مراجعات (أ) (3). الطيب صالح ووجه آخر: مصطفى سعيد والصراع غير المتكافئ للإنتلجنتسيا
مازن سخاروف

14 ديسمبر 2021
(3)
وقفنا في الحلقة السابقة (1 و 2) هنا:
===============
في المقام الثاني, يقول الطيب صالح في تفكيك “الواقعية السحرية” بإن “كل نظرتنا إلى الدنيا هي خليط بين الواقع والأسطورة”. أي يتحدث عن أثر التراث في القص الروائي. وسأعرض لذلك باختصار فيما يلي في الجزء (3)
================
في ذات الشأن حين نشرت تلك الجزئية من سلسلة المقالات بالمنتدى العام بوقع الراكوبة, عمل الزميل محمد بابكر مداخلة هذا نصها, إقتباس:
الحقيـقه الانترنت كشفت انه لايـمكن للخيـال المطلق انتاج الروايـة فانا لا اوافق مع اي احد في العالم انه توجد منتجات غيـر واقعيـة فحتى كتابات ما قبل الاستعمار اثبتت الدراسات انها مزيـج من اساطيـر مختلفه في الظرفيـة المكانيـة و الزمانيـة عودة الى ازمنة عقليـه مختلفه حكمتها الاساطيـر وليـست نتاج واقع سواء تحول الى تاريـخ او ما زال معاشا . اذن خارج زمن الاسطوره فالروايـه هي رصف لغوي يـعبر عن معاني محددة كمفردات و معنى اخر كوحدة و تعطي القارىء صورة ذهنيـه تعتمد على البيـئة الذهنيـة للقارىء. السيـنما الامريـكيـة الجنوبيـة ليـست وسيـلة تعبيـريـة تعبر عن الامريـكيـيـن و لكن الاجراس اللفظيـة و الشحنات الاسطوريـة تجعل من واقعيـة الكاتب مغلفة بالحليـات التي تجذب
للقراءه و الدخول الى عالم الكاتب و الذي هو مجهول بصورة اكبر و مجهوليـة بيـئة الكاتب هي من ما يـجعل القارئ المتعطش اكثر اهتماما بالبحث عنها و اذا وجد ما هو غريـب عن حدود وعيه بالواقع هذا يـرضيه .. واهم ما اريـدك ان تنتبه معي عليـه اثناء النقد هو الترجمة و حرفيـة المترجم احيـانا تقرء الروايـة من لغة لا تمسك و عندما تقراها من لغه اخرى فتمسك كقارئ وفقأ لميـولك الذهنيـة .,. ده طلع اطول من بتاعك, منتظرك يـا حبيـب ترد لي رد اطول من ده
إنتهي إقتباسي عن كامل مداخلة الأخ محمد بابكر. وردي عيه كان. إقتباس:
“غير واقعية, بالتأكيد موجودة إن قصدنا تصنيف الرواية. غير الواقعي, لا يعني أنه مُفرغ منه أو مجاف له, بل هو لون روائي مختلف عن الواقعي. مثل الرومانسي والرمزي.
بالنسبة لكتابات ما قبل الإستعمار, والدراسات النقدية لها لو فهمتك جيدا, فالعودة إلى أزمنة عقلية مختلفة هو تكنيك في السرد أكثر منه ركيزة بنائية للنص. أتفق معك تماما في جزئية الرواية كمزيج من أساطير مختلفة, إن قصدنا مادة تلك الأزمنة المرجوع إليها, وهذا بشكل عام يسمى بالتراث, ومنه شعبي, أسطوري, صوفي, إلخ. ولدينا في هذا المعترك دراسات سودانية عن أثر التراث في الرواية (إنظر الهامش رقم 3 التالي), وإن كان التركيز على الرواية التاريخية لكن السياق العام هو النوع الروائي قياسا إلى غيره من الفنون, والتراث كمكون مهم فيه, وهذا لا يعني أنه المكون الوحيد. من هنا, فقولك الآخر ألا يكون المكتوب نتاج واقع سواء تحول إلى تاريخ أو ما زال معاشا, فهناك من الأكاديميين السوادانين (وأشاطره الرأي) من سيشير بقلب إقتراحك رأسا على عقب, فيقول ببيان وإيجاز البلاغة بأن التراث, “ليس إمتدادا لبقايا ثقافة الماضي, بل هو تكملة لثقافة الحاضر والواقع” (3). وهذا يعني أن الواقع هو أساس مادة النص, والخيال الروائي الذي يستعين بالتراث ومكونات أخرى هو التكميلي في المقرر. شفت كيف؟
السينما كلون مختلف من الفنون, أقترح للسيطرة على شعاب الحديث, يمكن أن نفرد لها مساحة منفصلة كان ربنا مد في العمر ولقينا الوقت.
تعريفك للرواية ليس لدي مشكلة معه, ولا مع ما قلته حرفيا بإنها, “تعطي القارىء صورة ذهنيـه تعتمد على البيـئة الذهنيـة للقارىء”. لا بأس. هذه صياغة بكلمات أخرى لرؤية للمدرسة الظواهرية في النقد؛
والتي تشير إلى ما يسمى بـ (أفق التوقعات للقارئ) (4). يحسن بنا أنا نسمي المدارس النقدية للأدب بأسمائها حتى نستطيع ضبط أضابير النقاش بشكل جيد. شخصيا, مخلصك متأثر بالمدرسة الروسية إبتداء بالمدرسة الرصينية (5) إن صحت ترجمتي لـ
Formalism School/Russian Formalism
بصرف النظر عن ملائمة التسمية للمسمى, مرورا بالخيال متعدد الأصوات لباختين (6), وإلى نصل إلى الرواية الإسفيرية (شبْـككة الرواية إن جاز الوصف) حسب رؤيتي اليوم.
على أية حال, الفنيات الروائية ليست بيت قصيدي تماما. فمقصدي هو الأجندة والأدلجة للكاتب كما النص. يعني جيتك من الآخر. والرؤية دي موجودة كذلك في المدرسة الروسية وفكر الإنتاج الأدبي كخميرة وعي (7)
Socially-conscious Literature
وليس أدبا من أجل الأدب فحسب
Art for Art’s sake.
مقصدي من هذا البوست هو تفكيك أيديولجية موسم الهجرة إلى الشمال وأجندة الطيب صالح (الوجه المظلم). ومن منظور سوداني, إقتباس, الرواية ترويها جداول ثقافية, والثقافة مأخوذة من التاريخ. إنتهى الإقتباس (راجع الهامش رقم 3) لكني أعتقد أن الإقتباس غير مكتمل. فأكمله وأقول بإن الثقافة ليست مأخوذة فقط من التاريخ, بل كذلك من الأدلجة والإمبريالية (صراع الهيمنة الجيوسياسية بإيجاز) كذلك. أتمنى أكون غطيت معظم النقاط لديك.”
إنتهى الإقتباس وردي على محمد بابكر.
الهوامش لم ترد في سابق المقالات (ترتيب الهوامش متسلسل بين المقالات من آخر هامش فيما سبق). تفصيل الهوامش أدناه لفائدة القراء:
————————
بصدد الهامش رقم (1) في المقالة السابقة (واحد وإثنان) عن تعمد وضع الإنسان الأسود كمجرد مقارنة قياسا إلى معيار أبيض في الثقافة, علم النفس, الخ, سيرد في مستقبل المقالات بإذن الله.
(3) د. آسيا وداعة الله (في تقديمها لورقة بحثية), فعاليات جائزة الطيب صالح العالمية للأدب الكتابي — الدورة الثالثة من الثاني عشر إلى الثاني والعشرين من فبراير 2013.
(4) “الأفق” كإصطلاح في المدرسة الظواهرية من إبتكار الفيلسوف إدموند هوسِرل. أفق التطلعات أو horizon of expectations كما نـُقل من الألمانية إلى الإنجليزية, من إختراع الأكاديمي الألماني هانز روبرت ياوُس آخذا “تصور الأشياء” من هوسرل في مدرسته الظواهرية والتأويل\التفسير من هايدِقه (راجع على سبيل المثال فيرما, تحديد نظرية إستجابة القارئ في التاريخ الأدبي لياوُس كتحدّ للنظرية الأدبية, 2013 – بالإنجليزية). باختصار ياوُس اقترح “نظرية التلقي” مُرَكزا على تعامل القارئ مع النص حسب المكوّن الذهني للقارئ بما يشمل إطلاعا مسبقا له على نصوص أخرى. رغم تقديري لمجهودات المدرسة النقدية على يد ياوُس ومن عقبه, إلا أجد النقلة النقدية في مركزة “التلقي” عند القارئ بديلا عن سبر غور أفانين النص نفسه مثيرة جدا للجدل. إنظر الهامش التالي.
(5) المدرسة الرصينية من أعرق المدارس النقدية في العصر الحديث في تقديري, وأكثرها “ثورية” رغم أنها لم تلق حظها من الإهتمام مقارنة برصيفاتها من مدارس النقد المعاصرة. إنظر في هذا الصدد وفي “الثورية الرصينية”:
Peter Steiner, Russian Formalism: Metapoetics, 1984
الأهم عندي من عراقة وثورية المدرسة الرصينية أن تثويرها كان بالنسبة لي الأكثر إقناعا في التنظير للنص, تفكيكه كما الإبحار فيه – بما فيها النص متعدد الأصوات الذي طوّره في ثوب قشيب الناقد الألمٌعي ميخائيل باختين. مثل الماركسية (إلى حد ما) فالرصينية أيضا “خشم بيوت”, أشهرهن (في التسمية والتسلسل التاريخي) الرصينية الروسية والرصينة التشيكية؛ لكن “الأوج” في رأي بعض النقاد كان عودة المركزة إلى الرصينية الروسية في “مدرسة باختين” أو “حلقة باختين”. والأهم عندي كذلك أن نظرية “أفق التوقعات” تضع كل البيض في سلة القارئ, أي افتراض أحسن الإحتمالات بنشوء “المسافة الجمالية” حين يرتقى النص بأفق تطلعات القارئ (ياوُس, نحو جماليات للتلقي, 1982, الترجمة الإنجليزية). لكن ذلك يضع ثقة كبيرة جدا في القارئ (أو الإيحاء له بوضع تلك الثقة في نفسه\ها), دون أن نعي (أو يعي هو) أنه يمكن أن يكون عرضة لـ”التلوث” في مَعْرض ما هو مقدم عليه من تلق للنص الذي بين يديه. أما استنطاق النص عند المدرسة الرصينية, فعلى أسوأ الفروض, إن كان النص (أو كاتبه) مجنونا فالقارئ عاقل! وعلى أحسنها يحصل القارئ على تمرس كاف كي يكون قادرا على تفكيك النص بشكل جيد (مثل حل المسائل الرياضية!)
(6) تعدد الأصوات يقابله في الإنجليزية ‘polyphony’, لكن باختين إبتكر عدة إصطلاحات لتصوره النقدي الجديد, يمكن إتحاف القراء بها في موضع آخر.
(7) هذا طبعا صندوق البندورة الذي فتح ولم يغلق حتى الآن بخياريه: أأدبٌ نتجمل به وحسب (قشورية للأدب كما قد يرى البعض), أم مُتجه للتغيير للأفضل؟ فلا يوجد خيار ثالث.
*** مشباك الحلقة السابقة (1 و2) التي نشرت بالأمس هنا على موقع الراكوبة:
مراجعات (أ) (1 و 2). الطيب صالح ووجه آخر: مصطفى سعيد والصراع غير المتكافئ للإنتلجنتسيا*
كتابات مازن سخروف ،
ثرثرة فارغه ،
كما هو معتاد .