراً من الأموال التي بين أيدي الناس أموالٌ مشبوهة، غير مستوجبة للحماية الشرعية التي وفرَّها الإسلام وأوجب العقوبات الحدية لدعمها! كتب القاضي الجليل تلك الكلمات الوضيئة وتوجه بها للحاكمين في العام 1987م. رحمه الله، ماذا لو كان قد عاش الى زماننا الحاضر؟!
(7)
القطاعات الوطنية التي نهدت قبل ربع قرن الى مناهضة حزمة القوانين السبتمبرية، ثم استنامت الى روح الهزيمة التي ناءت بكلكلها على ساحات العمل العام بعد أن تسيدتها الرايات الإسلاموية، مدعوة الى إعادة فتح الملف الذي تراكم عليه الغبار، واستثمار ما هو متاح من هوامش الحريات والحقوق الديمقراطية فتستأنف المسيرة التوعوية السياسية والقانونية بعد طول خمود. نعم، فلتستأنف هذه القوى دعوة إلغاء قوانين سبتمبر جملةً واحدة وتنادي بالعودة الى قوانين 1973م، أو تطالب بصياغة تشريعات بديلة. والدعوة اليوم اكثر الحاحاً اكثر من أى وقت مضى، حيث شواهد الخسران المبين تشخص أمام النواظر. وقد رأينا كيف كانت القوانين السبتمبرية وبالاً على صاحبها، استنحسته، ولطخت ثوبه، وأوردته موارد الهلاك. وكيف كانت شؤماً على السودان كله، فرقت بين المسلم وغير المسلم من اخوة الوطن الواحد، وزرعت البغضاء، وزكت نيران الفتنة، ، وفصلت جنوب السودان عن شماله، وارتهنت البلاد للاجندة الاجنبية. كل ذلك باسم الاسلام، والاسلام براء.
وقد نعلم أننا بمثل هذا النداء نحاكي الوعل، ناطح الصخرة، الذي أوهى قرنه في طلب المستحيل. ولكن طلب المستحيل أجلّ وأكرم وأبقى عند شعبنا الطيب من الانفعالات الظرفية التي تغلب عليها روح الفانتازيا، والتي تصدر عن جهالةٍ حقيقيةٍ أو مدعاة بحقائق الأشياء، ثم لا تغير من الأمر الواقع مقدار خردلة. نُظهر الهياج ثم ندخل الى بيوتنا ونحكم الرتاج. ندلق الأحبار ثم نلوذ بمجالس أنسنا فنشد الأوتار. ونعود سيرتنا الأولى بعد ذلك لا نلوي على شيء، حتى يمنُّ الله علينا بفتىً آخر من فتيان الأسافير، يرمي في سماء اليوتيوب بشريطٍ فضائحيٍ جديد!

عن صحيفة ” الاحداث”

مقالات سابقة:
[url]http://sacdo.com/web/forum/forum_topics_author.asp?fid=1&sacdoname=مصطفى[/url] عبدالعزيز البطل&sacdoid=mustafa.batal الرسالة

تعليق واحد

  1. لماذا ينشر لك الفاتح الباز و يرفض أن ينشر للفاتح الضوء. هل ثمة ما يجمعكما؟ كتاباتك تفوح منها ذات الرائحة الكريهة لأنصار الاسلامويون برغم انتقادك لهم بين الفينة و الأخرى لإدعاء الموضوعية ومن باب التنفيس لامتصاص غضب الجماهير وهو الفن الذي برع فيه صحافيو الإنقاذ.
    هل لك أو للوالي أو القاضي الذي أصدر الحكم بجلد الفتاة بعد أن أوحيتم لنا ? زورا و بهتانا ? بأنه الزنا؟ هل قمت أنت و من تظاهرهم بالكشف الطبي على تلك الفتاة المسكينة لإثبات و قوع الزنا، ناهيك عن أربعة شهود يرونه كما يرون المكحل في المرواد!!!!!!!
    قبل الفذلكة التاريخية و التأييد الواضح لقوانين سبتمبر و الإدعاء بمعرفة بواطن الأمور كان الأجدر بك أن تتحرى هذه الأمور قبل أن تقول لنا: " ومن الطبيعي أن من تنال منهن سياط الجلاد يجزعن، فيصرخن بأعلى أصواتهن، تماماً مثل فتاة الفيديو. ائتوني بفتاة أو امرأة واحدة يمكن أن تُضرب بالسياط فلا تولول. فلماذا انداحت عن العيون كل تلك الدهشة عندما انفرج أمامها شريط اليوتيوب"
    لن آتيك بفتاة أو أمرأة لا تولول ولكني فقط أدعو الله أن يسلط عليك من يجلدك بتلك الطريقة و لا تولول. أسادي أنت؟
    ألم تدمع عيناك عند رؤية ذلك الفيديو الذي نعته بالفاضائحي؟ إن لم تفعل فعليك بمراجعة طبيب (نفساني) عله يرد إليك بعضا من الإنسانية والقدرة على التعاطف مع إنسان يهان دون جريمة أو دون إثبات. تمنيت أن تكون في مقام اسم (البطل).

  2. سلامات يا أستاذ البطل.. تحليلك واستقراؤك صحيح وممتاز.. لا بد من إلغاء هذه القوانين والعقوبات، ولا بد من قطع الطريق لكل من يحاول إعادتها بعد ذلك. ومع أني أتوقع أن تقوم الإنقاذ مضطرة بإلغائها إلا أنني أخشى من سقوط الدولة قبل أن تكمل هذا الإلغاء. وكما قلت أنت، ففي عام 1985 سقطت حكومة النميري وبقيت قوانينه الرديئة، مما سهل لجماعة الإنقاذ توضيبها وتوسيعها. حتى مسألة دارفور بدأوا في مواجهتها باعتبارها نهبا مسلحا وحرابة فقاموا بتقطيع الثوار من خلاف وهناك صورة مشهورة لأربعة رجال مقطوعين بتلك الطريقة نشرت في الأسافير قبل عام 2003 عام بداية الإبادة الجماعية الممنهجة هناك.

  3. ياجماعة ما فهمنا البطل دا جنسو شنو؟ الزول دا تابع للمشروع اياه ولا ما تابع ما قلنا ليكم يا كيزان زمنكم دا المفروض تلغلوا كل الحدود لانه زمان الحريقة ما الرمادة .

  4. سلام يا أستاذ عبد العزيز البطل

    مقال ممتاز، ولكن أما كان من الحق و أنت تتحدث عن قوانين سبتمبر أن تذكر أو حتى تشير للذي وقف ضد هذه القوانين و قدم حياته فداء للشعب السوداني ، و أنا أقرأ في مقالك الممتاز كنت أتوقع بعد كل كلمة فيه أن تذكر أو حتى تشير للأستاذ الشهيد محمود محمد طه ولكن دهشت عندما لم أجد ذلك بين سطورك.

    عبد الرافع الطيب

  5. سلام يا أستاذ عبد العزيز البطل

    مقال ممتاز، ولكن أما كان من الحق و أنت تتحدث عن قوانين سبتمبر أن تذكر أو حتى تشير للذي وقف ضد هذه القوانين و قدم حياته فداء للشعب السوداني ، و أنا أقرأ في مقالك الممتاز كنت أتوقع بعد كل كلمة فيه أن تذكر أو حتى تشير للأستاذ الشهيد محمود محمد طه ولكن دهشت عندما لم أجد ذلك بين سطورك.

    عبد الرافع الطيب

  6. دورة أمنية: إذا أردت العمل بهدوء وحذر, فلابد أن تتأكد من خلو الأشخاص المحيطين بك من الشريحة المحروقة. لحن القول يعتبر قاسم مشترك بينهم جميعاً , فحذاري ثم حذاري من الغفوة والغفلة. من أجل السودان الوطن الواحد. كلام كتير بالتلفونات والإنترنت مافي ليهو داعي. التجمعات في المناسبات العامة فقط

  7. و الله قلت كل الكلام الكنا عاوزين نقولو يا حسنين
    هو فاكر ان الناس نست مقالاتو السابقة , و بمارس دور الصحفى الشجاع حسى على نميرى الظالم بعد ما خلا السلطة و مات و شبع موت و الادهى و الامر بينهم الناس بالجبن
    قال البطل قال

  8. مقال ممتاز يا عبد العزيز
    والحق أن بعض الكتاب الذين تناولوا هذا الموضوع وخاصة الجمهوريين ربطوا بين هذه القوانين التي بسببها جلدت (فتاة الفيديو) وبين قوانين سبتمبر 1983 تلك القوانين التي دفع الأستاذ محمود محمد طه حياته ثمنا لمقاومتها.. ومعروف أن من أسماها قوانين سبتمبر هم الجمهوريون ليميزوا بينها وبين الشريعة الإسلامية التي قالوا عنها انها لوطبقت كما طبقها النبي المعصوم في القرن السابع لما حلت مشكلة المجتمع المعاصر لاختلاف طاقته ومشاكله من مجتمع القرن السابع الذي خوطب بها على قدر طاقته.. فالشريعة على كمالها قامت على الوصاية.. وصاية النبي على المؤمنين، ووصاية المؤمنين على الكفار والكتابيين (ومن هاهنا جاء الجهاد والجزية)، ووصاية الرجال على النساء بحكم آية القوامة التي جاء فيها الأمر الإلهي بضرب النساء (فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا، إن الله كان عليا كبيرا)
    .. ونحن الآن في عهد المسئولية والحرية الذي زالت فيه بحمد الله الكثير من صور السيطرة والتمييز التي كانت الى وقت قريب (مبلوعة) كالاسترقاق والاستعمار والسبي والدول الملوكية (التي يعتبر فيها الملوك الشعوب من ضمن أملاكهم التي يتصرفون فيها كيفما يشاءون)..
    ولذلك فإن تناول حادثة هذه الفتاة ينبغي ألا يغفل عن القوانين التي أدت الى جلدها والتوعية بخطرها والمطالبة بإلغائها كما تفضلت أنت في هذا المقال فهي قوانين مذلة لأبعد الحدود خاصة عندما يطبقها الفاقد التربوي الذي ينعدم فيه الحس السليم والشعور الإنساني وتتجسد فيه الفظاظة وغلظة القلب..
    عمر هواري

  9. لقد وضعت البهام على ام الجرح ولكن هل سنمتهن الكتابة الجميلة كمتنفس وترويح بدل التغيير والذي ان اوانه؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ ام ماذال هناك نفس طويل للتحمل والتامل

  10. لك التحية اوجز قولي بقول المسيح علية السلام من كان منكم بلا خطيئة فاليرمها بحجر ابتلية الاسلام في السودان بمشرعين لا يعرفون من الاسلام الا اسمه ولا يعرفون من القران الا رسمه اجادو فقة الضرورة للدوله لا اقول هذا للمزايدة لان الحقيقة بينة وخير مثال اين عصام احمد البشير الان لقد اسند الامر لغير اهلة اين ذهب كل الزخم الذي صاحب الانقاذ كله ذهب ادراج الرياح فاما الزبد فيذهب جفاءا لم يبقى شئ ابتلي العلماء بعد الخلفاء الراشيدين فابدعو في فهم الاسلام فاخرجو كتبا ظلت تضيئ الي اليوم لكن كل الشيوخ الاسلام في السودان الان اعضاء في الدول لم تتعرضو لاي بلاء فالعكس نتحدث عن التشريع الاسلامي هذا ضد الانسانية وذاك فية امتهان لكرامة البشر و…لا تشريع ولاقانون دون علماء ء فاين هم ؟؟؟؟؟:D 😡

  11. بطل إنت ما بطل.لأنه الحدود في الإسلام جائت من زمن ما قبل
    الإسلام.يعني هي حدود الزمن داك.الزمن الذي نطلق عليه الجاهليه.
    و لا أدري لماذا.الأسلام هو دين او نظريه تخطي أو تصيب.
    ولاكن إهانت ألإنسان بإسم الدين هاذا ما يرفضه كل حر.

  12. "الفيل" هو قوانين سبتمبر التي يجب أن تجتث من عروقها.

    أصبت في ذلك.

    لكن بالله دلنا على إنجاز تم تحقيقه على "هامش الحريات" الذي تردده

    تقريبا في كل مقالاتك.وأرجو أن لا تكون من تلك الإنجازات حضورك مؤتمر الإعلاميين

    و"التوصيات العظيمة " التي دبجتموها لكمال "حقنة".

    جلد الفتاة وثورة السودانيين لم تأت من هذا الباب (هامش الحريات) وربما أدى تحت

    الضغوط الخارجية (كما ذكرت أعلاه) الى الغاء عقوبة الجلد وهذا الضغط "إنجاز"

    حققه "مناضلي الكي بورد" .. وأهل المهاجر "العاملين ليك سافوته" :lool: :lool:

    عموما أهو إترقيت شوية بكرة ممكن نقيب ركن "مناضلي كي بورد".

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..