
لا احد ينكر ان العسكرين بطبيعة تركيبتهم المهنية يميلون للهيمنة والسيطرة علي السلطة خصوصا في الدول الفقيرة و والدول النامية ذات البنيات المؤسسية الهشة والنفوذ القبلي الطائفي الطاغي لكن تجارب التاريخ ووقائعه تؤكد علي حقيقية جديرة بالدراسة والتحليل والإهتمام وهي ان إقبال العسكريين علي الإنقلاب والاستيلاء علي السلطة دائما ما يكون تحت غطاء ثوري تصنعه قوي مدنية ذات مصلحة طبقية في التغيير تلبسه ثوب الثورة وتزينه وتسوقه للجماهير المشرئبة للتغيير والخلاص من حياة البؤس والفقر والحرمان تحت شعارات زائفة وخطب رنانة بأقلام رخيصة لنخب عاطلة عن الإنتاج الثقافي والسياسي والاجتماعي و مفارقة للإبداع الفكري والابتكار المعرفي تريد الثراء الفاحش والحياة المخملية علي حساب الشعوب الكادحة المسكينة تعتقد هذه النخب انه إمكانها إدارة المشهد من خلال قوة العسكر بما يتوافق مع رؤيتها ويخدم مصالحها لكن هذا المسلك الخطير يقود البلاد الي الشمولية المستبدة ويكرس للاقصاء والتهميس فتفشل كل مشاريع النهضة ومشاريع الانقلابيين أنفسهم ويقع الصراع داخل مكونات قواها المستبدة ويفقد بعضهم مراكز نفوذه وتأثيره ويفقد البعض الاخر منهم حياته ويقع الظلم والفساد علي نطاق واسع ويمجد الفرد و تستباح الدماء وتنتهك الأعراض بغرض الهيمنة والفرار من المصير المجهول.
هؤلاء المغامرون يعرضون الوطن باكمله لتجارب مريرة وصراعات عبثية مستديرة المنتصر فيها مهزرم والشعب مغلوب علي امره يعاني ويغالب اسباب القعود والانكسار حتي تنتصر ارادة الجماهير مرة اخري ويحدث التغيير لصالحها بازاحة من كانوا سببا في معاناتها وتخلفها وإهدار طاقاتها لكن غياب المشروع الوطني يعيدها لذات الدائرة الشريرة فتقع الانقلابات مجددا مرة تلو الأخرى.
بإعلان الاستقلال في مطلع يناير من العام١٩٥٦م كسبنا وجودنا كدولة مستقلة ذات سيادة كاملة لكننا لم نستطع ان ننتج مشروع وطني نهضوي تنموي نتوافق عليه يغالب معوقات النهضة الموروثة من مخلفات الاستعمار أو تلك الموجودة في التركيبة البنيوية للمجتمع فغالبا ما تقع الإختلافات وتختل موازين القوى لصالح الشمولية و الدكتاتوريات بسبب غياب هذا المشروع الوطني النهضوي التنموي الذي كان سيكون من أعظم ممسكات الوحدة الوطنية وإزالة الفوارق الطبقية والقضاء علي اختلالات الاستعلاء الثقافي والعرقي والاثني الكامن في بنية الدولة القديمة.
الانقلابات العسكرية المسنودة بالطائفية والجهوية والايدلوجيا الدينية تتجدد وتتكرر ما لم نتمكن من استكمال مهام الاستقلال في اعادة بناء الوطن علي اسس ديمقراطية سليمة فلا بد ان نتحرر من الممارسات السياسية المختلة التي تعتمد علي إعلاء كعب القبلية والجهوية علي حساب المصلحة الوطنية وتمارس الإقصاء والتهميش ضد الآخرين ومعززة لنفوذ العسكر ليشكل الحماية اللازمة لمصالحها فتحتكر السلطة والثروة إضافة لاحتكارهم عنف الدولة وادواته فتتحول حياتنا لجحيم لا يطاق بمفارقتنا طريق الديمقراطية والدولة المدنية الحديثة التي تحترم إنسانية الانسان وتصون حقوقه في الحريات العامة والتطور والنماء فنصبح في قبضة ممسكات التخلف والسير القهقري الي محطات الفشل واللاشيء بإهدار مواردنا البشرية والطبيعية في الحروب العبثية والصراعات اللانهائية فيضيع مشروع الوحدة الوطنية وتنشط حركات الانفصال ويرفع السلاح في وجه الدولة و نوشك ان نفقد وجودنا الذي حسبنا أننا قد اكتسبناه بنيلنا للاستقلال.
فالدولة السودانية اليوم اضحت مهددة اكثر من اي وقت مضى في كيف تحافط علي استقلالها؟ وكيف تحافظ علي وجودها وبقائها متحدة؟ وقد فارقت طريق الديمقراطية والدولة المدنية الحديثة.
ومثلما اغرت حالة الهشاشة والفشل في الإدارة للدولة السودانية علي أسس مدنية حضارية المؤسسة العسكرية بالاستيلاء علي السلطة في كل مرة تسترد منها بانتفاضة شعبية او ثورة جماهيرية فإن ذات المبررات سيتغلها النظام العالمي الجديد ويضع البلاد تحت الوصاية الأممية ونفقد استقلالنا لأجل غير مسمى او سندخل في فوضى وحرب اهلية طاحنة تفني ما تبقي من قدرات حيوية نتمتع بها وتذخر بها مجتمعاتنا المتنوعة.
فلا بد من إعادة الامور الي نصابها والسير في طريق الديمقراطية والدولة المدنية التي تستوعب تنوعنا الثقافي والاثني والديني بالتوحد حول مشروع وطني نهضوي تنموي متوافق عليه.
ولئن كانت ثورة ديسمبر المجيدة قد وضعتنا في بدايات الطريق الصحيح وكنا سندرك الأمن والاستقرار السياسي بمعالجة اشكالات التشظي الإقصاء والتهميش والعلل السياسية التي اقعدتنا في ما مضى فإن إنقلاب عبد الفتاح البرهان في٢٥اكتوبر٢٠٢١م قد قطع الطريق امام التحول الديمقراطي وأدخل البلاد في نفق مظلم ومصير مجهول يرشح البلاد الي كل ماهو أسوأ وحتي نضع النقاط علي الحروف فإننا نوضح الحقائق التالية وهي:
أولا:اطماع العسكر وحلفاءهم الذين لا يؤمنون بالتغيير كانت قائمة وشهيتهم لابتلاع الثورة واحتوائها مفتوحة بدوافع عدة منها المحافظة علي امتيازاتهم التاريخية في السيطره علي مفاصل السلطة والثروة وخشيتهم من المحاسبة والمحاكمة لكن لم يكن بمقدورهم تحقيق ذلك لولا الانقسامات التي وقعت داخل الصف الثوري بسبب سياسية الإقصاء التي انتهجتها القيادة المركزية للحرية والتغيير بموجبها تقسمت قوي الثورة وضعف أدائها وجعلت بعض العناصر الانتهازية التي تسلقت الثورة تسيطر علي مفاصل السلطة دون رقيب او حسيب فكان الفشل وتفاقم الأوضاع بصورة مزرية تمثل في ضياع قضايا العدالة وضمور الحريات وممارسة سياسية التمكين علي اسس حزبية بابعاد متعمد لقوي الثورة الحقيقية
ثانيا: استغل التيار المبعد من قوي الحرية والتغبير هذه العبثية في ادارة الشأن العام وعقد تحالفاته مع الحركات المسلحة ذات الشهية الشرسة لالتهام كيكة السلطة والعسكر ذو العقلية السلطوية وسوق نفسه علي انه سيد القرار وصانع الثورة والمسيطر علي شارعها والمتحكم في امرها فاستجابت المؤسسة العسكرية متمثلة في اللجنة الأمنية لهذه الخديعة واقبلت علي الإنقلاب العسكري بدافع الفرار الي الامام من عقوبات منتطرة ومحاكمات مستحقة علي جرائم ارتكبت ودماء سفكت واموال نهبت وفساد مورس علي نطاق واسع كان اخطره عرقلة المسار الديمقراطي الذي افقد الشعب الثقة في القوات المسلحة وكل المنظومة الأمنية
ثالثا :غياب مركز القيادة الموحد لقوي الثورة فاقم من الازمة وجعل الكثيرين يتخبطون ويتصادمون ويشككون في بعضهم البعض فاتسعت دائرة الاختلاف وانعدمت الثقة وبعدت الشقة بينها فاصابتها سهام الاعادى في مقتل
رابعا: انقطاع قيادة الثورة متمثلة في الحرية والتغيير عن قاعدتها الجماهيرية وتجاهلها لمطالبها المشروعة في الحرية والعدل والحياة الكريمة واعتبار كانه دورها قد انتهي باسقاط النطام المباد خلق حالة من الغبن في نفوس القوي الشبابية الثورية فوقعت القطيعة وحدث الخصام
خامسا : التدخلات الخارجية في شؤوننا الوطنية من قوي معادية للثورة ولا تريد ان يمضي السودان في طريق الديمقراطية والتحرر حتي لا تتضرز مصالحها الاستراتيجية في ان يظل السودان بلدا متخلفا مثقل بالديون وجراحات الحروب والصراعات الجهوية التي تعطل التنمية وتعيق مشاريع النهضة والتطور والسير الي الامام
هذا وغيره كان سببا مباشرا في اشعال فتيل الأزمة وانسداد الأفق السياسي والثوري ولا يمكن الخروج منه الا بمواجهة الأزمة السودانية من جذورها مرتكزين علي قاعدة ان السلطة سلطة الشعب والثورة ثورة الشعب والعسكر للثكنات مؤمنين بان الوطن فوق الجميع والولاء لوجود الدولة السودانية وبقائها موحدة ومتحدة علي مشروع وطني نهضوي تنموي متوافق عليه يستوعب التنوع الثقافي والاثني والديني وبقر الحريات العامة لا إقصاء فيه لأحد او جهة الا ان يكون قد ارتكبت جرما او اغترفت اثما في حق الشعب السوداني مع ترجيح كفة العدالة الانتقالية وتفكيك بنية النظام المباد ومحاكمة ومحاسبة رموزه واعادة بناء مؤسسات الحكم وهيكلتها علي اسس مهنية حتي نسير في طريق التحول الديمقراطي بسلام وخطي ثابتة كل منا يقوم بدوره دون وصاية من أحد او جهة مهما علا كعبها وعظم نفوذها فالثورة ثورة شعب والسلطة سلطة شعب كما اسلفنا سابقا فخلاصنا في التوافق علي المشروع الوطني القومي والسير في طريق الديمقراطية والدولة المدنية الحديثة.
الثورة مستمرة والردة مستحيلة
[email protected]