مقالات وآراء سياسية

الانقلابيون والكتله الحرجة

م. امجد مصطفي
عندما انطلقت الاحتجاجات الشعبيه ضد حكم البشير في ديسمبر ٢٠١٨ ، كانت في بدايتها وعلي الرغم من شجاعتها وبسالة المشاركين فيها ، محدودة العدد وإلي حد ما بدت ضعيفة التأثير. تعامل الشارع السوداني معها بنوع من الترقب والانتظار لمعرفة رد فعل النظام وكيفيه تطور الاحداث ، وكان يغلب علي الشارع العام الاحباط مع نوع من فقدان الامل في ان تؤدي تلك الاحتجاجات الي اي تغيير حقيقي في المشهد السياسي ، حيث ان البشير وكيزان المؤتمر الوثني استخفوا بالحراك الشعبي تماماً وتعاملوا معه بقسوة وقمع مفرط مع بعض القرارات الساذجة لاستماله الشباب ، مثل السماح بمقاهي الشيشة.

مع ثبات المتظاهرين وبطولتهم في تحدي القبضه الامنية ، وإزدياد القمع وإرتفاع اعداد المعتقلين بدأ الموقف الشعبي حينها رويداً رويداً في التحول من المشاهدة الي المشاركة ، مما ادي الي اتساع رقعة الأحتجاجات وتزايد وتيرتها مع ارتفاع اعداد المشاركين فيها ، مما افقد نظام البشير صوابه وجعله يلجأ الي العنف الشديد والقسوة المفرطه ، ما ادي الي سقوط الشهداء من بين المحتجين ، مما ادي بدوره الي استمرار الاحتجاجات وتصاعد خطورتها علي نظام البشير .

لازلت اذكر الاحباط الشديد الذي شعرنا به كسودانيين احرار نواجه نظاماً قمعياً مستبداً ، ونسطر فصلاً جديداً من فصول الربيع العربي بعد ان ظنت الجماهير العربية من المحيط الي الخليج باليأس بعد النكبات المتتاليه لهذا الربيع في مصر وسوريا وليبيا وغيرها ، شعرنا بالإحباط من تجاهل الاعلام العربي والعالمي لثورتنا ، التي كان شعارها السلمية مع المطالبة بالحرية والسلام والعدالة . كنا نحس ايامها بأن العالم بأجمعه قد تخلي عنا وتركنا لمصيرنا في مواجهة آله البشير القمعية ، ولكن هذا التجاهل لم يفت في عضد الشعب ولم يمنعه من مواصله التظاهر والهتافات مطالبين بالخلاص من احد اسوأ النظم القمعية في تاريخ المنطقة.

بعد مرور بضعة شهور من القمع والقسوة والقتل مع استمرار التجاهل الدولي إلا من بعض العناوين الاخبارية هنا وهناك ، وبعض المقالات الخجوله في وسائط الاعلام الاجنبية ، بدأ الموقف الشعبي والدولي يتغير تجاه الاحتجاجات ، حيث انها نجحت اخيراً في إجتذاب ما يسمي بالكتلة الحرجة الي صفها. هذه الكتلة الحرجة تمثل جمهور الشعب العريض الذي يتمثل في كافه طوائف وطبقات فئات الشعب، والتي تصنع التغيير الحقيقي في اي وضع سياسي متي ماتحركت كمجموعة في اي اتجاه.

عندما رأينا ورأي العالم فئات الشعب مثل اعضاء الطرق الصوفية ، والشماسه ، والتجار والطلاب والوفود المختلفه من كافة اقاليم السودان تتوجه الي ساحة الاعتصام مرددة اجمل شعار صاغه السودان في تاريخه “حرية سلام و عدالة ، والثورة خيار الشعب” ، تولد لدي الجميع بما في ذلك نظام البشير، احساس يقيني بحتمية إنتصار الثورة ، وان ما تبقي هو مسأله التفاصيل.

نحن الآن ، وبعد انقلاب البرهان الاخير ، نجد انفسنا في نفس الموقف الذي كنا فيه ابان الايام الاخيره لحكم البشير ، او الايام الاولي للثورة لا فرق ، حيث ان القوي القمعية نفسها لنفس النظام الديكتاتوري الفاسد (مع تغير بعض الوجوه) تمارس نفس القمع الوحشي ضد الشعب الاعزل الذي رفع نفس الشعارات المطالبة بالحرية والعدالة. الفرق هذه المرة ان العالم بأكمله يعلم ما يدور في السودان ويوثق جرائم القتلة من الجنجويد ولجنة البشير الامنية اليومية ، ويقف في صف الشعب ويرفض اسباغ اي شرعية علي الانقلابيين ، متمسكاً بعودة حمدوك ، الذي اصبح هو وابطال لجنة ازاله التمكين ايقونة الثورة ورمز النضال من اجل الدولة المدنية ومكافحة النظام السابق.

مع ان الكتلة الحرجة آنفة الذكر قد تحركت بمجملها منذ اللحظات الاولي للإنقلاب ، مناهضة له ومتمردة عليه ومقاومة للبرهان وشركائه ورعاته الإقليميين ، لكن تبقي الكتله الحرجه الاهم خارج دائرة الفعل حالياً ، اعني بذلك الكتله الحرجة داخل القوات المسلحة السودانية.
هذه الكتله الحرجة ، ولاسباب متعدده وضعت نفسها في موقف المتفرج حالياً ، بنفس الطريقة التي كان الشارع السوداني عليها في ديسمبر ٢٠١٨. انا لا اتحدث هنا عن الضباط من الرتب المتوسطة والرفيعة ، فهؤلاء اغلبهم كيزان قلباً وقالباً وهم جزء من المشكلة ، ولكني اتحدث عن الضباط في رتبة نقيب فما تحت مع عموم عساكر الجيش وضباط صفه ، وهم الغالبية العددية.

متي ما ادركت هذه الكتلة خطورة الوضع الاقتصادي وتداعيات الازمة الحالية عليهم كأفراد وعلي السودان كدولة ، لا شك عندي انها قادرة علي الحركة سواء الفردية او الجماعية لتغيير الوضع الراهن .

من المعلوم ان البرهان ولجنة البشير الامنية قد ملأت رؤوس منسوبي القوات المسلحة بالأكاذيب عن القوي المدنية منذ نجاح الثورة في ازالة البشير وتسلم تلك القوي المدنية بعض السلطة . هذه الاكاذيب من عينة ان المدنيين (بالأخص حملة الجوازات الاجنبية) هم خونه وعملاء للغرب ويريدون تفكيك الجيش عبر اعادة هيكلته ، وانهم يمثلون الشيوعيون وبقايا الاحزاب الفاشلة والرجعية ، مع تحميل الحكومة المدنية كافة المشاكل التي يعاني منها المواطن من غلاء وشح في المواد التموينية وسوء الخدمات وانقطاع الكهرباء وخلافه ، زد علي ذلك التربية التقليدية للعساكر داخل المؤسسة العسكرية ، كل ذلك جعل العسكر اكثر تقبلاً للإنقلاب الحالي.

مع ذلك ، حالياً ، كتلة الجيش الحرجة تري ان عموم جماهير الشعب السوداني بلا استثناء ضد الانقلاب ، وان الحاضنة الرسمية للانقلاب هم الكيزان ومرتزقة الجنجويد والحركات المسلحة ، وهؤلاء لا يحظوا بأي شعبية لدي الجيش . هذه الكتلة الحرجة تري ايضاً تزايد القتل وسفك الدماء ضد المدنيين العزل وضد كافة طبقات الشعب ، بما في ذلك النساء والاطفال .

كل هذا كفيل بتوليد نوع من التململ داخل الجيش حتي وإن لم يكن ظاهراً للعيان ، وإستمرار المقاومة من الشعب الاعزل ضد الانقلاب سيخرج هذا التململ والتذمر الي العلن لا محالة . زد الي ذلك العزله الدولية التي يواجهها البرهان ورهطه مع فقدانهم الشرعية منذ رفضت الامم المتحدة مؤخراً الإعتراف بأي شرعيه للوضع القائم طالما ان حمدوك ، وهو رئيس الوزراء الشرعي للسودان في نظرها معتقل وغير مشارك في او مؤيد للانقلاب. سيؤدي هذا الرفض الشعبي والدولي لا محالة الي تغير نظرة الكتله الحرجه داخل الجيش الي البرهان كقائد ناجح وقادر علي قيادة الدولة والخروج من الازمة الحالية ، زد علي ذلك ضعف قدرات البرهان الشخصية واعتماده علي مرتزقة حميرتي، والاخير مكروه بشدة من الجيش بعد تصريحاته الشهيره عنهم.

عامل الوقت هنا ليس في صالح الانقلابيين ، حيث ان الاقتصاد السوداني يتجه الي وضع كارثي اسوأ من الذي كان عليه قبل سقوط البشير ، ونحن نري الآن بوادر ذلك مع الزيادات المعلنه اخيراً في اسعار المحروقات ، وهذا غيض من فيض . عندما يواجه العسكر الواقع المزري المتمثل في انهيار القوي الشرائية لمرتباتهم الضعيفة اصلاً ، مع مقاطعة دولية وعقوبات مرتقبة (تحركات الكونجرس الامريكي الاخيره ستعجل بهذا) موجهة لمؤسسات الجيش كنتيجة مباشرة للانقلاب ، مما يجعل قيادة الجيش غير قادرة علي حماية منسوبيه من الانهيار الاقتصادي الحتمي والوشيك، ستبدأ كتلة الجيش الحرجة بالانضمام للاحتجاجات ورفض الانقلاب لأنه ببساطة ضد مصلحتها وسيهدد بقاءها.

الامل الوحيد للسودان يتمثل في ان يتمكن الشعب من كسب كتلة الجيش الحرجة هذه لصف الشارع العام بسرعة ، وقبل ان تستفحل الامور وتصل الي ما لا يحمد عقباه ، حيث ان البرهان وحميرتي ومن معهم يعلموا ان اي تنازل من قبلهم الان سيقربهم من حبل المشنقة ، وسيعملون في الايام القادمة ، مع ازدياد الحراك الشعبي ضدهم ، ومع إنفضاح جرائمهم امام العالم بمجرد عودة الانترنت (وهو مابدأ منذ الامس)، سيعملون علي دفع الشعب علي الخروج من سلميته واللجوء للمقاومة المسلحة لتكرار السيناريو الليبي او السوري ، لأن هذا السناريو هو المخرج الوحيد لهم حالياً.

‫2 تعليقات

  1. تقصد أن من نقيب فما دون لم يعينهم الكيزان، او ان الكيزان عينوهم ولكنهم لم يدققوا فيهم، أم تعتقد ان الذين عينهم الجيش يعد الثورة لم يكونوا كيزان باعتبار أن الجيش شهد تغييرا بعد الثورة وتم استبعاد من كانوا يقومون بتعيين الكيزان؟
    تحليل غير منطقي ومبنى على اعتقادات غير صحيحة.

  2. مكونات الشارع السودانى تتكون العرب وغيرهم وتجيير الثورة للجماهير العربية فقط امر لا يتسق مع واقع الحال وحقيقة الثورة السودانية فالكل ساهم ساهم دون النظر إلى خلفيته الإثنية أو العرقية…إلم يئن بعد لعروبيى السودان إدراك حقيقة المزيج السودانى البديع؟؟؟ هذه الثورة فريدة لا تنسب إلا لشعب السودان الأبى المقدام

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..