مقالات سياسية

فشل الدولة السودانية.. فصل السياسة عن الإدارة

حديث المدينة
عثمان ميرغني

في دار الوثائق القومية بالخرطوم، اطلعت على جميع مَحاضر اجتماعات ”لجنة السَودَنة“ التي أشرفت على عمليات إحلال العاملين الأجانب في الدولة السودانية– قبيل الاستقلال- وإبدالهم بسودانيين.

المَحاضر مكتوبة بلغة إنجليزية رصينة ومطبوعة بالآلة الكاتبة- بلا أخطاء؛ ما يدل على مراجعتها جيدا- وفيها تفاصيل دقيقة توضح أسماء الشخصيات المشاركة في كل اجتماع من الجانبين السوداني والبريطاني ووظائفهم.

في سياق سرد ما دار في تلك الاجتماعات المصيرية، اكتشفت أن أول عملية ”تمكين“ سياسي في تاريخ السودان كانت من رحم تلك ”السودنة“، فالمسافة التي كانت تفصل المفاوض البريطاني عن نظيره السوداني هي رغبة الأخير العارمة في وراثة ”امتيازات“ الوظيفة العليا التي كان يتمتع بها المدير الأجنبي.

المفاوض البريطاني كان يتحدث عن خشيته من خلط ”السياسة بالإدارة“ في ظل الدولة السودانية الوليدة التي بدأ فيها الصراع الحزبي السياسي مبكرا حتى قبل أن يرحل آخر جندي مستعمر. ويرى المفاوض البريطاني ضرورة الإبقاء على بعض المؤسسات الكبيرة والمهمة لفترة إضافية تحت إدارة موظفين بريطانيين (قدرت الفترة بثلاث سنوات ثم قُلصت إلى سنة واحدة)، مع نقل الوظائف الدستورية العليا إلى السودانيين. مثلا، يتولى وزارة الزراعة وزير سوداني لكن مع إبقاء محافظ مشروع الجزيرة– وهو أضخم مشروع زراعي في أفريقيا– تحت إدارة بريطاني.

المفاوضون السودانيون كانوا يرفضون بإصرار لدرجة في أحد الاجتماعات قال أحد المفاوضين السودانيين موجها حديثه إلى الجانب البريطاني (هي بلادنا ونحن أحرار كيف نديرها، فقط اخرجوا واتركونا).

وفعلا انتهت المفاوضات ببرنامج ”السودنة“ المعروف الذي أحل السودانيين مكان كبار الموظفين الأجانب بلا أدنى اهتمام بمعيار الكفاءة أو الحرص على استمرار العمل في المشروعات والمؤسسات الكبرى بالمستوى ذاته الذي تركه المستعمر عند رحيله، وبدأ منحنى التدني في الإدارة تدريجيا.

بعد ثورة أكتوبر 1964 رُفِع شعار ”التطهير واجب وطني“، ليمثل الموجة الثانية في ”التمكين“، وغنى الفنان محمد وردي (هتف الشعب من أعماقه التطهير واجب وطني).

كان يكفي أي همس عن ولاء سياسي لموظف كبير فيفقد منصبه في اليوم التالي كما حدث لمدير الخطوط الجوية السودانية ”سودانير“، ففي الاحتفال بمرور شهر على ثورة أكتوبر أقيم طابور عرض بميدان بموقع نادي الأسرة الحالي بالخرطوم حضره لفيف من القادة السياسيين. في أثناء مرور طابور نقابة الخطوط الجوية السودانية وكان عددهم لا يتعدى أصابع اليدين، توقف موكبهم أمام المنصة وطفق يهتف ضد المدير العام للخطوط الجوية السودانية ولم يتحرك موكبهم إلا بعد أن أشارت لهم المنصة بأن صوتهم وصل. في صباح اليوم التالي وفي نشرة الصباح الباكر بالإذاعة الرسمية السودانية ”أمدرمان“ كان الخبر الأول إقالة مدير الخطوط الجوية السودانية رغم شهادة الجميع بأنه كان من أكفأ وأنجح من مروا على إدارتها.

بالتحديد بعد ثلاثة أسابيع من نجاح انقلاب الرئيس جعفر نميري في الـ25 من مايو 1969 وتسلمه السلطة صدر كشف إقالات لكبار القضاة السودانيين وأشهرهم، رغم أن رئيس الوزراء السيد بابكر عوض الله كان رئيسا سابقا للقضاء السوداني.

وبعده بأيام صدرت قوائم فصل لأساتذة جامعة الخرطوم وعلى رأسهم البروفسير عبد الله الطيب وتفرقوا بين الجامعات الأفريقية والعربية التي احتفت بهم.

وبعد انقلاب نظام الإنقاذ يونيو 1989 كانت أضخم مجزرة للخدمة المدنية أحيل فيها عشرات الآلاف من العاملين في مختلف مواقع الدولة لما أطلق عليه ”الصالح العام“ ولم يخرج ”الضرر العام“ الذي أصاب جهاز الدولة من جسمها حتى اليوم.

الإفراط في تسيس الدولة هو السبب الرئيس في فشل الدولة السودانية في النهضة وتنمية مواردها…..

التيار

‫5 تعليقات

  1. أها ديل فصلوا أى زول بالعكس جابوا كيزان زيادة- والكيزان نفسهم قلبوا الحكومة مع جنجويدهم ولوردات الحرب والاخرين.

    1. الكوز المعفن عثمان ميرغني الناس كلها تتكلم عن الانقلاب وفشل الانقلاب وكل الصحفيين والنشطاء يقاومون في الانقلاب وعاملين عليه فوكس الكوز المعفن هرب لهناك واشتغل احباط وتهبيط للشارع ويكتب عن فشل الدولة السودانية ده وقته يا كوز يا ملعون

  2. أستاذ عثمان .. لك الود والتقدير
    لقد ظللت أكتب لفترة طويلة وعبر مقالآت وأوراق عمل بحثية عن هذه الجزئية التي كانت عنوانا لمقالك … وهي الخلط ما بين العمل الإداري والعمل السياسي … وكان تركيزي على العمل البلدى … حيث تختلط الإدارة بالسياسة لدى مسئولي البلدية أو المحلية بل يوظف ويكرس العمل والخدمات البلدية لصالح السياسة بما في ذلك ميزانية الخدمات … ولهذا تفشل البلديات في تقديم متطلبات الإدارة المحلية ومنها الخدمات الأساسية .

    1. أنت كمان يا دكتور عرف الكوز عثمان ميرغني يسحبك لبره الملعب انحنا في شنو والحسانية في شنو

  3. نتفق معك و اضيف ليس خلط الادارة بالسياسة وحدها بل نشر مغالطة أن العلماء و الاكاديميين يمكن أن يقودوا العمل التنفيذى للدولة و الترويج لها و هنا أعنى تحديداً ترشيحكم للبروفيسور هنود لرئاسة الوزراء وهو رجل أكاديمى و عالم لا نختلف عليه و لكن مكانه بين طلابه ….تاريخياً باستثناء الأديب – العسكرى و السياسى تشرشل و هو حالة خاصة …..لم (يقم البريطانيون) أو أبناء عمومتهم الأمريكان بما دعيت اليه… فلم نسمع بتقلد أحد العلماء الفائزين بنوبل لرئاسة مجلس الوزراء و الا لطالب اينشتاين برئاسة وزراء الكون

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..