مقالات سياسية

استنهاض الوعي الشعبوي (الرهان) على تغيير النظام

سبعة وثلاثون قتيلا وعشرات الجرحي حصيلة احتجاجات  ثورة ديسمبر  التي بلغت اشدها في موكب الأثنين 31 ديسمبر, هي العنوان الابرز  لأحداث المباراة  الماراثونية التي تدور رحاها منذ  ثلاثة عقود بين  النظام وشعبه , فمشاهد  الحشود  العسكرية مدججة بالسلاح  من كل نوع في مواجهة شعب اعزل خرج ليعبر عن رأيه  تحكي  بجلاء عن مأساة هذا  الوان المنكوب, فقد اتاحت تلك المشاهد  للتأمل بدقة في مصير هذا الوطن المأزوم , اذ  لا يجد المرء ادني عناء  ان الامن في بلادي يقوم بأمتياز علي منهج حماية  النظام من الشعب ,لأن  المفترض  ان يكون  العكس , ولكن لا غرابة في ذلك  اذ ان  النظام  في حالة حرب  مع  الشعب  الذي يحكمه  علي اكثر من جبهة   منذ يومه الاول بحكم  انه انقلب علي حكومة شرعية منتخبة  تسندها ارادة جماهيرية ,  وفي هذه  الحالة يكونة يكون  الهاجس   الاكبر لهذه  الانظمة  المتسلطة  هو الخطر  المتوقع من تلقاء  الشعوب  فتكون  بالتالي  اجهزة  الامن لحماية  النظام وليس الشعب   او  الوطن, فنشر الالاف من القوات  النظامية بمسمياتها المختلفة لمواجهة  المواطنين  العزل يؤكد حقيقة واحدة بأن النظام بات معزولا من الشعب وبالنتيجة فأن من  الطبيعي أن يستحوذ الامن والدفاع علي  نسبة كبيرة جدا من الصرف الجاري في كل الاعوام التي حكمها  النظام حتي موازنة العام 2019  ولا توجد ادني مقارنة بالصرف علي الجوانب الخدمية كالصحة والتعليم , فالأنظمة  المتسلطة  وفي سبيل الحفاظ  علي بقائها  ترتكب التجاوزات وتكون مضطرة لتضخيم  دور الاجهزة الامنية من حيث  الامكانيات  والصلاحيات , فالقاعدة الذهبية كلما  اتسعت مساحة  العداء  الداخلي للنظام  الاستبدادي كلما توسع في التدبير  القمعية  ومتطلباتها والعكس صحيح.

لقد  أصبح  الوطن  في خطر حقيقي  جراء افعال هذه العصبة  التي تحكم البلاد  بعقلية (ماري انطوانيت) بعد ان انكشف امرهم للعيان واتضح ان مشروعهم الحضاري ما هو الا (همبتة)  , فالمشهد  الرئيسي للأحداث الجارية هو السقوط الاخلاقي للنظام,فمشاهد القمع المأساوية ضد المتظاهرين وسقوط الضحايا  مثلت تجليا صاخا للطغيان حين تعميه ثغرة القوة الغاشمة ,فهما لا يأتيان الا عن الجهل والغرور ,فالطغيان في نفسه تضخم ذات من يمارسه في عينه ما يدفعه للتعدي علي الاخر وحقوقه دون ان يهتز لهم ضمير او يرمش له جفن, وكما ورد عن عن ابي يزيد البسطامي أحد أقطب التصوف انه كلما تجرد المرء من عن الذات كلما تجلت الحقيقة , وبمفهوم المخالفة لتلك المقولة المأثورة كلما تضخم ذات المرء عنده كلما عمي عن الحق وهذا ينطبق علي الافراد كما الجماعات , ولأن الجاهل عدو نفسه فأن الطغاة البغاة بالضرورة اعداء انفسهم لأنهم لا يتورعون في استخدام أسلحة سترتد عليهم غدا , وقد روي الأمام (علي بين أبي طالب )كرم الله وجهه قوله ” من أستل سيف البغي قتل به ” ولا شك ان الطغيان الملتحف بدثار الجهل والغرور هو ما حمل السلطة لأرهاب المتظاهرين بأطلاق النار بهذه الطريقة البشعة وبالتالي سقوط الضحيا , حتي وان حدث تخريب كما يدعي قادة النظام  فهو نسبي  ولا يرقي لأن يجابه بالقتل ,وبغباء لا يحسد عليه أسدت سلطة النظام خدمة جلية لخصومها وفضحت نفسها واركستها في مستنقع السقوط السياسي والاخلاقي .

التغيير مخاض حالة تراكمية بدأت أعراضها  منذ هبة سبتمبر  التي كانت نقطة انطلاقة  شكلت محفزا لما بعدها   , فالمتظاهرين  ظلوا يخرجون مرارا للتعبير عن رأيهم   صراحة  فكانت رسائل  بليغة الي النظام بأن الشعب لا يريده ,   وفضحته بأنه  بلا اي سند جماهيري كما ظلوا يزعمون  علي الدوام وبأن عضويتهم تفوق الخمسة ملايين ,فالاحتجاجات هذه المرة تمددت بصورة غير مسبوقة خارج الخرطوم  وشملت حتي الريف والمدن الريفية  أحدثت هزّة عنيفة داخل اروقة النظام المتسلط خاصة بعد حرق بعض    دور  النظام الحاكم كمشاهد غير مألوفة  أرتعدت  لها أوصالهم  بالرغم من مغالطتهم للواقع واتهامهم لطلاب من ابناء دارفور يدرسون بجامعة سنار بأنهم يتبعون لحركة عبدالواحد بتلقيهم تدريبات في اسرائيل   لأثارة اعمال  العنف  ولم يقدم دليلا حتي الان , فالنظام يريد ان يصرف الأنظار عن الأزمات الأساسية للبلاد بدلا عن السعي  الي حلها  وأستعطاف  الرأي العام بأن الوطن هو المستهدف في أمنه وأستقراره وليس نظامه   ، تستهدف أمنه واستقراره , فهذه  التكنيكات  احدي أكليشهات العصبة الحاكمة  في مغالطتهم للواقع في زمن العولمة والمعلومة الحاضرة (بضغطة ذر )وانكار الحقائق بدلا عن مواجهتها بشفافية.

أن أكثر ما يثير الدهشة في أن رأس النظام لا يزال  يعتقد غباء المواطن السوداني مستهينا بضعف ذاكرته ,وبالتالي  فخطاب البشير  ليلة الحادي والثلاثين لم يأتي بجديد  سوي  المزيد من الوعود المكررة بشأن الأصلاحات  واللجوء الي صندوق  الأنتخابات وهي المعروفة نتائجها  في ظل ظروف غير مهيأة ونزيهة  ..! وبالتالي كان الخطاب  فارغ من مضمونه ,وكذلك قراره بشأن تكوين لجنة تقصي للحقائق يرأسها وزير العدل  فهو يغالط الواقع  لأن احداث سبتمبر 2013 التي سقط فيها العشرات  من الضحايا   لم يصدر بشأنها أي جديد فيما يختص باللجنة التي كونت بشأنها بالرغم من مضي اكثر من خمسة سنوات علي احداثها  , ولكن ما لا يعيه البشير ونظامه أن السخط الشعبي قد ظل متزايدا  بالتزامن مع تنامي الوعي الشعبوي ,فهذه هي  النقطة الأساسيىة التي نراهن عليها لأسقاط  النظام ,  فالمتمعن في خطاب البشير  الباهت  ومسرحية اتهام طلاب دارفور بأنتمائهم لحركة عبدالواحد  وبأنهم تلقوا تدريبات في اسرائيل لزعزعة أستقرار الوطن  يدرك انها أكليشهات الغرض منها   أضعاف الحراك الجماهيري ,و زرع الاحباط والتأكيد علي أنه ليس في الامكان أفضل مما كان , ولو ذهبت الحكومة لتحول الناس الي شحادين  , فالرئيس المصري المخلوع (محمد حسني مبارك)  حين أشتد عليه الضغط من الشعب المصري وطالبه بالرحيل , برر تمسكه بالكرسي خوفا من حدوث فوضي وحدوث ما لا يحمد عقباه, فذهب ولم تحدث الفوضي علي النحو الذي كان يروج له نظام (مبارك)وهذه هي النقطة التي يتطرق لها النظام   حال ذهابه عن السلطة  ,فهم يلعبون في المساحة الممتدة  ما بين التغيير ومتطلباته لأحباط أي  محاولة للتغيير بأعتبارأنهم  شعب الله المختار , وليس في الامكان أفضل مما كان,  ولكي  يحبطوا عملية التغيير  يعيدوا الناس الي صفوف الرغيف والبنزين ويتقاضون الطرف  عن شلالات الدم التي سالت في التظاهرات و دارفور وجنوب كردفان وكجبار وبورسودان ونزوح الالاف من اللاجئين,  والمواطن يحارب بالضرائب الباهظة  وتارة  بالمعاناة  والكثير من الكبائر التي ارتكبتها عصبة الانقاذ في حق الشعوب السودانية, اليس هذه كلها مسائل كافية بالتغيير….؟

ما لا يفهمه البشير وعصبته ان الدولة السودانية السودانية أضحت مهيأة اليوم أكثر من أي وقت مضي لحالة الغليان الشعبي, كونها تعيش  اليوم اسوأ مراحلها , وكيف ان سعر الدولار الذي قال نظام  الانقاذ  انه يريد  ايقاف ارتفاع سعره حتي لا يبلغ 12 جنيها للدولار الامريكي….! ليصل اليوم الي ارقام فلكية لم يكن اسوأ المتشائمين يتوقعها , اضافة الي ارتفاع اسعار السلع الاستهلاكية التي اثقلت كاهل المواطن , وارتفاع سعر السكر لا يوجد ما يبرره….!

رغما عن وجود اكثر من 6 مصانع في البلاد ليفوق سعره للمستهلك السوداني السعر في اي مكان في العالم تقريبا, أضافة الي التدهور المريع في قطاعات مهمة كالصحة والتعليم , وغيرها من الخدمات الحيوية  للمواطن. فكلها جزء من  اسباب منطقية للسخط الشعبي   في الشارع العام هي التي تولد الاحتقانات،  فصورة السودان في العالم الخارجي  بلغت مرحلة من التشويه لم تبلغه طوال حقبها السابقة، وانتهي  الامر الي  لهذا النظام الي اعتقال شعبه  فارضا نفسه  عليه بالقوة , والي أن يكون  موقع الدولة السودانية  متقدما في  مؤشرات الفشل والايلولة الي الانهيار  , اما تقارير  الشفافية العالمية  فقد وضعت السودان  بين الدول الاكثر فسادا, فضلا عن تقرير المراجع العام  والحكومي  نفسه عن حالات الاعتداء علي المال العام في كل عام , والتقارير الدولية التي ترصد مؤشرات الازدهار وحصول السودان في كل ذلك علي  مراتب دنيا  تجعله تاليا لبلد مثل الصومال لا توجد فيه دولة , والان لا توجد في السودان دولة بمفهومها المعروف انما  مافيا سيطرت علي امكانات الدولة.

المثني إبراهيم بحر
[email protected]

 

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..