
خليط من الصدمة والغضب والاحباط والضبابية تجتاح المشهد السياسي السوداني، بعد الانقلاب الغادر الذي قاده الجنرال البرهان، تحت غطاء محور الشر وتوجيهات السيسي. وما يدعو للخزي والعار ان هذا الانقلاب لا يجهض الفترة الانتقالية ومستقبل الديمقراطية والدولة المدنية في السودان فقط، ولكنه يمهد للفتنة بين الثوار ومجموعات الاجهزة العسكرية والشرطية والامنية والمليشياوية داخل الدولة السودانية! وهذا غير انه يعيد انتاج نظام الانقاذ بكل سمعته السيئة، وما سببته للبلاد من عزلة وحصار ومراكمة للديون، كانت مع سوء الادارة والفساد اكبر عائق لانطلاق الاقتصاد. وهذا ناهيك عن افرازات الاستبداد علي مستوي توطين الفساد وانحلال القيم وتدهور كافة مناحي الحياة والحلول في رتبة مؤخرة الامم.
وما يبدو من المشهد الآن، ان العميل البرهان ماضٍ في سيناريو السيطرة الانفرادية بالسلطة وفرض الوصاية علي كافة البلاد، متوسلا في ذلك البندقية، وما راكمته الانقاذ من خبرة امنية وتنظيمية في الامساك بعصب السلطة واقصاء الآخرين باقذر الوسائل. والخطورة تبرز من ان البرهان لا يفكر في تسليم السلطة، والثوار لا يرغبون في الاستسلام لهذا الواقع القهري، الذي يعد باعادة الاستبداد الداخلي والحصار الخارجي.
ورغم كم التناقض الذي يقع فيه البرهان بتبرير انقلابه غير المبرر، إلا ان توقيت وظروف هذا الانقلاب، هي دعوة مجانية للدخول في متاهة، لا يعرف لها نهاية مبشرة، ولا يعلم حجم اكلافها الباهظة، خاصة و الانقلاب ياتي في مرحلة طابعها الهشاشة الامنية والمعاناة الاقتصادية والاطماع الاقليمية، اضافة الي ميراث ضخم من اخطاء وكوارث وفساد نظام عدمي.
وصحيح ان الثورة لكي تنجح وتفي بوعودها، تحتاج للدعم من كافة القطاعات، وبما فيها القوات المسلحة، كضلع اساس، ليس لحماية البلاد من الاعتداء الخارجي فحسب، وانما الاهم لكف المغامرين عن امتطاء صهوتها واستخدامها ضد ابناء الوطن. ولكن للاسف هذه المؤسسة بطبعها والاصح بتربيتها الاستبدادية، اصبحت غير ثورية وليس لها رغبة في التغيير، ومع تعرضها للادلجة الاسلاموية انحرفت عقيدتها بصورة جذرية ناحية حماية النظام الحاكم، الذي نحي بدوره نحو مقاسمتها الامتيازات. وهذه العقيدة الفاسدة الاخيرة هي ما شكلت شخصية وطموحات وسلوكيات اللجنة الامنية التي افرزت المكون العسكري.
ولذا عندما واتت المكون العسكري الفرصة للحلول محل البشير علي سدة السلطة، تقمص شخصية وروح البشير، ولذلك لم يستنكف الاستعانة بفلول الداخل واعوان الخارج لنسج المؤامرات بغرض اجهاض الفترة الانتقالية، من اجل السيطرة الكاملة علي المشهد، للمحافظة علي الامتيازات غير المستحقة التي ورثوها من نظام البشير. اي عقيدة المكون العسكري وعلي راسهم البرهان هي خليط من الاجرام والفساد والعمالة، غايتها السيطرة علي السلطة بكافة الوسائل، غض النظر عن العواقب! وبالطبع ساعدهم علي ذلك بيئة مشبعة بالفساد والاستبداد علي كافة مستويات الاجهزة الامنية والنظامية والمليشياوية وكوادر الجبهة الاسلاموية في كل المجالات. وكذلك افرزت الثقافة الاستبدادية بنسختها الاسلاموية، عداء مستحكم للتحول الديمقراطي والدولة المدنية، التي تفتح المجال العام لمشاركة الجميع، وتمنع التمييز والاحتكارات، وتسلط الاضواء علي مكامن العلل والفساد. اي باختصار تحصن الداخل من التفتت والتحلل والاحتراب، وتقفل الباب امام اطماع الخارج، من النفاذ لموارد الداخل بصورة ملتوية. المهم، كل ذلك جعل عملية الانتقال متعثرة بعد ان شكلت تهديد لمصالح عصابات الداخل ومافيا الخارج.
وهذا التناقض بين المكون العسكري الذي يسعي لبقاء الاوضاع المختلة علي حالها، بل ويعمل من اجل زيادة التناقض بتمتين صلاته الاقليمية المشبوهة وحماية مصالح شركائه الاسلامويين في الداخل، وبين مكونات الثورة وحرصها علي احداث قطيعة جذرية مع الماضي الاستبدادي العسكري، بكل فساده واهداره للحقوق وتبديده للثروات، والعمل من اجل حدوث تغيير حقيقي يرد الكرامة للمواطنين ويصين موارد البلاد من التعدي، وذلك عبر الوصول لميس الدولة المدنية والتنمية المستدامة. والحال كذلك، دبت المشاكل بين شركاء الانتقال، لتتحول فترة الانتقال الي سلسلة مؤامرات من جانب العسكر لاجهاض الانتقال، وليُختتم المشهد المأساوي بانقلاب غادر علي الفترة الانتقالية، وتاليا وضع البلاد علي شفا مواجهة شاملة بين مكوناتها.
والمؤكد ان الانقلاب ما كان ليتم بهذه الكيفية من غير التمهيد له منذ اتفاق جوبا. اي ان جزء من المؤامرة يرجع للخلافات بين قوي التغيير وصراعاتها غير المبدئية، وكذلك حدوث فراغ بين حكومة الثورة ومكونات الثورة الحقيقية، بسبب ميل حمدوك لارضاء المكون العسكري مخافة غدره، والاستعانة بالخارج لتحصين منصبه او الفترة الانتقالية علي احسن الفروض. وعموما خلافات قوي التغيير كان يمكن ان تكون صحية لو كان هنالك هدف استراتيجي واختلاف علي الوسائل، ولكن الاشكال يتجسد في غياب المشروع الوطني المشترك (مشروع بناء)، وهذا بدوره يرجع لان جذر الوعي السياسي لدينا مرتبط بالتحرير وليس التعمير، وذلك منذ سيطرة الاستعمار الخارجي مرورا بالاستعمار الداخلي (عبر المؤسسة العسكرية)! اي البيئة السليمة لبناء الوعي كانت دائما مصادرة لصالح الاستبداد المعادي للوعي. المهم هذا الوعي الفوقي (متمحور حول السلطة) الذي ميز النخبة السياسية، جعل من عملية التسويات مستحيلة، لينفتح المجال امام الحلول الصفرية عبر آلية الانقلابات، التي جذبت شهية المؤسسة العسكرية للانخراط في لعبة السلطة، لتدمن هذه اللعبة من غير اي رغبة في الخروج منها ، بعد ان تم اكساب السلطة مساحة واسعة من الامتيازات المجانية.
وعموما يمكن الاتفاق علي ان الانقلابات العسكرية لعبت دورا كبيرا في تجريف الحياة السياسية واضعاف الاحزاب، ولكن نظام الانقاذ دمر الارضية السياسية التي تقوم عليها السياسة نفسها، بعد ان جعل ممارسة السياسة جريمة، وادخل اساليب العنف والاحتقار والحصار المعيشي الي ساحتها، من خلال بيوت الاشباح وتشويه السمعة والفصل من الوظيفة العامة، والنتيجة حدوث فراغ سياسي عريض، اتاح المجال امام المليشيات والحركات المسلحة لتملأ هذا الفراغ. ومن ثمَّ حدثت ازاحة تامة للفعل السياسي لصالح القوة المسلحة في حسم الصراعات، خصوصا بعد ان اصبحت للمليشيات والقوات المسلحة اذرع اقتصادية وعلاقات خارجية، تغطي بها عجزها السياسي وتكسب بها مجموعات اقل اهلية سياسية (زعماء قبائل، ادارات اهلية). والحال ان ما يجعل الوضع اكثر سخرية هو محاولات اهلنة السياسة وتسييس الاهلنة اعتمادا علي ارث تقليدي تجاوزه الزمن، بدل ان تصبح السياسة خطوة متقدمة نحو بناء الدولة المدنية.
وانقلاب البرهان كان يمكن ان يندرج في هذه المسيرة لو كان انقلاب تقليدي، ولكن ما يجعل انقلاب البرهان غير تقليدي، انه إضافة الي حيازة السلطة وامتيازاتها، يشكل حصانة لاعضاء مكون عسكري متورطون حتي آذانهم في جرائم الابادة وتهريب ثروات البلاد والعمالة للخارج. ومن هذا المدخل لعبت مصر لعبة تخريب البلاد بتولية السلطة لغير اهلها، والاسوأ ان ما يترتب علي هذا الاستيلاء القهري من تبعات، تتمثل في العزلة الدولية وتعطيل برامج المساعدات واعفاء الديون، ومن ثمًّ العودة بالسودان الي العصر الحجري، ليسهل علي مصر ابتلاعه، ولذلك انصب تركيز مصر علي ازاحة حمدوك كعقبة امام هذا المشروع التدميري. اما الجانب الآخر المستفيد من هذا الانقلاب فهي قوي الردة، التي تضمن المحافظة علي ما تحوزه من امتيازات غير مستحقة (تعطيل لجنة التمكين) والعودة من جديد لجهاز الدولة، واعادة استخدامه كآلية لمراكمة الثروات.
لكل ما سبق الحديث عن تسوية جديدة مع العسكر، قد يعتبره البعض بمثابة خيانة ونكوص عن شعارات الثورة. ولكن المواجهة الصفرية نفسها قد تقود لما لا يحمد عقباه. خصوصا ومما سبق سرده يتضح ان العسكر يعانون من خلل في الوعي واتساع في الطموح وسوابق اجرامية يندي لها الجبين، بعد ان ظلوا يحكمون البلاد معظم الفترات ما بعد الاستقلال، ولذلك تخليصهم من هذا الوهم والوصاية وتلك الامتيازات ضربة لازب امر يصعب حدوثه! والاخطر ان هنالك سيطرة من قادة المكون العسكري علي المؤسسة العسكرية واجهزة الامن والمليشيات واخيرا دانت لهم الحركات المسلحة! وعندما يضاف الي ذلك قوي اقليمة ذات نفوذ، نصبح امام خصم مدجج بوسائل قوة لا يستهان بها، وهو ما دفعه للقيام بخطوة الانقلاب الغادرة. وفي المقلب الآخر، لقوي الثورة وهجها واساليبها المبتكرة في المقاومة، وكذلك هنالك وثيقة دستورية تم الاتفاق عليها، وهو ما يجعل خطوة البرهان انقلاب له تبعات سلبية عليه. وايضا هنالك موقف دولي داعم للمدنيين (اقلاه ظاهريا) وهو ما يشكل عامل ضغط في صالح الثوار. وعليه، يمكن الوصول لحلول وسط تضمن وجود سلطة مدنية قادرة علي اكمال مستحقات الوثيقة الدستورية، ولا بديل إلا ان تكون برئاسة حمدوك في هذه الظروف، حتي نضمن بقاء الدولة في حضن المجتمع الدولي، لضمان الوفاء بكل تعهدات المجتمع الدولي. والاهم اطلاق سراح كل المعتقلين دون شروط، مع تقديم الاعتذار لهم وتعويضهم معنويا وماديا. وذلك مقابل القبول ببقاء العسكر حتي نهاية الفترة الانتقالية، بعد الاعتراف ان لدي العسكر شوكة، ظلت اهم فاعل طوال الفترة الانتقالية الماضية، وما الانقلاب الا تكريس لتلك الشوكة بصورة فجة وعلنية. اما الغرض من هذه التسوية، فهو الوصول لقناعة ان بناء دولة مدنية، ما زال يحتاج لكثير من الجهود، ونفس طويل، واساليب عمل مرنة للتعامل مع النكسات والخيبات، وفي اعتقادي ان اقل فترة لبناء دولة مدنية صحية، هو عقد من الزمان في ظروف افضل حالا. علي ان يكون للعسكر وجود بنوع ما طوال تلك الفترة، حتي نحجم من جموح الانقلاب الذي يسيطر عليهم! وذلك يعني ضمن ما يعني بناء برامج طموحة لتغيير وعي العسكر نحو اقناعهم بانهم عسكر. والاهم ان الثورة ليست غاية ولكنها وسيلة لتسوية البيئة من اجل معالجة الاخطاء وازالة الموانع المعيقة للغايات.
واخيرا، نسال الله ان يلطف بهذا الشعب الذي ظل يقدم من الصبر والتضحيات ما تنوء بحمله الجبال، لولا ان عاقبته دائما كانت حسرة، او انقلاب ارعن يضاعف من بؤسه وخسرانه.