مقالات متنوعة

لا تصالحوا.. لا تصالحوا ولو منحوكم الذهب

محمد علي العوض

في استغفال واضح، وتجاهل تام لأبسط ألف باء السياسة القائلة بأنّ أي أزمة اقتصادية هي انعكاس طبيعي لأزمة سياسية ما؛ يحاول الحزب الحاكم تصوير الأزمة السودانية على أنّها أزمة اقتصادية عابرة تمر بها كثير من دول العالم لذا لابد من الصبر حتى تتم معالجتها.
لن تنتطح عنزان حول أنّ النظام فشل في معالجة أية قضية من قضايا الوطن المتراكمة منذ 30 عامًا، فالنظام فوق فشله الاقتصادي وعجزه عن حل الضائقة المعيشية التي تسببت فيها سياسات إقعاد الإنتاج والفساد، والنشاط الطفيلي، وتحالف الأثرياء مع السلطة، وحمايته لناهبي موارد البلاد؛ عجز عن إيجاد أيّ رؤية لحل عقدة الحروب الدائرة في أطراف البلاد وكلفتها، ومازال حتى اللحظة سادرا في غييه بصرف ثلثي الموازنة تقريبا على الأجهزة والأمنية والتجييش والقطاع السيادي وحشد عضويته خصمًا على موازنة الصحة والتعليم؛ حتى يضمن تجريد تلك الأجهزة والولاءات على معارضيه حين تلوح ساعة القمع.. فهو لا يملك حلاً للأزمة بخلاف الحلول الأمنية.
الآن ثمة إرهاصات تشي بأنّ القوى الدولية والإقليمية في هذه اللحظة تسعى لتحقيق هبوط ناعم وفق رؤيتها السياسية، وذلك بعقد تسوية تتمثل في تشكيل حكومة قومية يكون المؤتمر الوطني جزءًا منها، وتدفع في هذا الاتجاه قوى إسلامية تريد إعادة إنتاج نفسها خارج جلباب البشير بتنحيته، وقوى أخرى تقليدية يهمها فقط الحفاظ على شكل الدولة القديم في مواجهة المد الثوري المشتعل الآن، والذي لو قدر له النجاح فربّما يفُقدها بعضا من مصالحها وامتيازاتها التاريخية..
ظاهر الأمر أن هذه التسوية ربما تخفف غضب الشارع قليلا، ولكن بالتعمق أكثر سنجد أنّها تعيد إنتاج ذات الأزمة ولو بعد حين؛ علما بأن القاصي قبل الداني بات يعلم أنّ الأزمة السودانية ببساطة تحتاج حلولا ثورية حقيقية لا مسكنات زمنية تزول بزوال المؤثر.
اعتقد أنّ المظاهرات التي عمّت عشرات المدن والقرى السودانية أوجدت قاسمًا مشتركا بين كل مكونات الشعب السوداني، وخلقت وعيا شعبيا وواقعا جديدا يشكل منعطفًا سياسيا فاصلا في تاريخ السودان سيكون له ما بعده، ولن يعد بمقدور القادمين الجدد أن يُحكموا الشعب بذات عقلية نظام المؤتمر الوطني وتعاطيه مع مجمل الشأن السوداني.. قدمت المظاهرات درسا بليغا مجانيًا للجميع، بلا رسوم أو (قروش درس) ودون أن يحاضر فيها ذوو الكرافتات والأفندية عن مانفيستوهات الثورة ودستور الحزب الهمام؛ فما تعلمه الشعب السوداني في أيام معدودات من أدبيات نضال ووعي بالقضايا السياسية والتكتيكات الاحتجاجية يفوق بمراحل ما تُعلمه الأحزاب لكوادرها في سنين عددا..
المُعلم الوحيد في ذلك كان الشارع وشعارات الثورة ووسائل التواصل الاجتماعي التي أحسن الشعب توظيفها واستخدامها وسيلة لإسماع العالم صوته وسلاحا يخيف به المفسدين. فجملة مثل (يا العنصري المغرور كل البلد دارفور) على قلة كلماتها وصكها اصطلاحيًا بكل عفوية وببساطة تمثل تفكيكا وثورة على كل المقولات العنصرية الفاسدة.. ثورة على كل الهراء الذي حقن به الحزب الحاكم مفاصل الوطن والدولة.. ولو لم تخرج الثورة بمكاسب سوى هذه الجملة لكفاها ذلك فخرا.
الشارع الآن تجاوز محطة المطالبة بتنحي البشير، وصار يطمح لتغيير جذري في مفاصل وشكل الدولة السودانية التي يجب أن تُبنى مستقبلا على ركائز العدل، والمساواة في الحقوق والواجبات، والمواطنة الحقة في دولة ذات حالة إثنية وثقافية خاصة..
لذا يجب الإيمان بالثورة والتغيير أكثر، ومجابهة كل ما بإمكانه أن يرجعنا للمربع السابق أو يعيد إنتاج الأزمة السودانية؛ سواء كان ذلك المُجابه داخليًا أم لاعبًا إقليميًا خارجيًا.
لا تصالحْ!..
ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى..؟
هي أشياء لا تشترى

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..