
الأداء السياسي للحكومات العسكرية لم يكن أفضل حالاً، بل أضعف وأفقر مقارنة بالأنظمة المدنية المدنية
الحكومات العسكرية جميعها مستبدة وتفتقر للحريات الأساسية، وتحكم بعكس رغبة الجماهير.
أصبحت المؤسسة العسكرية بأذرعها المختلفة عنصراً رئيسياً في السوق والتجارة وصناعة السلع، ومنافساً كبيراً للقطاع الخاص والحكومي في العطاءات والاستثمارات.
تناول المقال السابق ما يسمى بظاهرة المرور السريع إلى السلطة، وأن أساسها عدم قدرة قيادات المثقفين والقوى السياسية والحزبية على بناء قواعد جماهيرية تدعم مساراتها. وبيّن المقال أن السودان كان الدولة الأفريقية الوحيدة جنوب الصحراء التي خرجت بعد الاستعمار بمؤسسة عسكرية لها، تمتلك سمات الجيش الوطني المستقل، كما أشار إلى الانقلابات العسكرية وعلاقة القوى الحزبية بها.
وتتزامن هذه الأيام عدة أحداث تعيد المؤسسة العسكرية السودانية إلى دائرة اهتمام لم ينحسر كلياً في يوم من أيام السودان: فقد أعلنت الكلية الحربية عن فتح باب التقديم لقبول دفعة جديدة من الطلبة الحربيين؛ وأعادت القوات المسلحة اتشارها واستعادت أراضي سودانية ظلت محتلة منذ أكثر من ثلاثة عقود؛ وأبرمت الحكومة اتفاقاً مع الحركات السياسية المسلحة ينص على ترتيبات أمنية جديدة؛ في وقت وضعت فيه الحكومة الانتقالية الثانية إنشاء جيش وطني مهني موحد على رأس أولياتها.. تأتي هذه الأحداث بعد ثورة مدنية ديمقراطية هي الثالثة ضد نظام عسكري في السودان.. مما يستدعي سؤال المعضلة حول كيفية تحقيق المواءمة بين الحاجة لمؤسسة عسكرية قوية بما يكفي لحماية البلد.. وفي الوقت ذاته ضمان ولاء هذه المؤسسة للديمقراطية وللسلطة المدنية..
عندما تحولت المؤسسة العسكرية لأداة “جهادية”
بلغ التوظيف الإيديولجي والسلطوي الاستبدادي للمؤسسة العسكرية السودانية أوجه في الثلاثين سنة بين 1989 و2019، في ظل حكم الحركة الإسلامية السودانية.. فاستخدمت الحركة المؤسسة العسكرية أولاً للانقلاب على سلطة ديمقراطية منتخبة من الشعب، ثم عكفت بعد ذلك على أدلجتها بصورة واسعة مستخدمة آليات (التأصيل والتمكين والجهاد)، التي طورتها واستخدمتها لأسلمة وتعريب الدولة والمجتمع في السودان، وتأييد سيطرة الإسلامويين على السلطة، بما في ذلك لإحكام السيطرة على المؤسسة العسكرية.
وبحكم أهمية المؤسسة العسكرية الفائقة لمشروع الحركة الإسلامية، فقد أعملت فيها الآليات الثلاث المذكورة بصرامة ودقة وتصميم.. على مستوى (التأصيل)، ويعني (تديين سلفي) لمؤسسات الدولة والمجتمع المدنية من أجل خدمة أهداف بقاء الحركة الإسلامية في الحكم – نص دستور 1998، وهو المعبر عن التوجهات الأصيلة للحركة الإسلامية السودانية، وليس دستور 2005 الذي كان مساومة مؤقتة مع الحركة الشعبية لتحرير السودان لحين فصل الجنوب – نص ذلك الدستور في المادة 7 على وجوب (الجهاد) بمفهومه الديني السلفي بطبيعة الحال، كمبدأ عام موجه للدستور والدولة، وذلك بعد أن نص في المادة 4 على مفهوم (الحاكمية) الديني المعبر عن فكر وسياسات الإخوان المسلمين عامة، الذي يعني فرض تطبيق الشريعة بالقوة إن اقتضى الأمر.. ونص في المادة 125 على حق الدولة في إنشاء قوات شعبية طوعية عسكرية.. ونص في المادة 122 على أن مهام القوات المسلحة السودانية تشمل الدفاع عن/ وحماية (توجه الأمة الحضاري).. ومعروف أن الحركة الإسلامية أطلقت اسم (المشروع الحضاري) على حزمة برامجها لـ(أسلفة) وتعريب الدولة والمجتمع في السودان، وإعادة صياغة الإنسان السوداني وفق فكرها وتوجهاتها السياسية السلفية..
وقد ترتب على (التمكين)، ويعني اصطلاحاً “أن يجعل [حزب الحركة الإسلامية] لنفسه سلطاناً على الحكم حتى ينفرد به”، إمساك أعضاء الحزب بمفاصل السلطة.. ولما كان (الولاء) هو المعيار الأكثر أهمية للانضمام للأجهزة الحكومية، فقد دفعت الأجهزة الخاصة لحزب الإخوان المسلمين بعناصر غير مؤهلة كانت تدخل فوراً إلى أطر المؤسسات والأجهزة، بما فيها المؤسسة العسكرية، دون تقيد بهياكلها التراتبية أو بمعاييرها المهنية.. انتهت سياسات التمكين بفقدان المؤسسة العسكرية لكثيرين من أفضل كفاءاتها المهنية، وإلى تقويض المؤسسية والاحترافية وروح الانضباط في أوساطها..
وقد سبقت الإشارة إلى أن نظام الحركة الإسلامية اعتمد في الدستور المفهوم السلفي للجهاد.. وفق هذا المفهوم السلفي عنى الجهاد “استخدام العنف الحاسم ضد معارضي حكم الإسلامويين المدنيين والمسلحين”.. وكانت المؤسسة العسكرية هي الأداة الرئيسية لإنفاذ آلية الجهاد.. وترتب على استخدام هذه الآلية بحسم وصرامة طوال عمر نظام الحركة الإسلامية تخريب واسع للبنيات المادية والاقتصادية وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وتهم بالإبادة الجماعية وعمليات نزوح ولجوء شملت الملايين من المواطنين على نطاق البلاد.
وبسبب أن الحركة الإسلامية كانت في عجلة من أمرها لإخضاع وكسر شوكة التمرد في جنوب السودان، الذي كان أكبر مبرراتها للاستيلاء على السلطة بالانقلاب عام 1989، وترى أنه أكبر مهددات مشروعها الإسلاموي.. ولضعف ثقتها بالقوات المسلحة الرسمية، فقد أنشأت في عامها الأول في السلطة “قوات الدفاع الشعبي”، كأدة عسكرية موازية إضافية مؤدلجة بالفكر السياسي للإخوان المسلمين، وأنشأت أيضاً قوة عسكرية لجهاز الأمن الوطني والمخابرات.. ثم لاحقاً “قوات حرس الحدود”، و”قوات الدعم السريع” في 2013، لمواجهة التمرد في دارفور، وكجيوش شعبية موازية أو تابعة مضادة لجيوش متمردة في إطار الكفاح المسلح للقوى الريفية السودانية، أو لحفظ التوازنات العسكرية، التي ترتبت على “لا مركزية السلاح”، وتعدد الجيوش على الأرض السودانية، كنتيجة لسياسات التمكين العسكرية لنظام الحركة الإسلامية.
كذلك أصبحت المؤسسة العسكرية بأذرعها المختلفة عنصراً رئيسياً في السوق والتجارة وصناعة السلع، ومنافساً كبيراً للقطاع الخاص والحكومي في العطاءات والاستثمارات.. مع نهايات عام 2020 وبحسب رئيس مجلس وزراء الفترة الانتقالية، د.عبد الله حمدوك، سيطرت المؤسسة العسكرية على ما يساوي 82% من إيرادات الدولة، لكنها لا تصل إلى الخزينة والمالية العامة..
بصورة عامة انطبق على فترات الحكم العسكري الثلاث في السودان، ما انطبق على عهود الأنظمة العسكرية في أفريقيا عموماً.. فقد كشفت تجارب الأداء العسكري في الحكم مقارنة بالأداء المدني، أن الأداء الاقتصادي للأنظمة العسكرية لم يتميز عن المدنية إيجاباً.. بدأ الحكم العسكري الأول عهده بفائض في ميزانية الدولة وانتهى ورئيسه الفريق إبراهيم عبود يطالب المواطنين بـ”شد الأحزمة على البطون”.. ورفع نظام مايو شعار “السودان سلة غذاء العالم”، ولكنه انتهى بمجاعة كبيرة عام 1984 – 85’.. وكان أحد الشعارات الرئيسية لنظام الحركة الإسلاموية في بداياته “نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع”، وعندما سقط النظام في 2019 كان ملايين السودانيين يعيشون على الغوث الأجنبي في المعسكرات وأطراف المدن..
ولم يكن الأداء السياسي للحكومات العسكرية أفضل حالاً، بل أضعف وأفقر بشكل كبير مقارنة بالأنظمة المدنية المدنية .. وطبيعي أن الحكومات العسكرية جميعها مستبدة وتفتقر للحريات الأساسية، وتحكم بعكس رغبة الجماهير.. هذا إضافة إلى أن التجارب أثبتت أن مشاركة الجيوش في العمليات السياسية البعيدة عن مهمتها الرئيسية تنتهي بتناقص كبير في جاهزيتها وفعاليتها العسكرية، وربما تلجأ الأنظمة إلى بناء قوات منافسة لها، كما حدث لدينا في السودان على عهد الحركة الإسلامية، بإنشاء قوات الدعم السريع.