نظام الحكم الذاتي الإقليمي : تجربة سودانية ناجحة وإن قُوِّضت!


لكن السؤال المهم هو : كيف يمكن حكم السودان بعد إنفصال الجنوب وذهاب نظام المؤتمر الوطني ؟ هناك في وجهة نظري ، إحتمال ان ما اعلنتها وصادقت عليها الحكومة السودانية مؤخراً قد يكون المخرج نحو سودان مستقر وموحد ، وهو إعلان تطبيق نظام الحكم الذاتي الإقليمي لمنطقتي جنوب كردفان و جنوب النيل الأزرق ودارفور آيضا ، نزولاً لمتطلبات اتفاقية جوبا للسلام ؛ و هذا في نظري يدعم مصداقية السلام في السودان.
ما أريد ان أساهم به في هذا المقال ، هو كيف يجب علينا في جنوب السودان الوقوف مع الشعب والحكومة السودانية في ان يكون السودان هو القدوة في المنطقة في تطبيق نظام الحكم الذاتي من أجل إدارة التنوع لتحقيق الاستقرار وتقدم البلاد ، علي رغم من خروج جنوب السودان من التنوع السوداني هذا . والسودان مؤهل لتحقيق الاستقرار السياسي والإجتماعي والاقتصادي في (إقليم الايغاد) بصفة خاصة وإفريقيا بصفة عامة لما لدي السودان من تجربة في مجال الحكم الذاتي.
التجربة السودانية في مجال الحكم الذاتي الإقليمي كانت تجربة رائدة ومتقدمة في مجال إدارة التنوع والتعددية في افريقيا، قدمت انموذجاً فريداً وناجحاً إلا انها انهارت بعد عشر سنوات من تطبيقها. إن إنهيار تلك التجربة ، أدت الي ما آلت اليها الأوضاع في (السودانين) حالياً. و يبدو ان المفكرين السودانيين لم يحاولوا دراسة تلك التجربة بشئ من الجدية و العمق العلمي لمعرفة عوامل ، فشل تلك التجربة السودانية الرائدة. الذين تطرقوا لها قلة قليلة ومن بينهم السيدان : أبيل إلير و جوزيف لاقو وهما من تمت علي يديهما اتفاقية أديس أبابا عام ١٩٧٢ والتي بموجبها تم تطبيق نظام الحكم الذاتي في جنوب السودان وهما آيضا تحت مرآيهما تمت تقويض تلك الإتفاقية.
عندما تم تطبيق الحكم الإقليمي بدأية من عام ١٩٧٢، شهد جنوب السودان استقراراً حقيقياً في مجال الأمن بصورة عامة والاستقرار الإجتماعي بصفة خاصة. ورغم عدم توفر أموالٌ للتنمية الا ان الخدمات الاجتماعية من تعليم وصحة قد شهدت طفرة كبيرة جداً كما ان الطرق ، رغم عدم سفلتتها فإنها، ربطت عواصم المديريات والمراكز وسهلت عملية التواصل التجاري والإجتماعي بين المكونات الإدارية والإجتماعية في الجنوب.
إن الطفرة الخدمية التي شهدها الجنوب بين أعوام ١٩٧٢-١٩٧٨ تعود أساساً الي أعتماد الحكومة الإقليمية أنذاك علي عناصر ادارية ذات تدريب تخصصي عالي و خبرات وكفاءات مهنية مكتسبة من الخدمة الطويلة، وهي كانت عناصر متدني الفساد وسطها، ومهنية في تعاملاتها الوظيفية. هذه الكفاءات المهنية إنعكس جهودها في بسط حكم القانون و استقرار الأمن وتقديم الخدمات الاجتماعية بصورة متوازنة بين مكونات الجنوب ، وإن كانت محدودة بسبب نقص الأموال.
كان هناك عنصر أخر هام ، ساهم في نجاح تجربة الحكم الإقليمي : كان وجود جهاز تشريعي ، منتخب ديمقراطياً ، (مجلس الشعب الإقليمي او البرلمان) قوي ومستقل لا يعمل بتوجيهات من الجهاز التنفيذي. ساهم البرلمان في الإقليم في محاربة الفساد بكل اشكاله. لكن هذا العنصر فقد قدرته الرقابية عندما بدأت الحكومة المركزية تتدخل في شئون الحكومة الإقليمية عام ١٩٨٠بما فيها البرلمان ، دب الوهن والضعف علي الحكم الإقليمي و بدأ إنهيار اتفاقية أديس أبابا التي انتهت رسمياً عام ٠١٩٨٣
السودان حالياً يقوم بتطبيق نظام الحكم الذاتي في المناطق التي ذكرتُها ، ومن الممكن ان تنجح تجربة الحكم الذاتي اذا راجعت قادة السودان تجربة (الإقليم الجنوبي) ١٩٧٢-١٩٨٣. وفي اعتقادي هناك العديد من العوامل التي ساهمت في تقويض الحكم الإقليمي في جنوب السودان وساهمت في قيام الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان عام ١٩٨٣ ومن بين تلك العوامل:
1. تجويع الحكومة الإقليمية اقتصادياً وتنموياً. الحكومة المركزية كانت تريد ان تكون حكومة الإقليم صورية من اجل وقف الحرب، وكسب الدعم الإقليمي والدولي وتحويل المصروف الحربي لتنمية الشمال!
2. وجود حكومتان متعارضتان منهجياً، حكومة (مركزية) عسكرية ديكتاتورية متسلطة، وان استخدمت سياسيين مدنيين، وحكومة (إقليمية) مدنية ديمقراطية منفتحة في الجنوب.
3. نجاح الديمقراطية في الجنوب من خلال ممارسة انتخابات حرة و نزيهة (انتخابات عام ١٩٧٤ و انتخابات عام ١٩٧٨) كان تهديداً حقيقياً ومباشراً لوجود النظامين الدكتاتورين في كل من السودان ومصر.
4. الحكومة المركزية لم تكن لديها اَي مشروع قومي في الجنوب من تخطيطها ، تماثل المشاريع التنموية الهائلة المبتكرة ، في مجال صناعة السكر والطرق المسفلة والمطارات الحديثة وغيرها من بنية تحتية في الشمال ؛ هذا عمق من شعور التهميش عند الجنوبيين.
5. نمو التوجه القبلي في الجنوب والصراع علي المناصب الدستورية لما تحملها معها هذه المناصب من إمتيازات ومنافع مادية وساندت ودعمت (الحكومة المركزية) هذا التوجه المتخلف.
6. التدخل من قبل الخرطوم في الانتخابات في جنوب السودان ١٩٨٠-١٩٨٢، و هو أمر كان تستهجنه ساسة الجنوب في بدأية الامر ولكن فيما بعد أحتضنته النخبة الجنوبية من اجل الوصول للمناصب العليا.
7. المعارضة السياسية القوية من قبل المعارضين الحزبيين للنظام في الشمال، والرافضة لاتفاقية الحكم الإقليمي لعام ١٩٧٢، تمكنت هذه المعارضة الشمالية من خلق وإشاع وهماً قوياً وإفتراء خصيصاً يزعم بوجود (بنود سرية) لاتفاقية أديس أبابا مما زرع الشك والريبة في عقول ونفوس مؤيديهم السياسيين ومريديهم الدنيين وتوابعهم الأيديولوجيين عن عدم وطنية هذه الاتفاقية!! .
8. بعض السياسات الفوقية كانت تتفق عليها الحكومتان المركزية والإقليمية و لم تكن مقبولة لدي شعب جنوب السودان، خصوصاً فيما يختص بمشاريع قيلت انها قومية في حين كان يراها شعب جنوب السودان ، بأنها محاولة للهيمنة و التغول علي موارد الجنوب: و من بينها مشروع قناة جونقلي وإنشاء مصفاة البترول خارج الجنوب ، وتعديل حدود ١٩٥٦ بين الجنوب الشمال . هذه السياسات عمقت وزادت من عدم الثقة لدي شعب الجنوب في الحكومتين وظهور الشعور (بضبابية مستقبل الإنسان الجنوبي).
9. السياسات (القومية) في كثير من المجالات ، مثل الخارجية ، كانت تطبق حسب ما تقررها الحكومة المركزية دون الاهتمام برأي و موقف حكومة وشعب الجنوب .
10. سياسات (الكشة) وطرد وترحيل الجنوبيين قسراً من الخرطوم والعديد من مدن الشمال وما صاحبتها من إزلال وتنكيل، فسرها الجنوبيون علي انها عنصرية صرحاء وجددتْ وعضدتْ من شكوك الجنوبيين القديمة التي قيلت في مؤتمر جوبا عام ١٩٤٧ بان وحدة الشمال والجنوب ستكون عقيمة! .
11. اعلان و تنفيذ نصوص (قوانين) الشريعة الإسلامية ١٩٨٣، وبديهياً كان هذا اعلان سياسي ، واجتماعي وثقافي صريح بإلغاء مبدأ حكم السودان من خلال (الاعتراف) بالتنوع الثقافي والاجتماعي والديني والذي استندت عليه مقررات مؤتمر المائدة المستديرة مارس ١٩٦٥، وإعلان التاسع من يونيو عام ١٩٦٩، وقانون الحكم الإقليمي لسنة ١٩٧٢ ودستور عام ١٩٧٣.
12. قوات الانيانيا التي (استوعبت) في (الجيش السوداني) عام ١٩٧٢ لم تكن مندمجةً اندماجاً كاملاً مهنياً وإجتماعياً في (الجيش السوداني). كان يطلق علي أفراد قوات الانيانيا من قبل أفراد (الجيش السوداني) اسم (المستوعبون) وهو إسم ينطوي علي تقليل من (مهنيتهم العسكرية) مما خلق شرخ نفسي عميق بين مكونات الجيش السوداني آنذاك . ذلك الوضع النفسي لدي مكون الانيانيا في الجيش السوداني في الجنوب (وضبابية مستقبل إنسان جنوب السودان) مهد ودعم علي ما حدث عام ١٩٨٣ عندما تجددت الحرب مرة أخري في السودان ، والتي نتجت عنها (حق تقرير المصير) واستقلال جنوب السودان ٢٠١١.
نحن في الجنوب لم نقم بدراسة عوامل نجاح و فشل تلك التجربة لأننا ورثنا الكثير من نواقص الحكم الرشيد. كان من المفترض ان نبدأ نظامنا بثلاثة أقاليم ، لكل إقليم نظام حكم ذاتي علي غرار اتفاقية أديس أبابا ، ١٩٧٢ومن خبرة الحكم الذاتي نمضي نحو النظام الفدرالي. اتمني ان تنجح السودان في قيادة المنطقة وإفريقيا نحو نظام الحكم الذاتي.
