مقالات وآراء

هل انتعش السيد عبدالله حمدوك ، رئيس وزراء السودان من غيبوبته؟

ابراهيم موسى 
هل انتعش السيد عبدالله حمدوك ، رئيس وزراء السودان من غيبوبته؟
لم تمض سوى أيام قليلة منذ توقعات البروفسير حسن مكي بعدم استمرار السيد عبد الله حمدوك ، رئيس وزراء السودان في منصبه ، حتى بدأت وسائط الإعلام المختلفة تتناقل خبر اعتزام سياته لتقديم استقالته تارة خلال ساعات ، وتارة أخرى في غضون أيام . وجاءت توقعات البروفسير مكي في مقابلة أجرته معه صحيفة اليوم التالي في السابع من ديسمبر الجاري مشيرا إلى عدة صعوبات ماثلة أمام السيد رئيس الوزراء تحول دون استمراره في المنصب . والصعوبات التي ذكرها البروفسير مكي تتلخص في عدم تعاون المكوّن العسكري معه ، والتصعيد الثوري المستمر واتّهامات القوى الثورية له بالخيانة ، وتفاقم الحرب الأهلية في دارفور . وهذا فضلا عن الصعوبات التي تواجه السيد رئيس الوزراء في تكوين حكومة الكفاءات والمحكمة الدستورية والمجلس التشريعي .
وأشار البروفسير مكي جازما “بأنّ المعركة التي بدأت في الخامس والعشرين من أكتوبر التي سميّت بتصحيح المسار بأنّها لم تحسم بعد لا لصالح المكوّن العسكري ولا لصالح رئيس الوزراء ومن يمثلونه”. وقال منوها إلى جولة أخرى قادمة ، “بأنّ المتغيرات في السودان أصبحت أكبر من قدرات الذين يحكمون ، سواء من المكوّن العسكري أو رئيس الوزراء”. وتوقع بروز هذه المتغيرات في الأفق “في الشهور القادمة إنّ لم تكن الأسابيع القادمة”. وبينما لا يزال الجدل الكبير الذي أثارته هذه التوقعات مستمر في أوساط المراقبين والمحللين السياسيين ، ولا تزال آراءهم تضارب بين الدعم والدهض ، حتى انفجر خبر توجيه السيد رئيس الوزراء طاقم مكتبه للشروع في إعداد مستندات التسليم والتسلم.
وجاء الخبر المؤكد لتوقعات البروفسير مكي في الثامن عشر من ديسمبر الحالي حينما نقلت وكالة «رويترز» للأنباء “عن مصادر مقربة من رئيس الوزراء أنه يعتزم تقديم استقالته من منصبه خلال ساعات ، وأنه أبلغ شخصيات قومية وقادة سياسيين اجتمعوا به لثنيه عن الاســــــــتقالة لكنه أكد إصراره على الخطوة” .
وحسبما ورد في جريدة “الشرق الأوسط” في عدد السابع والعشرين من ديسمبر الجاري ، “توقعت مصادر أن يقدم رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك ، استقالته في غضون الأيام القليلة القادمة ، وذلك بعد أن كان قد أرجأها الأسبوع الماضي استجابةً لوساطات إقليمية ودولية وضغوط محلية . غير أن تطور الأحداث والعنف المفرط الذي استخدمته القوات الأمنية ضد المتظاهرين الســــلميين في الأيام الماضية ، دفعت حمدوك إلى التراجع عن إرجاء الاستقالة” .
بالإضافة إلى سلف ما الذكر ، نقلت «الشرق الأوسط» عن مصادر لصيقة بحمدوك أنه عبر عن انزعاجه من مقاطعة تحالف «الحرية والتغيير»، الذي أتى به وكان يمثل حاضنته “السياسية لحكومته السابقة ، بعدما رفض التحالف تأييد الاتفاق السياسي الذي وقّعه حمدوك مع البرهان في 21 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي .” وهذا فضلا عن رفض التحالف المشاركة في مباحثات تهدف إلى التوصل لإعلان سياسي جديد يسعى حمدوك إلى جمع الأطراف حوله” . وشل هذا الموقف حسب المصادر ، قدرة حمدوك لتشكيل حكومة الكفاءات المستقلة .
وليس هذا فحسب ، بل تسارعت الأحداث لتؤكد أن رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك بالفعل حسبما مصادر لقناة “الشرق” ، “طلب من رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان حميدتي، البحث عن رئيس وزراء جديد ، لاستكمال ما تبقى من الفترة الانتقالية”. ولم تفلح محاولات البرهان وحميدتي لإثناء حمدوك عن قرار الاستقالة لتمسكه الشديد بموقفه ووصول قناعاته إلى مراحل تصعب العودة منها . ورغم احتياج الثورة والقوى الثورية الملح لوجود السيد رئيس الوزراء في منصبه ، إلّا أن وجوده في منصبه في هذا الوضع المأساوي سيكون خصما على سمعته وتاريخه الناصع ، طالما ذلك يوفر غطاء شرعيا ودبلوماسيا للبرهان وحميدتي لارتكاب المزيد من الجرائم البشعة التي لم تستثن حتى الأطفال والمعاقين .
بغض النظر عن حسن النية والدوافع التي دفعت السيد رئيس الوزراء لاتفاقه السياسي مع البرهان ، لم تكن حساباته للشروع لمثل هذا الاتفاق موفقة ، وكما لم تكن حساباته موفقة في التفاعل مع الشارع الذي ظل يدعمه بلا كلل ولا ملل منذ تقلده المنصب . فإذا استند سيادته إلى الفرية التي أتي بها برمة ناصر وأتباعه وشرع في إبرام الاتفاق ، كان من الأجدر أن يخرج ويخاطب الشارع المنفجر ويبشره بالمنافع المرجوة من هذا الاتفاق . بل ذهب سيادته إلى مكتبه وباشر عمله دون الاكتراث لمشاعر الشارع المتفجر غضبا ، مسببا بذلك فجوة كبيرة وأزمة ثقة بينه وبين الشارع يصعب ترميمهما، إلّا بتطبيق بنود الاتفاق عمليا ، ولم يحدث ذلك . بالعكس ، رجعت كل الأمور إلى مربع العهد البائد المشؤوم ، وبل أسوأ منه. إذ استمر التنكيل بالمتظاهرين السلميين والاعتقالات بأبشع صورها، وازداد تفاقما بمنح الأجهزة الأمنية وكتائب القتل كل صلاحيات القتل والتنكيل.
وبوصول الأمور إلى هذا المربع قبل أن يجف الحبر الذي كتب به الاتفاق ، اتضح للسيد رئيس الوزراء الصورة الحقيقية للبرهان وحميدتي وبرمة ناصر وشرذمته . وبالتالي لا بد من تذكير سيادته بما فعل البرهان وحميدتي بالوثيقة الدستورية التي أشرفت على توقيعها قوى دولية ، حيث داساها بأرجلهما ومزقاها وجعلاها “كعصف مأكول”. ثم فعلا ما فعلا بطاقمه الوزاري وبقية أعضاء حكومته فعل من لا يخشى العواقب . فإن البرهان وحميدتي اللذان طغا في البلاد وأكثرا فيها الفساد ، قتلا وحرقا وتشريدا ورمي الأبرياء في البحر أحياء ، ليس لهما أمانا . وإن ما ارتكباه من جرائم أمام القصر الجمهوري لم تكن سوى مثقال ذرة مما ارتكباه أمام القيادة في مجزرة فض الاعتصام ، رغم تعهداتهما وتأكيدهما عدم المساس بالاعتصام . وهذا فضلا عما ارتكباه في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق من قبل . فإذا إبرام أي اتفاق حقن دماء السودانيين معهما خطوة مثيرة للدهشة والسخرية.
وهذا ليس تحاملا عليهما ، وإنما لتكرار نكص العهود وعدم الإيفاء بها وترسخ هذه السمة في شخصيهما كالخلايا الوراثية التي تجري في دمائهما. والدليل على ذلك ، الأزمة السياسية التي خلقاها بعدم الإيفاء بعهودهما في تطبيق بنود الاتفاق السياسي ، والتي تتلخص في حقن دماء المتظاهرين السلميين وعدم قمعهم ، وإطلاق سراح المعتقلين ، ومنح السيد رئيس الوزراء الحرية المطلقة في اختيار طاقم حكومته من الكفاءات ، وعدم التدخل في قراراته المتعلقة بذلك . ولكن ذهبت الوعود حبر على ورق كالمعتاد ، وتفاقمت الأزمة السياسية التي دفعت السيد رئيس الوزراء للتمسك باستقالته مجددا . والسبب في ذلك ، لم يتوقف القمع المميت للمتظاهرين السلميين ، بل اشتدت بشاعته لتشمل الاغتصابات الجماعية التي لم ترحم حتى الأطفال كإحدى الوسائل القمعية.
وازداد الموقف تأزما بتدخل البرهان وحميدتي في قرارات السيد رئيس الوزراء المتعلقة باختيار طاقم حكومته ، طالما يضم الاختيار شخصيات قد تهدد مصالحهما بنبش ملفات غير قابلة للاطلاع. وهذا فضلا عن تمسك بعض أعضاء الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق سلام جوبا بحقائبهم الوزارية ، وخاصة جبريل إبراهيم ، رئيس حركة العدل والمساواة الذي لم يتنح عن منصب وزير المالية كغيره من الوزراء الذين شملهم حل الحكومة المصاحب لانقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر المنصرم . بل بقي في منصبه خالدا مخلدا فيه أبدا ، متوعدا من سولت له نفسه ويطلب منه التنحي عن منصبه. فإذا الأمر كذلك ، لم تم أبعاد تحالف الحرية والتغيير بحجة تكوين حكومة كفاءات مستقلة؟
هذا ما يشير إلى أن الغرض من هذه الخطوة ليس إلّا مخطط لعزل السيد رئيس الوزراء من قاعدته الجماهيرية التي تمثل ٩٥٪ من جميع أطياف ومكونات الشعب السودان، وحصاره وسط شرذمة قليلة من ذوي المصالح الشخصية الرخيصة التي تحركها مخابرات الدول المتحالفة مع المكون العسكري لنهب ثروات البلاد . وبالتالي تسهل السيطرة على السيد رئيس الوزراء الذي وضع نفسه في العراء بلا حاضنة سياسية ولا قاعدة جماهيرية يستمد منهما قوته في اتخاذ القرارات وحمايتها من الذين ظلوا يجهضون برامج وخطط حكومته على مدى السنتين الماضيين  فبسبب حسن نياته ونقائه لم ينتبه السيد رئيس الوزراء لهذا المخطط المخابراتي الماكر، ووجد نفسه بين مطرقة المكون العسكري وحلفائه وسندان مقاطعة حاضنته السياسية وقاعدته الجماهيرية.
أما برمة ناصر وزمرته ، ما هم سوى شخصيات هلامية غلبت عليها شهوتها وامتهنت تجارة المفاوضات الرخيصة المدفوعة الثمن التي يصعب تسويق بضاعتها المنتهية الصلاحية حتى في أسواق الأطفال وذوي الإعاقات الذهنية . وخير دليل على زيف مزاعم حقن دماء السودانيين التي سوقوها للسيد رئيس الوزراء ، هو هروبهم وفرارهم أثناء مراسم التوقيع على الاتفاق السياسي وتواريهم خلف جدران القصر الجمهوري خوفا من الظهور في شاشات الفضائيات “كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة”. مشهد يعكس سوء نياتهم وخدعتهم للسيد رئيس الرئيس كخدعة إبليس لمشركي قريش في يوم غزوة بدر ، كما ورد في الآية الكريمة، “وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَٰنُ أَعْمَٰلَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَإِنِّى جَارٌ لَّكُمْ ۖ فَلَمَّا تَرَآءَتِ ٱلْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّى بَرِىٓءٌ مِّنكُمْ إِنِّىٓ أَرَىٰ مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّىٓ أَخَافُ ٱللَّهَ ۚ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ.”
ومن هنا يتضح الأمر جليا أن مزاعم حقن دماء السودانيين ما هي إلّا فرية وحبكة من حبكات الاستخبارات الماكرة التي ظلت تحبك ضد بلوغ الثورة السودانية المجيدة سدرة منتهاها . لأن برمة ناصر في نفسه أبعد الناس حرصا على حقن دماء السودانيين ، طالما هو أول من ابتدر فكرة الميليشيات في تاريخ الجيش السوداني أبان توليه منصب وزير الدفاع. فالغرض الأول من الفرية هو إنقاذ السلطة الانقلابية من العزلة الدولية والإقليمية التي كادت أن تعصف بأركانها في خلال أيام قلائل لو لا توقيع الاتفاق السياسي المشؤوم الذي فك عزلتها وضخ لها روحا جديدا . أما الغرض الثاني من الفرية هو حرق السيد رئيس الوزراء سياسيا وعزله من قاعدته الجماهيرية التي لم يتمتع بها رئيس وزراء سوداني من قبل . ثم أحكمت دوائر التآمر بضرب نسيج القوى السياسية وشيطنتها أمام لجان المقاومة التي بدأت تعتبر هذه القوى عدوا لدودا للثورة أكثر من الانقلابيين .
والدليل القاطع على هذه المؤامرة يكمن في أحداث التاسع عشر من ديسمبر الحالي التي تتمثل في الاعتداء والإساءات التي وجهت لبعض أفراد القوى السياسية الذين كانوا يواجهون مخططات المكون العسكري الضارة بالثورة بكل جرأة وصلابة. وبالتالي نجح المخطط الاستخباراتي وحقق كامل أهدافه بلا نقصان ، بداية بفك العزلة الدولية وعزل السيد رئيس الوزراء من حاضنته السياسية وقاعدته الجماهيرية ، وعزل لجان المقاومة من تحالف الحرية والتغيير . فإذا الحل لا يكمن في استقالة سيادة رئيس الوزراء التي تعد مكسبا للمكون العسكري والقوى المضادة للثورة ، وهزيمة سياسية ونفسية لسيادته وأهداف الثورة ومستقبل السودان . وثانيا ، ليس البرهان مخولا لقبول أو رفض استقالة السيد رئيس الوزراء حسب الدستور ، إنما الشعب السوداني المتمثل في الحاضنة السياسية العريضة التي أتت به في المنصب هي المنوطة بذلك .
الحل الأمثل هو ، كما ناشد عثمان الميرغني ، رئيس تحرير صحيفة “التيار السودانية” ، أن يرجع السيد رئيس الوزراء إلى حاضنته السياسية وقاعدته الجماهيرية وترميم جسور الفجوة التي أحدثها الاتفاق السياسي”، وألا تغلق قوى الثورة الباب أمامه”. فالمكون العسكري بكل ميلشياته الكثيرة المدججة بكل آليات القمع ، لا ترعبه استقالة السيد رئيس الوزراء أكثر مما يرعبه هدير الثوار الذين اقتحموا القصر الجمهوري مرتين خلال ديسمبر الحالي بكل شجاعة وعزيمة يواجهون شتى أنواع القمع والتنكيل، والقتل ، والنهب ، والسلب. لأن رغم مقاطعة القوى الثورية للسيد رئيس الوزراء ، فأن فقدانه كرئيس للوزراء كما نوه الميرغني ، يخدم المكون العسكري ويضر بالثورة ضرا بالغا “لكفاءته وقدرته على معالجة الملف الاقتصادي ، وللرصيد الذي يتمتع به في الغرب الداعم للسودان” . وفي المقابل ، يحتاج سيادته لهذه القوى لكسر عزلته وتمكين قدراته في رسم خارطة طريق للانتقال الديمقراطي السلس .
وأجدر الخطوات لهذا الحل الرجوع إلى الوثيقة الدستورية لعام ٢٠١٩ وتقنين الشراكة مع المكون العسكري ، وتكوين حكومة كفاءات مدنية لقيادة المرحلة الانتقالية برعاية دولية . وتكون أولويات الحكومة الانتقالية الجديدة هي هيكلة المؤسسات العسكرية ودمج الحركات المسلحة والدعم السريع في جيش وطني واحد تحت قيادة الحكومة المدنية التي لها الحق في اتخاذ قرارات الحرب والسلام بواسطة مجلس الشعب القومي بدلا من القائد العام للجيش . وبالتالي يتفرغ القائد العام لمهامه المكلف بها دستوريا لحماية الفترة الانتقالية وتنفيذ بنود الترتيبات الأمنية . وأي حكومة انتقالية كانت أو منتخبة ، لن تكلل بالنجاح بدون البدء بهيكلة المؤسسة العسكرية وتنظيفها من ميليشيات الدعم السريع والحركات المسلحة وخلايا النظام البائد النائمة . وإلّا سيظل السودان جمهورية الموز الماثلة أمامنا تسرح وتمرح فيها الميليشيات ، وتدوس أنفها على رؤوس كل العباد ، بما فيهم قيادات القوات النظامية التي لم تسلم من اعتداءاتها المتكررة والمهينة لشرف وكرامة الجيش الوطني.

‫3 تعليقات

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..