الصاوي والزيلعي ورهانات السياسة

زين العابدين صالح عبد الرحمن
الأزمة السياسية التي تضرب السودان الآن هي أعمق أزمة في تاريخ السودان المعاصر منذ الاستقلال ، وهي تشكل أختبار حقيقي للعقل السياسي السوداني ، الذي يساهم مساهمة كبيرة في تعقيد الأزمة و تعميقها ، وأيضا تمثل تحديا للنخبة المثقفة التي تم استقطابها لحالة الاصطفاف “ضد و مع” وحصرت نفسها في هذه الدائرة إلا القلة. الذين يبحثون عن حلول للأزمة بعيدا عن عملية الاستقطاب ، باعتبار أن الدخول في دائرة الاصطفاف تقيد العقل و تقزم من دوره لأنها تجعله محكوم بشروط الاصطفاف . لكن أيضا هناك أشراقات تحاول أن تقدم رؤى تحاول أن تجر بها القوى المستنيرة في المجتمع لفتح حوار سياسي لكي ينقل الناس إلي أسئلة جديدة مغايرة لتلك الأسئلة التي صنعت الأزمة. وفي هذا المقال أحاول أن أطرح رؤيتين لمفكرين سودانيين . الأستاذ الراحل عبد العزيز حسين الصاوي ” محمد بشير أحمد” والأستاذ صديق الزيلعي . الرؤيتان ليست اقتباس من أطروحاتهم السابقة ، بل من أخر ندوتين لكليهما. قدم الصاوي رؤيته في مداخلة في ندوة تحدث فيها الدكتور مضوي أبراهيم بعنوان ” إشكاليات التحول الديمقراطي في السودان” في “مركز أبحاث الديمقراطية والدراسات الإستراتيجية” باستراليا. و قدم الزيلعي رؤيته في ندوة قبل أيام بعنوان ” ازمة الحكم في الفترة الانتقالية” في منبر تجمع السودانيين لدعم الثورة السودانية بمنطقة ديلمارفا ولاية ميريلاند بالولايات المتحدة.
معروف أن المفكر لا يشتغل بحالة الاصطفاف الجارية في المجتمع ، ولا يتقيد بأي أطروحات ولوائح حزبية ، وانتماء يجعل رؤيته مقيدة بالمنهج العلمي هو ينطلق في البحث عن الظاهرة بافتراضات منهجية ، ويحاول أن يدرس هذه الافتراضات ، حتى يصل إلي خلاصة. فالمنهج العلمي وحده هو المرشد للمفكر إلي جانب المعلومات المتوفرة عن الظاهرة. فهو لا يريد أن يهزم جانب ، ولا يريد أن ينتصر لجانب ، هدفه الوصول إلي رؤية تخرج المجتمع من أزمته ، والوصول للهدف ” التحول الديمقراطي في البلاد” وإذا نظرنا في تاريخ التحولات التي ظهرت في العالم تجد اسماء المفكرين أو السياسيين الذين يشتغلون بالفكر هي الباقية على صفحات التاريخ وغابت البقية. العالم كله يعرف مارتن لوثر الذي خاض عملية الصراع الفكري داخل الكنيسة التي أدت لعملية التحول السياسي الديمقراطي في أوروبا ولا يعرف السياسيين في عصره ولا كتبة المقالات المصطفين ” مع – ضد” و لا الهتيفة. ويعرف إيمانويل كانت وهيغل وجون لوك وديكارت فولتير وادم سميث وآخرين . ويعرف دينك شياو ينك باني نهضة الصين الحديث ولا يعرف السياسيين الذين كانوا معه . هذه ميزة المفكر أن ينحت أسمه في قلب مجتمعه .
قال الصاوي في مداخلته ردا على حديث الدكتور مضوي الذي عدد التحديات التي تعترض مسيرة التحول الديمقراطي . أن العقل السياسي السوداني لم يكن مهيأ التهيئة الكاملة لفك الاشتباك بين ميوله السياسية وبين المنهج الذي يجب أن يشكل حجر الزاوية في عملية التغيير . هناك ضعف في القاعدة المعرفية التي ينطلق منها السياسي ، وفي عملية الاستنارة بقضية الديمقراطية وشروطها. لذلك يحاول أن يبحث عن تبريرات لعجزه ، تجده يحاول أن يكسب الشارع دون النظر إلي أن خطابه ربما يكون متعارضا مع الهدف هو الديمقراطية ، وهو لا يريد للهياج الثوري أن يهدأ رغم التوقيع على الوثيقة الدستورية ، لآن التحول من الثوري إلي الدستوري سوف يطرح عليه أسئلة ؛ ماذا الذي يمكن أن يقدمه لعملية البناء الديمقراطي ؟ هذا السؤال رغم سهولته لكنه يكشف إذا كان هو يمتلك رصيدا معرفيا عن عملية التحول الديمقراطي أم أن جرابه خالي الوفاض . والمسألة ليست مرتبطة به شخصيا أيضا بالمؤسسة السياسية التي ينتمي إليها. لذلك نرجع و نقول أن الأحزاب السياسية طوال صراعها مع الإنقاذ لم تستطيع أن تقدم أطروحات تهئ بها الشعب لمرحلة ما بعد السقوط . هنا يرجع مرة أخرى الصاوي لأطروحته ” الاستنارة والتعليم” بأن الديمقراطية والنهضة هما عمليتان لابد من سيرهما معا في المجتع ، فالتعليم يقدم الأرضية الفنية والمهنية المطلوبة للنهضة إلي جانب العقل الذي يتبع خطوات منهجية ، والاستنارة مسألة ضرورية لأنها تؤسس علي الحقوق والواجبات والوعي بالعملية السياسية بعيدا عن الهتاف والتبعية العمياء . فالقوى السياسية تغفل الأثنين لأسباب ، قال الصاوي عنها تحتاج لندوة لوحدها. لذلك يقول في مداخلة في ندوة المحبوب عبد السلام ” صراع العلمانية والإسلام” في ذات المنبر . أن ابعاد كل الإسلاميين بضربة لازب تحدي لا تستطيع القوى السياسية أن تؤسس عليه الديمقراطية ، ربما ينحرف المقصد لكي يؤسس شمولية جديدة . وقال أن الديمقراطية تحتاج إلي تجميع أكبر قاعدة أجتماعية حتى لا تبعدها عن المسار الرئيس لعملية التحول الديمقراطية ، والسماح لها سوف يجعل مركز قوى الثورة يتحكم في تأسيس عملية التحول بشروط الديمقراطية . أما إذا دخلت دائرة التحدي وأحدثت مساومة سياسية نتيجة لذلك تكون عملية التحول الديمقراطي مهددة ، بسبب الاختلال الذي يحدث في ميزان القوى ، يجب القوى الديمقراطية تجنح عن الابتعاد عن الاشياء التي تؤثر سلبا على ميزان القوى من خلال فتح صراعات كان يمكن تداركها ، إذا استطاعت أن تفتح دائرة المشاركة ليس في عملية السلطة ولكن هناك جوانب عديدة منها ممثلين في المجلس التشريعي فتح الحوار حول الدستور وغيرها . أن الصاوي لا يتقيد بأي كوابح حزبية ، لذلك اعتقد أن الانطلاق في مشروعه الفكري يجعله يفك ارتباطه الحزبي ، و يصبح حرا في تناول القضايا التي يبحث فيها ، وبالفعل خرج من الحزب.
تحدث في ندوة ديلمارفا كل من صديق الزيلعي والدكتور إبراهيم الأمين ، حيث قدم الأخير شرح لمجريات الأحداث والصراع داخل قوى الحرية والتغيير منذ تكوينها ، وعملية الانحراف التي تمت نحو المحاصصات ، الأمر الذي أدي للخلافات المستمرة . أخذ الزيلعي منحى أخر بعيدا عن حالة التوصيف ، وبدأ يطرح حلول تناصر أهداف الثورة ، وكيف الخروج من الأزمة الحالية ، حيث بني أطروحته في عاملين مهمين . بعد ما تحدث عن ضرورة وحدة قوى الثورة . تحدث عن أهمية تكوين المجلس التشريعي وقال يجب أن لا يكون عبر المحاصصات التي تمت في السلطة التنفيذية ، بل يجب أن يشمل القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني و الثوار ، لكي يكون المجلس التشريعي مؤسسة تقدم فيها البرامج والأطروحات ، حتى لا يكون المجلس ساحة لحوارات بيزنطية غير مفيدة ، بل تكون ساحة تقدم فيها المجموعات برامجها ومشروعاتها السياسية ، ويتحول المجلس التشريعي لمؤسسة لنشر الوعي السياسي المرتبط بالديمقراطية . والزيلعي عندما يؤكد على البرامج يريد أن ينقل الحوار من حالة الاصطفاف إلي حوار يعطى فيه مساحة واسعة للعقل ، وهناك ينتج الوعي الايجابي الخلاق في المجتمع . وهو الذي يشكل صمام الأمان للعملية الديمقراطية ، والذي يعلم أن الصراع الدائر الأن في الغرف المغلقة سوف يدور في ساحة مفتوحة ومنقول حوارها للناس الأمر الذي يجعل كل شيء علة مائدة الجماهير .
الثاني تحدث الزيلعي عن عملية الإسراع بإكمال قانون النقابات حتى تستطيع النقابات قيام مؤتمراتها وأختيار قياداتها ، وهنا أيضا يذهب الزيلعي بطريق غير مباشر لعملية الوعي والاستنارة في العملية الديمقراطية ، وأيضا التأمين . باعتبار أن النقابات هي مؤسسات مدنية تصعد علي قمتها القيادات الواعية التي تستطيع أن تشكل أداة للضغط علي السلطة التنفيذية. وأيضا أن الشروع في عملية انتخابات النقابات تنقل الصراع من دائرة ضيقة ممثلة في السلطة التنفيذية إلي دائرة أوسع هي النقابات وهنا يصبح الصراع السياسي دائر في كل المؤسسات في الدولة ويفرز القوى السياسية الحقيقية التي لها قاعدة اجتماعية تساعدها في عملية الصراع الديمقراطي ، هذا التحول أيضا يساعد على إنتاج الثقافة الديمقراطية التي تنداح على الثقافة الشمولية وتقزمها ، وأيضا توسيع دائرة الصراع مما يفتح مدارك الناس ونشر الوعي في المجتمع . أن الزيلعي يعتقد أن حصر الصراع في دائرة واحدة يعد جمود للعقل وتقليص للمساحة التي تتحرك فيها القوى الفاعلة في المجتمع ، لكن اتساع الحركة ومشاركة أكبر قطاع من الجماهير بتياراتهم الفكرية المختلفة هو الذي يبشر بنجاح عملية التحول الديمقراطي . لكن يرجع الزيلعي يضع جمل إضافة ليست لها معنى هي “تنشيط وفاعلية الثورية”. والزيلعي يعلم يقينا أن الثورية تتعارض مع عملية البناء المؤسسي والدستوري . لكن الرجل يريد فقط أن يذكر ألناس بحالة الانتماء ، رغم أنه غير فاعل فيها. السبب الأول أن الزيلعي يفكر خارج الصندوق الأمر الذي يجعله أكثر حرية في تناول القضايا ، والثاني يضطره التفكير أن لا يتقيد بمرجعية محكمة الإغلاق . ونعود لحوارات أخرى تقدم أطروحات لحل الأزمة .
نسأل الله حسن البصيرة.