هوس الحنين إلى الماضي

طارق يسن الطاهر
كثر الحديث –بحنين- عن الماضي ،سواء في الجلسات أو المنتديات أو الوسائط الاجتماعية ،ويتم تصويره على أنه وقت زاهـٍ لن يتكرر، وأيام خالدة لن يجود الزمان بمثلها ،يدعمون أقوالهم بصور وأحاديث ومقارنات؛ ليقنعوا الآخرين بزعمهم.
حين أسمعهم تتراقص أمامي أسئلة ،وتعتمل في ذهني استفسارات ، وأنا أشاهد هذه النوستالجيا:
هل الماضي جيد والحاضر سيئ؟
هل كل الماضي جيد وكل الحاضر سيئ؟
وهل من يقدس الماضي لو عاد له ماضيه سيقبله أم يهرب منه؟
أليس المتباكون على الماضي هم من سكان الحاضر؟ إن كان الماضي جيدا فهو من صناعتهم فلماذا يعجزون عن إصلاح الحاضر؟
يتغزلون في ساستنا القدامى وحكامنا الراحلين –وهم من ثاروا عليهم وخلعوهم-، والآن يبكون زمانهم ،ويتحسرون على عصرهم ،ويترحمون عليهم ، فقط لأنهم أصبحوا ماضيا.
يستمتعون بثورة الاتصالات، وإفرازات العولمة، وسهولة التواصل، وأريحية نقل المعلومات ثم يلعنون الحاضر عبر هذه الوسائط التي هي من بنات الحاضر ،ولولاه ما وجدوها.
هل من عرف الثلاجة سيشرب من الزير؟
هل من درس تحت ضوء الكهرباء قادر على الدراسة على ضوء المصابيح الزيتية؟
هل من امتلك هاتفا محمولا جعله يستطيع الاستغناء عن الكومبيوتر والمسجل والحاسبة والكاميرا وغيرها يستطيع الاستغناء عنه؟
هل من ركب السيارات يمكنه العودة لركوب الناقة ؟حتى لو كانت نجيبة؟
لقد صارت الحياة –عتدهم- فعلا ماضيا وأسقطوا الأمر والمضارع!
يقولون إنهم يحنون للعلاقات الاجتماعية ودفء العشيرة والتواصل الحميم الذي كان سابقا بين أفراد الأسر ، لكن بحسابات المنطق أليس التواصل الآن أسرع وأسهل وأفضل؟ ، فلنأخذ مثالا : قروب عائلي على الواتس، فيه جميع أفراد الأسرة تتعرف منه على أخبارهم ،وتبارك الزيجات والمواليد ،وتعزي في الوفيات، وتسلم عليهم ،وتتفقدهم كل صباح رغم اختلاف الأماكن وتباين المواقع. ولنقارن كيف كان التواصل قديما ؟ كان جسديا باللقاءات المباشرة التي لا يمكن أن تتم إلا مع المتقاربين في المكان.
يقولون إنهم يتحسرون على ضعف التعليم ومخرجاته ، أليس من أنجبهم الماضي هم من يعلمون أبناء الحاضر؟
يقولون إنهم يتحسرون على الأخلاق التي كانت سائدة ، ونسوا أن الزنا كانت تهيأ له البيوت ، وإن الخمر كان تفتح له أندية، وتعد له أماكن ، وينتشر هذا وذاك في الأحياء بين السكان ،ومن اضطرته الظروف للسكن بينهم لابد أن يكتب لافتة على باب بيته – تعرفون مضمونها – حتى لا يغشاه ضرر من الخلط بين الأبواب.
هم يتحسرون على الأخلاق التي ضاعت حسب زعمهم ، ونسوا أرتال السكارى الذين كانوا يترنحون في الطرقات ، ونسوا مشاهد لعب القمار علنا في الأعياد وغيرها من المناسبات ، ونسوا أفواج المسطولين الذين كانوا يخالطون الناس ،كل ذلك لا يوجد الآن ، على الأقل علنا ، مالكم كيف تحكمون؟!.
ينتقدون بنات الحاضر ،ويضربون الأمثال في العفة ببنات الماضي ، ونسوا أن العري كان في الماضي أشد من الحاضر ، ولك أن تشاهد أي صورة لعروس وتقارن بين لبسها وما تلبسه بنات الحضر ، دعك من ممارسات الزواج وطقوسه ،منها على سبيل المثال رقص العروس وهي شبه عارية وسط الرجال والنساء ، التي كانت تشاهد على الملأ دون استحياء ، وهذا ليس موجودا الآن.
نسي هؤلاء أن حاضرهم الذي يذمونه ويشكون منه سيحنون إليه غدا لأنه سيصبح ماضيا، وهكذا دواليك.
الطيب صالح رحمه الله في روايته “بندر شاه – ضو البيت” ذكر تحت عنوان الرواية عبارة: “أحدوثة عن كون الأب ضحية لأبيه وابنه” أي تحالف الماضي والمستقبل على الحاضر ، فكان الجد “الماضي” يتحالف مع الحفيد”المستقبل” ضد الأب”الحاضر”، لكنه ما كرّس لهذه النوستالجيا، وإنما أكد على ضياع الحاضر بين الماضي والمستقبل.
هم بحنينهم المتصل للماضي يقيمون مأتما لأرواحهم ،وينصبون سرادقات العزاء ، ويريدون أن يُدخِلوا الجميع فيه. هم بهذا يرسمون للماضي إطارا جميلا ، في لوحة زاهية ،ولو عاد لكرهوه ونبذوه.
يتحدثون عن الرياضة قديما بنوع من الشجن والحسرة مقارنة بواقعنا، ماذا فعل القدماء وماذا أنجزوا؟ وماذا حققوا؟
لقد سرت العدوى حتى للشباب والصغار تجد الواحد من حداثة سنه لم يدرك ذلك الماضي الذي يتحدثون عنه ولكنه أصيب بجرثومة التباكي والحنين إلى الماضي!
إنها سنة الحياة ،تمضي السنون وتتعاقب الايام ، وما مضى لن يعود ، ومن الحكمة عدم الوقوف عنده، فالأفضل الانطلاق نحو المستقبل ، بإصلاح الحاضر ، ذلك الذي نملكه. فالماضي لن يعود حتى لو شاب الغراب، وعاد القار كاللبن الحليب.
إنها النوستالجيا التي يعانون منها وهي تحفّزهم للدفاع عن الماضي ، فقد تكون مقبولة إن كانت بغرض رفع المعنويات، وتحسين الحال، ولكنهم لا يفعلون ذلك، وإنما يظلون منكفئين على ماضيهم ،متقوقعين على ذواتهم ؛ لأنهم يقدسون الماضي، وينسون الحاضر ،ويتجاهلون المستقبل ، وهذه آفة النوستالجيا التي لم يدركوها ووقعوا فيها.
طارق يسن الطاهر <[email protected]