أخبار السودان
في السودان لم يعد الحراك من أجل الخبز بل نحو “أكتوبر” أخضر جديد

إبراهيم درويش
لا يزال السودانيون يتذكرون الثورة الشعبية في تشرين الأول (أكتوبر) 1964 وفي آذار (مارس) 1985 التي أطاحت الأولى بنظام إبراهيم عبود والثانية بنظام جعفر نميري. فهم بهذه المثابة أول من اخترع الربيع العربي الذي انتظرته الدول العربية عقودا طويلة قبل أن تخرج للميادين والشوارع وتجبر أنظمة ديكتاتورية فاسدة حولت بلدانها لمزارع عائلة على الرحيل.
وفي عام 2011 حاول السودانيون تقليد المثال في العواصم العربية واعتقدوا أن زعيمهم عمر حسن البشير الذي يقود الدولة منذ عام 1989 هو الرمز التالي، لكنه نجا وقمع الطلاب المنتفضين.
ولعل المقاربة بين ظروف السودان التي أنتجت أول ربيع عربي تختلف عن ظروف الربيع العربي. فالثورة السلمية التي انحاز فيها الجيش السوداني للشعب وأنتجت حكومة ديمقراطية لم تعمر طويلا قبل أن يعود العسكر مسلحين هذه المرة بالإسلام لا الماركسية أو الاشتراكية التي أريد تطبيقها مرة في السودان. والمفارقة أن النميري العائد من الولايات المتحدة عدل عن الهبوط في مطار الخرطوم وسافر للمنفى المصري الذي بقي فيه حتى عام 2000. كما فعل زعيم عربي آخر بعد عقدين من الزمان حيث هرب تحت جنح الليل.
إلا أن سودان ما بعد النميري عاش دوامة جديدة من النزاع بين القوى التي ملأت الفراغ وانتهت بتحالف عسكري مع الحركة الإسلامية بزعامة حسن الترابي وجاءت بنظام عسكري بشر بويوتوبيا إسلامية وجمهورية عالمي لينتهي بنظام قمعي ظل البشير رمزه، أنتج وفاقم ثورات محلية في دارفور وانتهى بتقسيم السودان إلى شمال وجنوب وتمردات مستمرة في الأطراف المحرومة في الشمال والشرق. وأصبح السودان محكوما برئيس تطارده العدالة الدولية بعد إصدار محكمة الجنايات الدولية حكما عليه بارتكاب جرائم حرب في دارفور. وفي هذا السياق ترى صحيفة “فايننشال تايمز” (4/1/2019) في افتتاحيتها أن قرار الجنايات الدولية أدى لتمسك البشير بالسلطة وبناء منظومة للقمع مكنته من الحكم وبدون القرار لكان مثل غيره ضحية الربيع العربي. وتلفت الصحيفة إلى أن الرئيس البشير أثبت خلال ثلاثين من حكمه قدرة استثنائية على النجاة فقد واجه عددا من الحركات المتمردة ووصلت إحداها مرة إلى العاصمة الخرطوم قبل أن تردها قوات الأمن. وفي ظله خسر السودان الجنوب الذي كان يدر عليه مليارات الدولارات من عائدات النفط أساء استخدامها في سنوات الوفرة. وتعتقد الصحيفة أن من الباكر كتابة نعي البشير إلا أن الكتابة على الجدران وربما حانت ساعة الحساب، فبعد تحول احتجاج محلي في مدينة عطبرة ضد الأوضاع المعيشية الصعبة وزيادة أسعار الطعام وعدم توفر الوقود إلى حدث عام. وانتشرت التظاهرات في عدد من المدن السودانية من بورتسودان إلى ود مدني والخرطوم. حاول البشير لامتصاص الأزمة بسلسلة من الخطابات التي القى فيها اللوم على الجماعات المندسة من الخارج واستخدم خطابا إسلاميا وجهاديا في مرات أخرى ومنح الشرطة الرخصة لقمع المتظاهرين بشرط عدم الإفراط في القمع. وفي ظل تحول التظاهرات لفعل يومي يتحدى فيها الرجال والنساء والصغار الغاز المسيل والرصاص الحي بات من الصعب تكهن ما سيحدث بعد. وحسب منظمة “أمنستي إنترناشونال” فقد سقط حوالي 39 متظاهرا.
خروج وخروج
وعلقت “فايننشال تايمز” أن رحيل البشير لو تم بطريقة منظمة ستكون لحظة فارقة طالما انتظرها السودانيون وأملا للقرن الافريقي تقود إلى التحرر من “وصمة عار” ورئيس متهم بجرائم الحرب مما سيطلق الامكانيات الهائلة للاقتصاد السوداني. وفي المقابل لو انهار النظام وانتشرت الفوضى فنحن أمام خيار دول ما بعد الربيع الذي جلب سنوات من الحروب والانقسامات. وسيكون السيناريو السوداني في الانقسامات الحادة التي فجرها النظام خلال العقود الثلاثة الماضية حادا. وفي الوقت الذي يحظى فيه البشير بدعم دول الخليج بعد اصطفافه مع الجانب السعودي في نزاعات المنطقة، إلا أن استمرار الاحتجاجات يعني أنه بحاجة إلى ما هو أكبر من الدعم الخليجي بكثير. فأزمة السودان وإن كانت في طبيعتها اقتصادية إلا أنها تظل سياسية. فبعد خسارته موارد النفط التي كانت تدر المليارات على خزينة الدولة عندما انفصل الجنوب عام 2011 دخل الاقتصاد حالة انهيار لولبي. ولم تؤد محاولات رفع العقوبات الأمريكية المفروضة على البلاد إلا لمنافع قليلة. ورغم مصادقة باراك أوباما على سلسلة من المبادرات لرفع العقوبات إلا أن واشنطن غيرت في أكثر من مرة الأهداف. وتعاون السودان في الحرب ضد الإرهاب أكثر من أي دولة مسلمة ولكنه ظل ولأسباب سياسية على قائمة وزارة الخارجية الأمريكية للإرهاب. ولتخطي الأزمة الاقتصادية هناك حاجة إلى جذب الاستثمارات والتخلص من المديونية المتراكمة التي تصل إلى 56 مليار دولار أمريكي. وبهذه المثابة يحتاج السودان إلى بداية سياسية جديدة، وهذه غير مرجحة مع بقاء البشير في السلطة. ومثل الحكام الأقوياء الذين يعيشون وهم البقاء فمن أجل إخماد الغضب الحقيقي عليه تقديم تنازلات حقيقية وليس رفع الرواتب ودعم الدولة للمواد الأساسية الذي لا تستطيع الدولة توفيره في المقام الأول، بل ويجب تقديم تنازلات سياسية.
زمن الميليشيا
وفي الوقت الحالي يواصل البشير لعبة استجداء عواطف السودانيين إن لم يكن أنصاره الذين تعودوا على هتاف “سير سير يا بشير” ورقصات العصا التي أدمن الرئيس على أدائها والتي يستحضر فيها التراث القبلي ويخلطه بالخطاب الديني. فمنذ وصوله إلى السلطة حاول غرس فكرة أنه الشخص المناسب للسودان إن لم يكن المختار. لكنه فشل خلال 30 عاما على توحيد السودان وظل الاقتصاد راكدا. ووجد في الحديث عن نشأته الفقيرة وخسارته أحد أسنانه وهو يعمل في ورشة بناء لكي يؤكد للسودانيين أنه يعرف الفقر أكثر من أي شخص آخر لأنه عاناه. وبعيدا عن الخطاب العاطفي والحماسي فالسودان في خطر الانزلاق في نزاعات لا أول لها ولا آخر. والمشكلة نابعة من الميليشيات التي عمل البشير على إنشائها طوال فترة حكمه. ففي تقرير مشترك لكل من يسرى ونيما الباقر في شبكة “سي أن أن” (1/1/2019) أشارتا فيه إلى الأساليب القمعية التي أبقت البشير في الحكم من سجن المعارضين و”بيوت الأشباح” التي عذبهم فيها. وقام بفرض التجنيد الإجباري على أبناء الشمال في حربه التي شنها في الجنوب والتي صور المعركة فيها بالوجودية. ومع اندلاع نزاعات في مناطق أخرى بالبلاد في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق أصبح البشير قلقا على نظامه وقدرة الجيش النظامي على التعامل مع أزمات متعددة. بالإضافة لخوفه من انقلاب الجيش عليه ولهذا بدأ بملء صفوفه من أبناء المناطق المهمشة. وكانت قوات الدعم السريع التي أنشأها من بقايا ميليشيا الجنجويد في دارفور واحدة من الميليشيات. وأصبح قائدها محمد حمدان “حميدتي” مستشارا للرئيس برتبة لواء رغم الاتهامات بارتكاب جرائم حرب في دارفور. وأضيفت وحدات أخرى تعرف بأبو طيارة إلى قوات الشرطة وكذا وحدة أخرى للقوات الخاصة برعاية الماريشال عمر البشير. وتتبع كل هذه الميليشيات والتي جاء معظم أفرادها من القبائل العربية الرئيس نفسه وليس وحدات فرض النظام والقانون. وتعززت الرؤية من خلال استعراض عدد من أبناء دارفور الذين اتهموا بالتجسس لصالح قوى أجنبية. وأخرج البشير كل هذه القوى وأضاف إليها القناصة وفرق الأشباح التي يرتدي أفرادها الزي المدني ويحرسون الشوارع في سيارات “بيكآب” قدمتها لهم الحكومة. وحسب التقرير فإن النظام يخوض على ما يبدو معركته الأخيرة خاصة أن كل الرجال والنساء والأولاد خرجوا إلى الشوارع يطالبون برحيله. فالإجراءات التي تقدم بها البشير في الأيام الماضية لم تعد مقنعة للمواطنين، ويبدو أن تظاهرات الخبز التي اندلعت أولا في عطبرة وانتشرت في أنحاء السودان كافية لتفريغ غضب وإحباط السكان من النظام والمطالبة برحيله. والحركة رهن برد النظام الذي يبدو أنه يواجه شعبه. وكما شاهدنا في الثورات السابقة فالبلد أمام خيار الفوضى أو خروج للنظام بعد قناعته أنه لا يستطيع الوقوف أمام شعبه.
المعارضة
وهناك رهان آخر على المعارضة ومنها الزعيم المخضرم صادق المهدي والعائد من منفى والذي حاول إبعاد نفسه عنها بقدر وطالب في الأيام الأخيرة بحل سياسي يخرج منه “سودان المستقبل” إلا أن مجرد طرح الحل السياسي رأى فيه الشارع السوداني الرافض للبشير هروبا من المشاركة الشعبية ومنح طوق نجاة للنظام. وتعاني المعارضة من ضغوط سياسية وضعف وهشاشة بعد سنوات من هيمنة الحزب الواحد والملاحقات والانشقاقات والتعاون مع النظام أو الابتعاد عنه. وكلما زادت حدة التظاهرات وتوسعت يجد البشير أن الخيارات أمامه تضيق وتصبح خطوات المرحلة الأخيرة عبثية ويدخل الجنرال في متاهته.
ويحاول كل طرف في اللعبة السياسية البحث عن مخرج عندما تنهار التحالفات الداخلية التي عمل عليها النظام لسنوات. وقد أعلن الجيش وقوفه – على الأقل في الوقت الحالي- مع النظام، إلا أن الوضع المتغير قد يجبر المؤسسة العسكرية والأمنية للتحرك لحفظ ما لديها والتخلص من الرئيس واستبداله بجديد. وقد يجد البشير نفسه في السلطة ولكن بدون سلطات واسعة. وربما شكل حكومة جديدة شاملة وعدل عن خوض انتخابات عام 2020. وقد يختار الانتحار كما يفعل القادة الشموليون، مواجهة الشعب بالقمع ملوحا بعصاه الشهيرة مما سيدخل السودان في مرحلة جديدة أصعب وأظلم.
وفي النهاية سيفرض السودان المعقد والمتنوع والغني تاريخا وثقافة وبشرا رؤيته على الواقع، فالرئيس لا يمكنه أن يحكم 40 مليونا كاره له وللأبد.
ونأمل ان يكون الربيع الجديد على الطريقة السودانية وليس على طريقة ربيع 2011 الذي تحول لشتاءات حزينة في عالمنا العربي المحطم والمقهور.
فالسودان أرض القصيدة والغناء قادر على إخراج ثورة جديدة فكما خلد الشاعر المعروف محمد المكي إبراهيم ثورة اكتوبر عام 1964 وشهيدها القرشي “كان أكتوبر فينا منذ الأزل/ كان خلف الصدر والأحزان يحيى/ صامدا منتصرا حتى الصبح أطل… أشعل التاريخ في قبضتنا مع المك نمر” نشيد الثورة يحيى في ضمير السودانيين وغنى لهم محمد وردي رائعة محمد الفيتوري “أصبح الصبح ولا السجن والسجان باق”.
القدس العربي