المكان وتعزيز الانتماء عبر الأغنية السودانية (13)

محمد التجاني عمر قش
تهدف هذه الحلقات ، ضمن أشياء أخرى ، لإبراز ما يحمله المكان من رمزية ودلالات تساعد في عملية التواصل الفكري والوجداني بحيث تعزز الانتماء الوطني ؛ بمعنى أن ذكر الأماكن في الشعر والغناء السوداني لم يكن مجرد إشارة لمواقع جغرافية متباعدة أو متقاربة بقدر ما هو انعكاس للجانب الوطني والوجداني والمعرفي عند الشاعر والمغني على حد سواء ، وهذا ما حدا بي لمناقشة تعزيز الانتماء عبر المكان في الأغنية السودانية . وقد وصلتني رسالة في هذا الإطار من الأخ الكريم أحمد حمدوه ورد فيها ” السلام عليكم أستاذ محمد لقد ذكرت في سلسلة مقالاتك الأغنية السودانية وارتباطها بالمواقع الجغرافية ؛ وصراحة الموضوع شيق أنا قرأت بعض من هذه الحلقات ، ولاحظت أنك قد أغفلت ذكر الفنان الكردفاني المبدع خليل إسماعيل الذي ذكر في رائعته “جبل مرة” عشرات المواقع المتعلقة بجغرافية تلك المنطقة الساحرة وخلدها في لوحة فنية رائعة جعلت كثير من أجزاء هذا الجبل الساحر وهي محفورة في ذاكرة أبناء الوطن أرجو منك أن تخصص لهذه الاغنية حلقة كاملة وحلقة أخرى للفنان الرائع صديق عباس الذي ذكر كذلك عدد لا يستهان به من الاماكن بأغانيه مثلا “بركب اللواري وبطارد القماري وبزور الحاج اللين عشان الشاغل بالي” وله أغاني أخرى كثيرة . والمبدع دائما إبراهيم موسى أبا “بركب الكركابة بتدلى في أم روابة”.
في الواقع الأمر لم أغفل مشاركات هؤلاء المطربين الكبار ، وعلى كل حال سوف نخصص جزء اً من هذه الحلقة لتناول ما أشار إليه الأخ أحمد ، له منا كل الشكر والتقدير . وفي الحقيقة فإن أغنية جبل مرة تكفي وحدها دليلاً على ارتباط الإنسان السوداني بالمكان من ناحية وجدانية فهي تحمل صوراً حسية ومادية رائعة عن تلك البقعة الرائعة والجبل الخلّاب الذي يعد أحد أبرز الأماكن السياحية في السودان :
لو شفتا مرة جبل مرة
يعاودك حنين طول السنين
تتمنى تاني تشوفو مرة
لو شفتا مرة جبل مرة
بين المناظر والزهر
وكل شيء حولك يسر
وغير ما تدري اليوم يمر
سوني العروس في كرنفال
مزدانة في روعة ونضار
أنواع شجر وألوان زهور
أسراب طيور تجلي السرور
وكل هذه المناظر الخلابة هي بلا أدنى شك مما يدخل السرور على النفس ويرسم صورة وجدانية لا تنمحي في ذاكرة من يزور جبل مرة وتجعله يحن إليه وهذا بدوره يعزز الانتماء إلى أجزاء الوطن ، وهذا ما يهدف إليه معظم الشعر الوطني وربما العاطفي أيضاً. ولكن للأسف الشديد فإن إهمال السياحة في السودان حرم كثيراً من الناس من زيارة هذه البقعة الرائعة من سوداننا الحبيب.
ومن جانب آخر ، تطرق كل من المبدع إبراهيم موسى أبا والفنان صديق عباس والأستاذ عبد القادر سالم وأمبلينا السنوسي في أغانيهم لكثير من قرى ومدن كردفان، خاصة تلك التي تمر بها طرق اللواري أو السكة حدية أو تلك التي ترتبط بمناطق “الدمر” والنشوغ” أو تحركات الرعاة بشكل عام مثل المسارات في جنوب كردفان . وعلى سبيل المثال شدا صديق عباس بأغنيته المشهورة من تراث الجراري التي يقول فيها :
بركب اللواري
وبطارد القماري
وبزور الحاج اللين
عشان الشاغل بالي
ويقول في أغنية أخرى :
ﻣﻄﺮ ﺍﻟﺮﺷﺎﺵ ﺍﻟﺮﺷا
في ﺩﺍﺭ ﻛﺮﺩﻓﺎﻥ ﺍﻟﻬﺸا
ﺃﻧﺎ ﻋﻘﻠﻲ طار ﻭﻃﺸا
ﻭﺭﻯ ﺍﻟﻤﺮﺍﺡ ﺍﻟﻨﺸا
والفنان إبراهيم موسى أبا في واقع الأمر لم يكن فناناً فحسب بل ظاهرة إبداعية متكاملة فهو شاعر وملحن ومغني وجامع للتراث وقد تفرد بإيقاعات أصيلة استمدها من تراث غرب السودان ، وخاصة من آلة “الربابة” وساهم بقدر كبير في نشر الأغنية الكردفانية ومثال على ذلك أغنيته :
طيري يا بلومة
ودي السلام في يوما
للخيزران مريوما
بركب الكركابة
بدلى في أم روابة
النهيد الطاعن دابا
دي الجنن العزابا
ومع بساطة كلمات هذه الأغنية وعفويتها إلا أنها تعد من عيون أغنيات التراث الكردفاني الجميل . وبالطبع فإن من الأغاني الخالدة أغنية “أم بادر” التي رددها كثير من المطربين، وهي من تراث الجراري أيضاً :
زارعنو في الخيران
وساقينو بالتيران
اسمك تقيل يا فلان
ذي حنضل القيزان
سرجك عليه مكرب
من سودري وغرب
يا ناشغ إدرب
نجم الخريف قرب
زولاً سرب سربه
وختا الجبال غربا
ناولوني لي شربا
خلوني النقص دربا
الليلة والليلة دار ام بادر يا حليله
زارعنو في بارا
وشايلنو الجمالا
زولاً ستر حاله
في الغربة البطالا
إن معظم ما ذكر من أماكن في هذه الأمثلة هي أسماء لقرى ومدن كردفانية معروفة . ومن الأغاني الكردفانية التي لاقت رواجاً منقطع النظير في الآونة الأخيرة ، أغنية أندريا ، التي صدحت بها المطربة الشابة نانسي عجاج ، وهي أيضاً من تراث الجراري في منطقة دار حمر بغرب كردفان وقد ورد فيها :
حلاوة القرطاس
يا الفي الخشيم تماص
لو ما كلام الناس
برحل معاك خمّاس
وخماس هي قرية مشهورة في غرب كردفان وكل هذه النماذج وثيقة الصلة بموضوع هذه الحلقات.
يا سلاااااام عليك يا دكتور عمر قش على هذه السرديات الرائعة الت تخاطب عقولنا وقلوبنا ووجداننا وتجعل نفوسنا تتوق شوقا الى تلكم الأماكن النضرة من أراضينا وبوادينا وسواقينا وحبالنا وسهولنا ومضاربنا ومدننا وقرانا في تلكم الأرض الحنون التي يعجز الواصفون عن وصفها … كردفان … وما أجمل وأندى أصوات مبدعيها الذين قد تعرضت أنت لذكرهم وذكر إبداعاتهم ووثقت لهم فلكم من هذا الشعب الطيب التحية والشكر والعرفان