مقالات سياسية

لماذا تفشل الحكومات الدينية…

السؤال سيبدو ساذج وسطحي إن نحن قاربناه من منظور المعرفة التي كرستها عهود التجهيل وتجريف الوعي، التي أرسى قواعدها فقه السلطة والسلاطين والذي تمت حياكته بعيداً عن أعين (العامة) والعامة بالمناسبة هم كافة المسلمين والعالمين أجمعين باستثناء من صاغوا هذا الفقه لتبرير واقع تسلطي كان قائماً، ولكن بالنظر إلى مفهوم الدين والايمان باعتبارهما مفاهيم (إنسانية) متجاوزة للسلطان والجغرافيا معاً، وأن الدولة الحديثة تقيم الحقوق على أساس المواطنة وليس العقيدة، فستبدو لنا حينها وجاهة السؤول، الذي سينتهي بنا حتماً إلى استحالة قيام دولة دينية ذات حدود جغرافية، وهذا ما يبرر عجز الحركات الدينية عن اقامة دولة، فالدولة الدينية بحكم التعريف تكفر بالمواطنة لأن أساس الحقوق فيها قائم على الاعتقاد، لذلك كل دولة دينية هي دولة (مؤقتة) لن يكتب لها البقاء إلا إذا حكمت العالم كله، وذلك لانها بحكم تكوينها اقصائية ولا تقبل التعايش، لذلك يبقى الوطن الجغرافي في عرفها مجرد مرحلة.

الدين بمفهومه الدقيق جداً لا يكون ديناً إلا إذا مثَّل طاقة ثورية على الواقع، لذلك كانت مهمة الرسل تغيير الواقع بتقويض سلطان الطواغيت، فالدين إذن سيرورة ثورية، والطغيان بطبيعة الحال لا يكون إلا من السلطان أو المجتمع سواء بصورة مباشرة أو عبر تجيير سلطاته لرب العمل أو الأب أوالزوج أوالرجل عموماً، لذلك كل الأديان بلا استثناء جاءت لتحرير الانسان من ربقة السلطان لأن (السلطة مفسدة)، وبما أن فساد السلطان مبرر إنسانياً فكانت الحاجة لعمليات الاصلاح من القواعد أي الأفراد ضرورة وجودية، لأن الحكومات إفراز اجتماعي لا تصلح إذا لم يصلح الفرد.

بعد وفاة النبي صلوات ربي عليه، تولى الأمر من بعده خلفاء راشدون، صُنعوا على عين النبي الكريم، وكان فهمهم للسياسة على قدر عالٍ جداً من البراغماتية (بالمعنى الايجابي للكلمة)، أقول ذلك وفي وعيي المنهج العلماني (بالمفهوم الحذر للعلمانية) الذي اتبعه الخلفاء الراشدون في إدارة الدولة الوليدة التي لم تتشكل (كدولة) إلا بعد وفاة الرسول الكريم، لقد ورث الخلفاء مجتمع (رباني) يحركه الضمير (الفردي) الواعي، حتى أنه يُروى أن عمر بن الخطاب لم يجد (متخاصمين) ليحكم بينهم فطلب من الصديق اقالته من القضاء.

من ينظر إلى (مؤتمر) السقيفة يتأكد له تماماً أن الأمر لم يكن شأناً ديناً وإنما كان سياسة، فكل كتب التراث تشير إلى أن أبو عبيدة وعمر والصديق لم يستشهدوا في حِجَاجِهم مع سعد بن عبادة ورهطه من الأنصار بحديث (الأمراء من قريش) أو بأي آية قرآنية، وإلا لكان الأحرى (ديناً) بعبادة عدم المطالبة بالخلافة والانصياع لأوامر الشرع، بل الصديق نفسه كان ينتوي ترشيح عمر بن الخطاب أو أبو عبيدة، كل ذلك يدل على أن الصحابة (السابقون الأولون) رضوان ربي عليهم كانوا على علم ودراية بأن أمر الدولة شأن مدني بحت.

إذا نظرنا لحرب (مانعي الزكاة) التي تم تسميتها خطأً بالردة، فسنجد أن ليس لها مبرر ديني (لا إكراه في الدين)، فالزكاة طاعة لله (والطاعة من التطوع) ولا يمكن حمل المسلم على أداء الطاعات وإلا استحال الدين إكراه، وإنما تجد مبرراتها (العقلية) في حقل السياسية، فالدولة بوصفها حاضنة للدين الوليد كانت تواجه خطر الاقتلاع. فكان على الخليفة أن يحافظ على المجتمع (الرباني) ضد (الطامعين) وتحويله إلى دولة قوية تحمي وجودها. كذلك اسقاط سهم المؤلفة قلوبهم كان (اجتهاد مع نص)، واجتراح مفهوم الخراج (اجتهاد في غياب نص)، وبالتحري سنجد كافة أحكام إدارة الدولة آنذاك كانت محض استجابة للواقع (براغماتية)، ولا تصلح إلا لادارة الواقع الذي أنتجها.

ثم خلف من بعدهم خلف أضاعوا الدين والسياسة معاً، وأخص بالذكر (عصر التدوين) الذي تم فيه (تزوير الوعي السياسي)، وبدل أن تخرج علينا دراسات في علم السياسية (كاملة الدسم) تولى الأمر الفقهاء الذين كانوا (Jack of all trades and masters of none)، بلا شك الحمل كان ثقيلاً على هؤلاء الفقهاء، فقد كان مطلوباً منهم أن يفعلوا كل شيء، ولكن ما حال فقهاء الحداثة وما بعد الحداثة الذي مازالوا يحرمون حقوق الانسان وحقوق المرأة والحرية والمشاركة في الحكم لكي لا ننازع الأمر أهله.

غياب الصراع بين الفقيه والسلطان وسيرهما يداً بيدٍ فوت علينا فرصة قيام دولة مدنية، بخلاف ما حدث في أوروبا المسيحية، حتى المعارضة عندنا لها ظهيرها الديني وتتمثل أخلاق السلطان ولسان حالها يقول (لماذا أنتم ولسنا نحن).

صديق النعمة الطيب
[email protected]

‫2 تعليقات

  1. يا لروعة هذا الكلام، بارك الله فيك سيدي، ان مقالاتك -على قلتها- تمثل مدرسة متكاملة في الفكر السياسي والديني والاجتماعي.
    غير اني اعيب عليك في هذا المقال ما رسمته بصورة غير واقعية للصحابة حتى قلت ان سيدنا عمر قد طلب من ابي بكر إقالته من القضاء لعدم وجود متخاصمين. هذا الكلام يرفع الصحابة الى درجة أعلى من الرسول نفسه الذي كان يختصم الصحابة لديه، وكمثال على ذلك شكوى بلال بن رباح ضد ابي ذر الغفاري الذي شتمه بالقول يا ابن السوداء، بل هنالك الكثير من المرويات التي تتحدث عن المناوشات التي تحدث بين الصحابة تصل لمرحلة التشابك بالايدي والضرب بالنعال والجريد، بل منهم من كان يتجرأ على النبي نفسه.
    ان هذا الفهم المعتل لنفسيات واخلاق الصحابة لا يجب ان يصدر من كاتب مستنير، لان ذلك يخالف الطبائع البشرية، ثم ان الصحابة كان فيهم الورع والمحترم وكان فيهم (التافه) والمجرم والكذاب، خذ مثال ذلك ما قاله شاعر الرسول حسان بن ثابت في عائشة في قصة الافك الذي تولى كبره ونشره بين الناس، خذ ايضاً قتل خالد بن الوليد لأحد مانعي الزكاة والدخول على زوجته الجميلة في نفس اليوم دون مراعاة لمشاعرها او انتظار اكتمال عدتها.
    إن الصحابة درجات فلا يمكن ان اجمع علي وحمزة والعباس وأبا ذرفي درجة واحدة مع ابي سفيان وبقية طلقاء فتح ومكة او اخي عثمان من الرضاعة الذي كان والياً على أحد الامصار وياتي المسجد سكران طينة ويؤم الناس في صلاة الصبح ويصليها أربعة ركعات وعندما يحتج عليه المصلون يقول لهم ما معناه (لو ما سكتوا حازيدها). الصحابة بشر منهم من هو أعلى منا شأناً منهم من يماثلنا ومنهم من هم دون ذلك، حتى انني اجد القول عند ذكر النبي
    ( صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين) قولاً منافياً للمنطق، والا لماذا لا نقول ذلك في التشهد ونكتفي بالقول اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم.
    هذا ولك محبتي وتقديري واحترامي.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..