في حضرة من أهوى (1)

مهدي يوسف إبراهيم
سلسلة حلقات جوانب من مشروع الكابلي الغنائي العظيم …
توطئةٌ أولى :
” الجانبُ الإبداعي جانبٌ مهمٌ لأبعد الحدود ، وما ذلك إلَّا لأن الفن يخاطبُ وُجدان الإنسان، ويستمد الفن قيمته من قدرته على الاقناع من خلال التأثير ” .
” عبدُ الكريم الكابلي ”
…
توطئةٌ ثانية :
“ومنذ أن تفتَّحت مداركي على هذه الحياة ، أدركت عميقاً أنَّ الفن الخيّر كان وراء تطوُّر البشرية” .
“عبدُ الكريم الكابلي”
…………………..
توطئةٌ ثالثة :
أشتاقُ لقاءك يا ربي
في لهفة صوفيٍ ولهان
روحي لسمائك تسبقُني
أما قيدي و الجسمُ الفان
سيعودُ زهوراً و وروداً
في تُربك مرسمِك الألوان
“عبدُ الكريم الكابلي”
…………….
ما بين ميلاده في العام 1932 في مدينةٍ تستقبلُ الشمس أولاً قبل أن توزعها على بقية السودان ، ثم موته في بلاد العام سام في ديسمبر للعام 2021 ، استطاع الفنان السوداني ، الأفريقي ، العربي العظيم ” عبدالكريم الكابلي ” أن يملأَ الدنيا غناءً وتلحيناً ومحاضراتٍ باحثةٍ متأملةٍ في التراث السوداني الواسع وكتاباتٍ ترصدُ أهمية الفنون عموماً وحياة مؤلفها تحديداً . وصفتُ الكابلي بصفتي” الأفريقي العربي” لأنه واحدٌ من فنانين سودانيين قلة وصلت أغنياتُهم إلى شتي فّجاج أفريقيا ، وإلى مدنٍ عربية لا يزال ينكرُ علينا بعضُها عروبة اللسان وفصاحته ، دون أن نغفلَ عالمية الرجل إذ قرعت خيولُ أغنياته أبواب مدنٍ تموتُ من البرد حيتانها . كما وسمتُه عامداً بصفة السوداني لأنه كان يؤمن أننا و – ببساطةٍ ودونما فذلكة – سودانيون ، نقعُ في أفريقيا لكننا لسنا أفارقة ، ونتحدثُ اللغة العربية بطلاقةٍ ولكننا لسنا عرباً .. لكن تلك قصة أخرى كما يقول “محيميد” …
اسمُه ” عبد الكريم عبد العزيز بن محمد بن عبد الكريم بن يوسف بن عبد الرحمن”، وتعودُ جذور والده إلى “كابل” في أفغانستان ومن هنا جاءت كنيةُ ” الكابلي “، أما أمه فهي ابنة “الشريف أحمد محمد نور زرّوق” وكان يقيمُ في منطقة “القلابات”. كما أسلفتُ ، وُلد الكابلي في مدينة بورتسودان في العام 1932 هو عام خطيرٌ في حركة الفنون في السودان إذ شهِد رحيل العبقري “خليل فرح أفندي “، مثلما شهد مقدم “الكابلي” و”وردى” تعويضين سماويين باذخي الجمال . وُلد “الكابلي” في بيتٍ كان فيه الكتاب فرداً مهماً في الأسرة . كان والدُه رجلاً قرئةً ينظّمُ في بيته صالوناً أدبياً عظيماً ارتاده حتى “المحجوب”، كما كان يتمتعُ بصوتٍ وسيمٍ وبقدرةٍ عاليةٍ على عزف العود. أنفق “الكابلي” طفولته ودراسته الأولية في “بورتسودان” حيث برز في الإلقاء الشعري وحيث تفتحت أزاهيرُ موهبته الغنائية التي قٌدّر للأستاذ الراحل “ضرار صالح ضرار” أن يكون مكتشفها الأول . درس “الكابلي” القرآن الكريم في خلوةٍ كان يمتلكُها خالُه في “القضارف”، ودرج على قضاء إجازته المدرسية في سرايا جده في مدينة “سواكن”. ويمكننا حين نتأمل حياة “الكابلي” الباكرة أن نتوقف بهدوءٍ عند صالون والده الأدبي وشغفه – الكابلي الابن – بالقراءة وحفظه للقصائد ثم ارتياده للخلوة لندرك سر إجادته للتغني بجياد القصائد العربية الفصحى كما يمكننا الوقوف كذلك عند حقيقة أنه ورث عن أبيه الصوت الجميل وشغف الغناء والتعاطي معه كنشاطٍ إنساني راقٍ. ثمة حقيقة أخرى تسترعي الانتباه وهي علاقة ” الكابلي” بالبحر في كل من “بورتسودان” و”سواكن” وما لعبه هذا الكائن العملاق الغامض في تشكيل خياله الشاعر المتأمل . بالإضافة لكل ما ذكر من نقاط مستفزة للموهبة الفطرية تأثر “الكابلي” في طفولته بأغاني قبيلة “الهدندوة” وبالأغاني المصرية التي كان يستمع إليها في السوق . تنقّل “الكابلي” بين “القضارف” و”القلابات” و”طوكر” و”دوكة” و ” كسلا” و “الجزيرة” . هذا الترحّل في شرق السودان ، ثم إلى “الخرطوم” و”مروي” فيما بعد ، فتح نوافذ وعيه على قضية التراث وأهميته وهو ملمحٌ جوهريٌ في مشروعه كما سأبينُ لاحقاً .
ثمة عاملٌ آخر لابد من الإشارة إليه في حياة “الكابلي الباكرة وهو صداقته المتينة بالشاعر العظيم “حسين بازرعة”. كان الصديقان العظيمان يحرصان على تبادل الكتب ، والجلوس قرب شاطئ البحر الأحمر للحديث عنها ، وارتكاب الثرثرة البريئة . وقد أثرت هذه الصداقة في حياة كليهما بصورةٍ سافرة .
بعد شرق “السودان” حطّت خيولُ الكابلي في مدينة “الخرطوم”، فالتحق بمدرسة “التجارة الثانوية الصغرى” في مدينة “امدرمان” (كانت المدرسة مشهورةً باسم مدرسة الساعة) ، وحين تخرّج فيها التحق بالعمل في مصلحة القضاء . في العاصمة برع “الكابلي” في عزف العود وبدأ في التغنِّي ضمن دوائر الأصدقاء المقربين ، مترنِّماً بأغنيات الأساتذة “حسن عطية” و”عثمان حسين” و”الكاشف” وغيرهم. في تلك الفترة كتب “الكابلي” ولحّن أغنية “زاهية” ثم قدّمها إلى الكبير “عبد العزيز محمد داؤود” :
يا زاهية قلبي الشلتي جيبي
يا زاهية عبثك بي لو سبتى
لم يشأ “الكابلي” الظهور وقتئذٍ بسبب نظرة المجتمع المتخلفة للفنانين وقتها ، ومما زاد من حساسية موقفه أنه كان يعمل في القضائية . كما ذكر “الكابلي” في لقاء تلفزيوني أجرته معه قناة ” الغد العربي” أنه أيضاً لم يكن يثق في ملكاته اللحنية وقتها بالصورة التي تجعله يفكرُ في دخول الوسط الفني علناً .
ذكر “الكابلي” في واحدة من لقاءاته الصحفية أنه كان يودُّ أن يدرس القانون لكن إيقاع الحياة اللَّاهث في “الخرطوم” لم يمكنه من ذلك ، ولذا طالب بنقله إلى منطقةٍ هادئةٍ تمكنُه من التفرغ للدراسة، فأشار عليه بعض النفر المقربين بالذهاب إلى مدينة “مروي”. هناك تعرّف “الكابلي” على لفيفٍ من القضاة والإداريين والمغنيين والشعراء والأعيان . وهناك كتب أوبريت “مروي” الشهير في أواخر الخمسينات وأدخل فيه شيئاً من الروح الموسيقي للمنطقة مثل مقطع ” بوبا عليك تقيل”. كما لحّن رائعة ” شذى زهر” التي قدّمها إليه ” إبراهيم يوسف ” شقيق المذيع ” أبو عاقلة يوسف”. التفت “الكابلي” إلى تراث المنطقة الغني ، كما خالط عدداً من المثقفين الكبار مثل الشاعر “مهدي فرح” الذي قدّم للكابلي أغنية “حليلكم” ليقوم الأخير بتلحينها وتقديمها للكبير “إبراهيم عوض”:
يا حليلكم يا حليلك انت براك
كيف نذكرك ما دمنا ما بننساك
……
يتبع