السودان بين الهدوء والضجيج..!!

فاجأت موجة الاحتجاجات الشعبية الواسعة التي انتظمت العديد من المدن السودانية الأسبوع الماضي الطبقة السياسية برمتها، في الحكم والمعارضة على حد سواء، ففي حين كانت الحكومة مطمئنة إلى عجز المعارضة وفشلها في تحريك الشارع، مغفلة احتمال اندلاع احتجاجات شعبية مكتفية بتوجيه الشكر مع كل تردي للأوضاع الاقتصادية للشعب السوداني على صبره الجميل على الفشل الحكومي طوال ثلاثة عقود في تفجير طاقات الاقتصاد السوداني الغني بموارده الكامنة، كانت المعارضة على الجانب الآخر تتساءل لماذا يطول صمت الشارع، ولماذا لا ينتفض في وجه النظام المتسبب في الأزمة المستحكمة الآخذة في التردي.
وبين اطمئنان السلطة، ويأس المعارضة، كان للشعب السوداني قراره المدفوع بإرادة ذاتية خالصة للتعبير عن موقفه من الأزمة الوطنية الخانقة التي تمسك بخناق الجميع، ليختار ربما للمصادفة يوم ۱۹ ديسمبر الماضي، وهو الذي يصادف الذكرى الثالثة والستين لإعلان استقلال السودان من الاستعمار البريطاني من داخل البرلمان في العام ۱۹٥٥ ، للخروج للإعلان في احتجاجات واسعة بدأت من مدينة عطبرة بولاية نهر النيل، وسرعان ما انتظمت لتشمل العديد من مدن السودان في ولاياته الثماني عشرة، ولعل المصادفة وحدها هي أيضاً التي جعلت هذه الموجة من الاحتجاجات تنطلق بالذات من مدينة عطبرة العمالية المعروفة بمدينة الحديد والنار حيث كانت عاصمة السكك الحديدية في السودان، وعلى الرغم من أنها كانت تعد معقلاً للحزب الشيوعي السوداني، إلا أنه أخذ أيضاً على حين غرة بهذه الاحتجاجات العابرة فوق الأيدولوجيات والأحزاب.
بدا أن الوضع الاقتصادي المتردي وانعكاساته في ضيق غير مسبوق على معايش الناس هو السبب المباشر في اندلاع هذه الاحتجاجات في ظل عجز الحكومة المستمر منذ انفصال جنوب السودان قبل سبع سنوات وفقدان ثلثي الاحتياطيات النفطية في الحقول الواقعة في الدولة الوليدة، عن معالجة تردي حال الاقتصاد على مدار سبع سنوات عجاف أعقبن سبع سنوات سمان في فورة حقبة النفط التي رفدت الخزينة العامة بعشرات المليارات من الدولارات التي تبخرت في فضاء فقدان الرؤية التبذير والفساد، وحرم البلاد من الاستفادة منها في التأسيس لمشاريع التنمية المستدامة وتوظيف الموارد الطبيعية غير النابضة في تحقيق النهوض الاقتصادي.
غير أنه تزايدت القناعات على نطاق واسع أن الأزمة الاقتصادية الممسكة بخناق البلاد ليست سوى تجلياً لأزمة سياسية أعمق بسبب عجز الطبقة الحاكمة على مدار ثلاثة عقود في إقامة مشروع وطني يحقق النهوض الحضاري الذي وعدت به الحركة الإسلامية السودانية التي استولت على السلطة بالانقلاب في ۱۹۸۹ أطاح بنظام ديمقراطي كانت تمثل فيه القوة الثالثة في البرلمان، كما كانت جزءاً من الائتلاف الحاكم خلال الحقبة التعددية التي لم تدم سوى ثلاث سنوات، فقد قادت تجربة «الإسلام السياسي» في السودان إلى تأسيس دولة شمولية تقليدية لا تختلف سيرتها في شيء من ممارسات الشموليات العتيقة التي أسستها الأحزاب الأيدويولوجية اليسارية والقومية في المنطقة العربية، وفاقم من ذلك الانقسامات في داخلها بسبب الصراع على السلطة بين النخبة الإسلامية، ولم تنجح على مدار السنوات الثلاثين الماضية في تحقيق أي عملية إصلاح حقيقي تقود إلى انفتاح سياسي وتحول ديمقراطي، لتسود طبقة حاكمة احتكرت السلطة والثروة وأغرقت استحقاقات الحفاظ على السلطة بأي ثمن البلاد في حروب أهلية، واضطرابات سياسية وأمنية كانت كلفتها باهظة على الصعيد الاقتصادي.
ربما يكون الوقت مبكراً للتكهن بمآلات الاحتجاجات الشعبية الراهنة، إذ لا تزال تفاعلاتها تترى على احتمالات مفتوحة، إلا أنه ليس وارداً أن تستمر الأوضاع على ما هي عليه الآن، فقد نجحت حتى الآن في خلخلة توازن القوى الراهن ليس بين النظام ومعارضيه، وهو على أي حال توازن ضعف، بين حكومة عاجزة عن إدارة دولاب الدولة، ومعارضة غير قادرة على طرح نفسها بديلا مقنعاً للشارع في ظل ضعف خطابها وانقساماتها، بل أفلحت الاحتجاجات في خلخلة موازين القوة داخل النظام الحاكم، وهو ما أفصحت عنه تصريحات علنية لقادة قوى كان يعوّل عليها في دعم السلطة القائمة بلا جدال، فإذا بقادتها يوجهون سهام انتقادات حادة للجهاز التنفيذي وعدم قدرته وضعف كفاءته.
تشير أرجح الاحتمالات إلى أن موجة الاحتجاجات مرشحة للاستمرار، ليس فقط لأن المعارضة تحاول تنظيم صفوفها والعمل للحاق باللحظة الثورية الراهنة والاستفادة من المعطيات المتاحة لهبوب رياح التغيير وهي تستعيد تراث ثورتين شعبيتين أطاحتا بنظامين عسكريين في السودان، حيث أنهت حكم الجنرال عبود في العام ۱۹٦٤ ونظام المشير جعفر نميري عام ۱۹۸٥ ، بل لأن الطبقة الحاكمة تعيش في حالة تكلّس سياسي غير مسبوق تفتقر للقيادة وللحيوية ولروح المبادرة، فضلاً عن سجل طويل من الفشل في إنجاز مشروع وطني ناجح، فالسلطة تبدو في أضعف حالاتها وهي تفتقر لخطاب سياسي قادر على مواجهة الغضب الاجتماعي المتفاقم، كما أن السلطة لا تملك حلولاً فعلياً في وقت منظور للأزمة الاقتصادية المرشحة للمزيد من التدهور في ظل العجز عن إدارة الاقتصاد بكفاءة مع ترهل النظام السياسي القائم على الترضيات، وفي ظل سياسة خارجية مضطربة متأرجحة بين المحاور في المنطقة لا يجد معها النظام مكاسب اقتصادية تغنيه عن مواجهة استحقاقات إدارة البلاد بلا موارد.
يبقى أحد الاحتمالات الأقل كلفة أن يبادر النظام إلى طرح مبادرة تسوية سياسية شاملة حقيقية تقود إلى عملية سياسية انتقالية تعيد هيكلة السلطة، وهي بمثابة الفرصة الأخيرة، سواء بقيادة الرئيس البشير نفسه، أو ربما من خلال تغيير داخلي تتزايد الهمسات بشأنه في الأروقة السياسية في السودان، أو أن تعجز الطبقة الإسلامية الحاكمة من أخذ المبادرة، ما يعزز فرص سيناريو التغيير الكامل للنظام، وفي كل الأحوال فإن تجربة سلطة «الإسلام السياسي» في السودان وصلت إلى طريق مسدود.
الجريدة