فما هو الحل وما العمل؟ (٢-٢)

أحمد الفكي
كثيرا ما نظن ان حل المشكلة المركبة complex لا بد ان يكون حلا مركبا او علي الأقل حلا معقدا complicated ، لذا نغفل ما لا نتوقع، وهو الحل البسيط ونواصل اللهث خلف حلول متوهمة يقدمها الخبراء الامميون وخبراء واستراتيجيي التذكر وبخور التيمان . وبساطة الحل لا تعني سهولة تنفيذه بقدر ما تعني سهولة فهمه واستيعابه علي المستوي الفكري. والنموذج الذي نقترحه هنا نموذج معروف عالميا ونستعين به في تحويل مجموعة من العاملين في تخصصات مختلفة ليصبحوا فريقا يعمل سويا علي تحقيق أهدافه ويري النجاح والفشل من منظور الفريق وليس من منظور الافراد. وأود ان الفت انتباه القارئ الكريم ان الفريق يتكون من متخصصين في مجالاتهم ولكن ولأن الواقع وخاصة السياسي لا يعرف التقسيم الاكاديمي فلا بد من توفير المناخ النفسي السليم ليختلف هولاء ثم يتفقون علي افضل الحلول. وهذا الاتفاق ليس نهاية المطاف وليس ضامنا لاستخلاص حلول سحرية، بل يتم التعامل مع ما يتوصلون اليه علي انه افتراضات يتم تجريبها والتحقق منها في دورات صغيرة وتعديلها وتعديل المسار وطريقة العمل كلما تبين لنا الواقع بشكل افضل.
تأتي أهمية تقديم هذا النموذج للتوقف للحظة عن البحث في مفاتيح حل الازمة الحالية بفتح (خشم) الابقار الاستراتيجية التي ادخلتنا في هذه الازمة. فهم يحاولون وضع ضمادات اخري علي ذات الجرح المتعفن تحت ضماداتهم السابقة. ولعل ما يقومون به يذكرنا بقصة السكران الذي كان يبحث عن مفتاح بيته تحت عمود النور. لقد كان يترنح وقد اعياه السكر والبحث. اقترب منه رجل البوليس وقدم يد المساعدة وابتدرها بسؤال هل يمكنني ان اساعدك وماذا افتقدت. فرد السكران انه يبحث عن مفتاح بيته. ساله البوليس مرة اخري، وأين افتقدته، هل افتقدته هنا؟
فأجاب السكران لا لم افتقده هنا ولكن افتقدته هناك، وأشار الي الجانب الاخر المظلم من الطريق. فسأله البوليس مرة اخري، ولماذا تبحث عن مفتاحك هنا؟ فأجاب السكران لان هنا إضاءة ولا توجد إضاءة في الجانب الاخر حيث افتقدت مفتاحي.
اننا نبحث عن المخرج في المكان الخطأ تماما وهو فم الابقار الاستراتيجية. ان مغزي هذه القصة هي الإصرار علي البحث عن الحلول في المكان الخطأ.
يقول باتريك لنسيوني Patrik Lencioni في كتابه الشهير المعوقات الخمسة للفريق the five dysfunctions of a team ان:
ليست المقدرة المالية ولا الاستراتيجية ولا التكنولوجيا، بل العمل في فريق team هو اقصي ميزة تنافسية وذلك لانه جبار جدا ونادر جدا أيضا.
ولقد فطن الالمان الي هذه الحقيقة فكان الجيش الألماني الذي بني علي العمل كفريق يعمل بقلب واحد لتحقيق هدف واحد. لقد كان الاختلاف هاما تماما واهم من الاتفاق المبكر علي أفكار وقرارات فطيرة. لقد كان الجميع يخشي منازلة الجيش الألماني حتي حطم عقيدته القائد الكاريزما والمجرم هتلر. العمل الجماعي هو ما يميز كل الدول الناجحة والشركات الناجحة وفرق كرة القدم الناجحة. وقد عبر عن هذه الحقيقة تعليق ساخر علي تويتر عندما هزمت المانيا البرازيل ٧-١ في نصف نهائي مونديال ٢٠١٤ بقوله: البرازيل لديها نيمار، والارجنتين لديها ميسي والبرتغال لديها رونالدو، اما المانيا فلديها فريق.
ينطبق ذات الامر علي الأحزاب السياسية في كل دول العالم. ولعل قراءة سريعة لما آل اليه امر السياسة الامريكية في الماضي القريب وتعاون الديمقراطيين والجمهوريين علي ارغام نيكسون علي الاستقالة والدفاع عن قيم الديمقراطية وعجزهم التام عن مثل هذا الفعل عندما اصبح التعاون والعمل كفريق مكون من الحزبين، ومتفق علي وضع مصلحة بلادهم فوق مصلحة احزابهم، لادانة الانتهاكات التي ارتكبها ترامب.
اختلاف الأحزاب وإصرار كل حزب علي رأيه وعدم التعاون هوما يغذي الطغاه الذين فما ان يسقط شعبنا طاغية حتي يظهر اخر مستمدا قوته من هذه الخلافات والمشاكسات غير المنتجة والضارة بشعبنا والمهدرة لتضحيات شبابه.
فهل من المستحيل توحيد احزابنا حول هدف واحد هو حماية الثورة السودانية والانتقال الديمقراطي والتوقف عن تخوين بعضها البعض والتعامل مع الاخر كعدو يجب تخوينه وسحقه ان أتت الفرصة.
انه امر ممكن رغم صعوبته ولكنه يحتاج الي ان تاخذه قيادات احزابنا ماخذ الجد وان تعلم ان لا ديمقراطية دونه ولا خروج من هذه الدائرة الشريرة.
يقدم لينسيوني نموذجًا هرميا بسيطا ولكنه منطقي جدا وساقوم بشرحه باستفاضة وشرح العلاقة المنطقية بين كل منطقة كمقدمة هامة للمنطقة التي فوقها كما هو موضح في الرسم ادناه:
وقبل ان نبدا في شرح النموذج نود ان نشير وكما أشار الكاتب الي ان مقياس العمل الجماعي كفريق واحد هو انجاز الهدف الذي يعملون علي تحقيقه وهو في حالة وضعنا اليوم الاتفاق علي حماية الثورة وحماية الانتقال الديمقراطي والعمل نحو حرية سلام وعدالة كنجمة شمال احزابنا التي تصبو اليها. لا بد أيضا من الإشارة الي ان ليس هناك حزب يمتلك الحقيقة المطلقة مهما ادعت ايديولوجيات هذا الحزب او ذاك. فما يقدمونه من اطروحات يجب قياس نتائجه علي ارض الواقع وتقييمها تقييما جماعيا وموضوعيا والاستماع الي صاحب الحق في التقييم وهو الشارع السوداني بلجان مقاومته واحياءه وصحافته الجادة.
لا اظن اننا نحتاج الي التذكير بادعاء الحزب الشيوعي السوفيتي لامتلاك الحقيقة المطلقة والتي أدت الي الإبادة الجماعية لملايين الروس والي إقامة دولة باطشة تخثرت وتاكلت من الداخل. ينطبق ذات المنطق علي تجربة الهراء الحضاري. وحتي لا يسيئ البعض فهم ما نرمي اليه نود ان نؤكد ان قضية العدالة الاجتماعية لازالت قضية حيوية وهامة جدا ولكن لن تتحقق بايديولوجيات الثورة الصناعية الاولي ولا الثانية. يمر النظام الراسمالي بأزمة وان تقديم نموذج اجتماعي سياسي عادل غير ممكن بتجاوز ما حققته الراسمالية من إنجازات ومن مصائب أيضا.
شعبنا لم يعد يشتري هذه العنتريات التاريخية المطلقة.
الثقة:
الثقة هي قاعدة هذا النموذج وبدونها سينهار النموذج ولن يقوي علي الوقوف. والثقة هنا نعني بها احترام الاخر وقبوله كما هو والاعتراف باننا جميعا لنا نقاط قوتنا وضعفنا. الثقة تعني ان نتواضع ونكف عن محاولات ادعاء التفوق علي الاخر وان نصور قوتنا بان الاخرين ضعفاء وخونة. ان نمتلك المقدرة علي الاعتراف بالخطأ والاعتذار الجاد والحقيقي ومحاولة إيضاح وتمليك الدروس التي تعلمناها والفائدة منها في المستقبل.
الذي لا شك فيه ان قوة وكفاءة من نتنافس معهم هي امر هام لان منافسة حزب قوي افضل من ان تنافس ضعفاء او ان تكون الأول في فصل من محدودي المقدرات الذين لا طموح لهم. اود ان اذهب الي ابعد من ذلك وأقول بمساعدة بعضنا البعض كاحزاب من خلال الدراسات المشتركة والمناظرات المفتوحة التي لا نخشي فيها الاختلاف ونسعي وبشكل جاد واهتمام حقيقي لفهم وجهة نظر الحزب الاخر.
طبعا هذا قد يحتاج الي قيادات جديدة في بعض احزابنا، قيادات لا تري في العمل السياسي صراعا لسحق الأحزاب الأخرى، بل تري فيه منافسة شريفة وحرة تغني الجميع وتجدد الدماء في عروق احزابهم.
يعيش شعبنا وخاصة الشباب واقعا جديدًا يختلف عن الثورات الأخرى. فلقد كفر معظم شبابنا باحزابنا ولديهم مادة ضخمة من ممارساتها الفاشلة تماما. ان المشكلة ليست في الفشل، فهو جزء من الحياة وهو هام للابتكار ، بل الإصرار عليه ومغالطة الواقع هو مشكلة شعبنا وشبابنا مع احزابنا.
الخوف من النزاع
عندما تكون الثقة المتبادلة هي الأساس للعلاقة بين احزابنا، يصبح الخلاف وحتي النزاع حول افضل الحلول امرا ممكنا ومثمرا ومفيدا لاحزابنا ولشعبنا. سيضع الجميع أفكارهم علي طاولة الحوار ويتحاورون بالتركيز علي الأفكار دون تعجل علي الاتفاق الفطير. هذا الحوار يجب ان يكون ممارسة يومية تدار علي صفحات الصحف ومجموعات التواصل الاجتماعي لا الموائد المستديرة كما تتذكر ابقارنا الاستراتيجية.
عندما تكون الثقة والاحترام المتبادل هما أساس النقاش والاختلاف لا تتردد الأحزاب في تحدي أفكار بعضها البعض والتساؤل عن علمية وعملية هذا الطرح او ذاك ما دامت روح البحث عن افضل الإجابات لمصلحة شعبنا الذي لا مبرر لوجود هذه الأحزاب غير خدمته.
عدم الالتزام
ويقودنا عدم الخوف من الاختلاف والتنازع حول افضل الحلول الي الالتزام بما نتفق عليه. فلقد أدلى كل حزب بما لديه وتم الاختلاف ثم الاتفاق علي إجابات وحلول افضل تمثل محصلة مجمل الآراء. يصبح ما اتفقنا عليه ملزما لجميع احزابنا لأننا استمعنا الي بعضنا البعض واختلفنا ثم اتفقنا علي ما يمثلنا جميعا.
وددت ان اذكر ان هذا النموذج يمكن تطبيقه داخل احزابنا أيضا حتي لا تصبح الآراء والسياسات فيها هي اراء مجموعة صغيرة من القادة فقط.
غياب المساءلة
وعندما نلتزم جميعا بما اتفقنا عليه يمكننا ان نساءل بعضنا البعض وان نشير الي عدم التزام هذا الحزب او ذاك بما اتفق عليه. لا بد من التذكير هنا ان الاختلاف والحوار والاتفاق يدار بشفافية كاملة كشفافية الثورة والثوار التي التزموا بها حتي في موعد انطلاق المواكب.
الحزب الذي يتفق علي سياسات او برنامج موحد ولا يفي بالتزامه سيكون عاريا امام الشارع الذي تتزايد عدم ثقته باحزابنا يوما بعد يوم.
الاهتمام بالنتائج
كل المراحل السابقة تقودنا الي لب الموضوع وهو الاهتمام بالنتائج، نتائج السياسات والاتفاقات والمشاريع وهو مصلحة الوطن والمواطن. انني لا أقول بعدم أهمية الاجتماعات ولا خطط المشاريع ولا اللايفات لشرح سياسات هذا الحزب او ذاك ولكنها ليست الغاية ولا بد من قياس نتاج هذه السياسات او الاجتماعات بما تحقق للمواطن على ارض الواقع.
تقع مسؤولية استخدام هذا النموذج علي بساطته علي قادة احزابنا ليشمروا عن سواعدهم ويبرمون اتفاقا بينهم لتغيير وجه الحياة السياسة في بلادنا وترتيب الأرض لتصبح ارضا خصبة تنمو فيها ازهار تضحيات وأرواح شبابنا التي قدموها رخيصة من اجل وطن يليق بعظمتهم وعظمة شعبنا. الاستمرار في ذات السلوك الذي دمر ويدمر بلادنا جريمة لا تغتفر.
المراجع التي استخدمتها في كتابة هذا المقال
The five dysfunctions of a team Patrik Lencioni
Overcoming the five dysfunctions of a team Patrik Lencioni
Range, how generalists triumph in a specialised world David Epstein
Good strategy, bad strategy Richard Rumelt
Cynefin: Weaving sense-making into the fabric of our world Dave Snowden and friends