يسألونك عن الإنقلاب في السودان
د. محمد علي حسين شرف الدين
في غضون هذه الأيام القليلة الماضية وردت أنباء تناقلتها الإذاعات والصحف والقنوات التلفزيونية مفادها أن هناك محاولة إنقلابية فاشلة قامت بها بعض العسكريين لإجهاض مسيرة المرحلة الإنتقالية في البلاد . فما مدى صحة هذه الأخبار ؟ في تقديرنا أن هذا الخبر عار من الصحة للسبب الآتي لقد كان الجيش كيان واحد فيمكن لمن أراد أن يسطو على السلطة أن يقنع مجموعة من المغامرين يقومون بإعتقال القيادات العسكرية البارزة في حين غرة ثم يستولون على دار الإذاعة والتلفزيون ويعلنون من خلالها بيان الحكومة الإنقلابية الجديدة هذا ما كان يحدث بكل بساطة.
وأما الآن يختلف الظرف عن ما كان عليه لأن المؤسسة العسكرية لم تكن هي الجهة العسكرية الوحيدة في السودان حتى يتمكن أفراد من إختراقها. فهناك ثلاثة مجموعات عسكرية بالبلاد وكل واحدة منها مستقلة بذات نفسها وهذه المجموعات العسكرية الثلاث تتمثل أولا في المؤسسة العسكرية للجيش السوداني التقليدي ثم ثانيا مجموعة ميليشيا الدعم السريع ثم قوات الحركات المسلحة.
هذا الثالوث يمثل مثلث القوة العسكرية في السودان فكيف يستطيع الإنقلابيون من ان يخترقوا كل هذه الحصانات الأمنية المستقلة ؟ فقصة الإنقلاب في الوقت الراهن مجرد أشاعة فارغة لا أساس لها من الصحة إذا وزنا الأمور بالميزان العقلي المجرد من ضبابية العواطف.
فهذه الدعاية على الرغم من أنها أكذوبة صفراء إلا ان هناك هدف من ورائها. فما المقصد من هذه الإشاعة؟
في تقديري الشخصي هناك أكثر من إحتمال وكان من هذه الإحتمالات أن جناح الجيش التقليدي يعيش أزمة من هذه الشراكة فهناك من ضباط يتهمون بأنهم خلايا تابعة للنظام القديم فظلت تعمل بخفاء ودهاء لتقويض تلك السلطة عن طريق خلق ضغوط اقتصادية طاحنة وأزمات أمنية بجانب أن هذه المجموعة تعترض فكرة تسليم الجناة من أعضاء حكومة البشير للمحكمة الجنائية الدولية بينما الضغوط الدولية ما زالت تصر على تسليمهم للمحكمة فأصبحت الحكومة بين أمرين ففكرت القيادة العليا بالحكومة من التخلص من هؤلاء المجموعة المعترضة عن طريق إتهامها بتهمة المحاولة الإنقلابية الملفقة.
ثم ان هناك بعض القيادات العسكرية منزعجة من تلك الشراكة الثلاثية في الكيان العسكري وهي تسعى لإحراج رئيس المجلس العسكري بصورة أو بأخرى بينما شركاء السلطة لا يريدون فض هذه الشراكة في هذه المرحلة فلا بد من تنظيم الصفوف داخل الجيش حتى يتسنى لها توفيق هذه الأوضاع المختلة.
وفي هذا السباق العارض لا يستبعد أن تكون هناك شخصيات مستغفلة من العسكريين والمدنيين اتخذتهم القيادة العسكربة كبش فداء فتورطوا في هذه المسرحية السخيفة من دون أن ينتبهوا لأبعادها ومخاطرها.
والإحتمال الآخر هو أن الحكومة الإنتقالية تريد أن تمد فترة السلطة الإنتقالية لفترة أطول وذلك لعدة إعتبارات منها نسبة لأنها لم تتمكن من تحقيق برامجها الكثيرة التي وضعتها تحت القيد الزمني وحتى لا يقال أنها فاشلة وتعطي المبرر الشعبي لإنعاش الحركات الإسلامية أرادت أن تخلق هذه السيناريوهات الكاذبة لإلهاء الرأي العام وكسب التعاطف الشعبي كما كان يفعل الرئيس جعفر نميري لإنعاش مسيرة سلطته.
ومن أبرز البرامج التي فشلت الحكومة ذات الرؤوس الثلاثة في تحقيقها كان برنامج دمج القوات العسكرية المتباينة في مؤسسة واحدة حتى يصبح للوطن الواحد جيش واحد وهذا الهدف تعتريه تحديات معقدة ولا إعتقد من ألسهولة بمكان تحقيقه وتطبيقه على الأرض.
وصعوبة تحقيق هذا الهدف تأتي من عدم تجانس القواعد والمنطلقات التي تستند وتنطلق منها تلك المجموعات الثلاثة فكيان الجيش الوطني يستند على وهم إسمه القاعدة الوطنية بينما في واقع الأمر نجد السودان منذ بداية تكوينها دولة قطرية رسم المستعمر حدودها وفق مصالحه الإستعمارية من دون أن يراعي فيها المقومات الطبيعية لكيان الوطن الواحد فأصبح السودان دولة هلامية غير متجانسة من حيث الجغرافيا البشرية ولا من حيث التاريخ الوطني وعلى الرغم من المحاولات لم تنسجم أطراف السودان حتى إنفصل منها الجنوب ولا زال الغرب والشرق ومنطقة جبال النوبة تكافح للخروج من هذا الوطن الوهمي.
وليس هناك من يراهن على وطنية السودان إلا النخبة المتعامة من أبناء الشمال النيلي فهم منذ الإستقلال يخدعون جماهير الشعب السوداني ويوهمونهم بأنهم مواطنون لهم حقوق متساوية مع غيرهم من المواطنين في ظل الوطن الواحد بينما كانوا محتالين يستغلون جهل الجماهير لتسخيرهم لخدمة قبائلهم وأغراضهم الذاتية الضيقة .
فالجيش الوطني كان مجرد حارس أمين يحرس مصالح أبناء الشمال (الجلابة) فقط .. هذه اللعبة القذرة أصبحت مكشوفة لدي الجميع بعد أن إنتشر التعليم في البلاد وكذلك الحال بالنسبة للأحزاب التقلبدية والطوائف الدينية كلها كانت مجرد أوعية سياسية وهمية تضمن القيادة والولاء والمصالح لأبناء الشمال النيلي فقط.
وبمرور الزمن أصبحت كل هذه البضائع كاسدة لا أحد يلتفت إليها فقد تحرر أبناء الهامش من قيود العسكرية والحزبية والطائفية المكبلة. وبدلا من الولاء للجيش الوطني الزائف قام أبناء الهامش بتكوين قوات إثنية سميت بقوات الحركات المسلحة وقد تمرّدت تلك القوات على الجيش وأثبتت أهليتها القتالية من خلال سلسلة من المعارك الضارية التي خاضتها مع الجيس الوطني فأضطر الجيش أن يعترف بها ويجلس معها في صفقة لتقسيم كيكة السلطة والثروة.
وفي أثناء صراع الجيش مع الحركات المسلحة سعت بعض القيادات السياسية لتكوين ميليشيات عربية من رعاع العربان البدو المتفلتين بقصد مواجهة قوات الحركات المسلحة فوجدت هذه المليشيات الفرصة حتى تمكنت من تطوير نفسها فقويت شوكتها وتمكنت من تحدي الجيش السوداني وإجباره للجلوس معها في طاولة واحدة لتقسيم الكيكة وبذلك أصبحت هذه الواجهات العسكرية الثلاث مرتكزات أساسية للحكومة الحالية على الرغم من إختلاف منطلقاتها.