بروفايل.. حافظ عبدالرحمن.. المزمار الرائع

علي الطاهر
هي مجرد نفخة في بوص أو فلوت، ولكن الهواء الناعم الذي يدخل في الصافرة المتعددة الأسماء؛ نادراً ما يجد إنساناً يحوله إلى نغم رائع مثلما فعل الموسيقار البارع، والفنان المرهف (حافظ عبد الرحمن) الذي قدم عدداً مهولاً من المقطوعات الموسيقية التي أطربت الوجدان السوداني، وشنف مسامع السامعين أكثر من نصف قرن، وفي كل مرة يمسك فيها الموسيقار محبوبته صافرة (الفلوت) يجمد الحراك في المكان، ويفرض الصمت داخل الصالة أو المسرح، الجميع هناك ينتظر بانتباه ليسمع مقطوعة لحناً شجياً من مزمار كان باهراً، قبل أن يتوقف عن العزف.
الحمد لله
الاسرة ردت بتوضيح لما ورد في بوست منتشر عن الوضع الصحي للأستاذ الموسيقار حافظ عبدالرحمن وطمأنة لمحبي وعشاق الأستاذ.. نؤكد أن الأستاذ بأتم الصحة والعافية ولا يشكو من أية أمراض والحمد لله رغم مروره بحالات نسيان تعتريه بين الفينة والأخرى وهي أعراض طبيعية لمن هم في سن الأستاذ .. نثمن طيب المشاعر وصادق مبادرات العلاج، ولكن الأسرة لا تعوزها الإمكانيات المادية ولا العلاقات اللازمة لإجراء علاج إن كانت له حاجة.. رغم انزعاجنا مما نشر إلا أنه وضح لنا مدى حب جماهير الشعب السوداني الأصيل لشخص وفن الموسيقار.. الأستاذ بخير.. جزاكم الله خيراً)..
*تحت أنقاض المعاناة..
بعيداً عن الجدال والمرافعات الإسفيرية لإثبات حقيقة الوضع الحالي الذي يعيشه الموسيقار العبقري، فإن الواقع يؤكد بما لايدع مجال للشك أنه بات على قائمة الإهمال الرسمي التي تعد المكافأة الوحيدة التي ينالها مبدعي البلاد في نهاية المطاف، وأن الثروة الفنية التي تركها في خزائن تاريخ الإبداع لا تعني شيئاً البتة، وهو جحود لا ينكره الواقع الذي قدم نماذج كبيرة لفنانين، شعراء وموسيقيين ماتوا حطاماً تحت أنقاض المعاناة، والمشهد الآن لعازف الفلوت لا يبدو كذلك؛ ولكنه اجتر ذكرى صورة مشوهة لمأساة مبدعين مثل الفنان الراحل عثمان مصطفى، عبدالرحمن عبدالله، أبوعبيدة حسن، الموسيقار يوسف القديل، والعازف الكردفاني..
*نيالا.. والمرفأ القديم
أبصر العازف ( حافظ عبد الرحمن) النور بمدينة نيالا – غرب السودان، وهي نفسها مسقط رأس موهبته التي تفتقت ونثرت الإبداع في جميع بقاع العالم، بين وديان دارفور وربوع كردفان شرب فنون البادية النقي وتعلم العزف على الآلة الصغيرة التي أجادها وهو هاوٍ بشكل مدهش، قبل أن يحترف ويقدم أول مقطوعة موسيقية له باسم (المرفأ القديم) التي أنتجها منتصف سبعينيات القرن الماضي، وهي تعد باكورة أعماله، وكانت رائعة ومميزة مما دفع بالإعلامي – محمد سليمان – أن يستخدمها شعار برنامجه التلفزيوني الشهير (دنيا دبنقا) ، وتعتبر (المرفأ القديم) بداية لإنتاج أكثر من 30 مقطوعة ذات قيمة جمالية رفيعة استعانت بها إذاعات عالمية على غرار مونت كارلو – بي بي سي وصوت أمريكا، كما أصبحت خلفيات برامج تلفزيونية، وحصدت مقطوعاته الموسيقية كذلك جوائز على المستوى المحلي والعالمي كان آخرها الجائزة الذهبية التي نالها في مهرجان البحرين..
وجال (حافظ عبد الرحمن) بلاد العالم وهو يحمل آلته الصغيرة التي عزف بها في عاصمة اليابان طوكيو في الشرق الأقصى وعدد من العواصم الآسيوية قبل أن يذهب إلى القارة العجوز لتطرب مقطوعاته مدناً أوروبية وكذلك واشنطن عاصمة بلاد العم سام أمريكا في الغرب الأقصى، وكان (حافظ) الفنان السوداني الوحيد الذي يؤدي فواصل موسيقية في مسرح – كيني سنتر – في واشنطن ليلة كاملة متع فيها الحضور بفن سوداني اصيل من نوع مختلف..
*الفلوت..الإصبع السابع..
قال الموسيقار والعازف – حافظ عبد الرحمن – في حوار سابق معه بصحيفة الشرق الأوسط – على هامش فعاليات احتفال السفارة السودانية بالرياض بعيد استقلالها ال 58- : (إن علاقتي مع آلة الفلوت أتت من إحساسي العميق بأنها الأصبع السادسة في كفي، فمنذ طفولتي الباكرة كنت مولعاً بآلة (الصفارة) العادية، حيث إنها كانت متاحة فهي أحياناً تكون من الصفيح وأحياناً من الأبنوس وأحياناً من القصب، وكنت أصنعها بنفسي في أحايين كثيرة.. ولذلك لم تفلح أسرته عندما حاولت صدّه عنها ليتفرغ للدراسة وعندما أكمل الصف الرابع في المدرسة الابتدائية كانت قد نضجت مهارته في العزف، حيث كان يحتضن جهاز الراديو ليجاري الموسيقى التي تبثها الإذاعة السودانية أم درمان)..
ويضيف (حافظ) : من الأغاني التي استحوذت على بداياته، أغنية – على الجمال تغار منّا ماذا علينا إذا نظرنا- للفنان سيد خليفة وكلمات الشاعر الشفيف إدريس جماع، وأغنية – المصير – للفنان إبراهيم عوض وأغنية – خاطرك الغالي- للفنان عثمان حسين، وغيرها حيث تعد بمثابة سيمفونيات موسيقية، وعندما
التحق حافظ عبد الرحمن فيما بعد بمعهد الموسيقى والدراما، قال: (من الطرائف أن الملتحق بالمعهد في العادة يختبر بعد التأكد من شهاداته الأكاديمية، ويسأل عن ماذا سوف يعزف، فكانت اللجنة مكونة من أساتذة كوريين حيث كانوا وقتها معلمين بالمعهد، ولكن كانت إجابتي بمداعبة الصفارة وبمجرد هذه المداعبة الموسيقية انتبهوا إلى نضج هذه التجربة مع الموهبة مع اختلافها عن غيرها من أداءات غيري من الممتحنين) وبعدها
أكمل دراسته بكلية الموسيقى في آلة الفلوت حيث وجد أنها أوسع في مدارها وفي طريقة تعبيرها عما عليه غيرها من الآلات الموسيقية الصغيرة الأخرى..ألف العازف (حافظ عبدالرحمن) مقطوعات موسيقية خاصة، بالإضافة إلى عزف الأغنيات السودانية ومقطوعات من التراث الموسيقي والشعبي، ومن أشهر المقطوعات التي أنتجها: المرفأ القديم – الأيام الخالدة – حتى نلتقي – بين الذكرى و الشجن – جواهر – حلم الغد – سوداني والمصير..
*على لسان رفيق..
نشر الكاتب (محمد علي مخاوي) رفيق الموسيقار حافظ عبد الرحمن مختار هذا النص في الفيسبوك : ( كان مساء وكعادتي أنام باكراً أيقظتني موسيقى غريبه. كنت نائماً في منزل قريبي أحمد شرف الدين في حي الوادي بنيالا وهو قريب من مكان الحفل الذي كانت تقيمه نيالا الأميرية على عجل غيرت ملابسي وجريت حيث الموسيقى .كان رجلاً كثيف الشعر يقود فرقة موسيقية ويغني بالفلوت نعم يغني.. موسيقى يا نجوم الليل اشهدي..شهدت تلك الليلة موهبة حافظ عبدالرحمن مختار كنت رأيته يحرس مرمى نادي الهلال نيالا، وكان نجماً يفكر المهاجمون ألف مره قبل التسديد تجاه مرماه، وقبله شاهدته يحرس مرمى منتخب الأبيض.كان رشيقاً وضيء الابتسامة ومنذها ظل حافظ يفاجئني كل يوم مرة مع محمد الصادق وجدته في فرقة جنوب دارفور يقدم عزفاً مدهشاً على آلة الأكورديون وعلى الإيقاع وعلى كل آلة تجد لحافظ حكاية، فتنت به عازفا للفلوت وأظنه سودنها وسودن إحساسها، وكنت محظوظاً أن صار صديقي الذي ماقطع سيل مفاجآته لي حين دعاني صلاح شكوتي للعمل في مسرحية، والله اتغيرت يازمن فوجدت أن حافظ هو كاتب النص المسرحي وملحن الأشعار التي كتبها، وربما جيلي يذكر أننا شاركنا في إحدى الدورات المدرسية بعمل كان من أشعاره وألحانه..نيالا العز..التحق بمعهد الموسيقى والمسرح وتخرج فيه وتلازمنا وهناك شهدت ميلاد غالب أعماله، فقد كنت أتردد كثيراً على بيته في المهندسين قبل أن يقطع دراسته ويلتحق بالخارجية، وحين عاد التقينا في اتحاد الفنانين وعملت معه في إنتاج أول حفل موسيقي كامل في قاعة الصداقة، كان متوتراً كقوس وخائفاً من التجربة، ولكن قبل أفول الشمس نفذت التذاكر وطلب الناس على مسؤوليتهم الجلوس على الجنبات كان حافظ فتحاً في الموسيقى البحتة، راهن عليها ونجح..جئنا اليوم التالي عصراً للنقاش حول التجربة وجلسنا حتى أدركنا المغرب ليقدمه أميقو للصلاة فاجأني حافظ مرة أخرى بصوت تتمنى أن يصلي ركعته بسورة البقرة حتى ( أنت مولانا فانصرنا علي القوم الكافرين) ..صوت فيه تكتشف القرآن من الأول كأنه ينزل الآن.. سيدي ومولاي حافظ أنا لا ألقي نظري إلا إلى الأيام الخالدة..عشت موفور النعم ..كم جملت حياتنا..ربما هذا بعض جميلك..
اليوم التالي