
عبدالله مكاوي
مسارعة البرهان وحميدتي وجمع من القادة العسكريين والشرطيين ، للاعتذار لمكتب قناة العربية والحدث وطاقمهما الاعلامي بالخرطوم ، وتعهدهم بمحاسبة المعتدين ، تدل قبل كل شئ علي قلة حياء نابعة من خوف علي اهتزاز صورتهم الخارجية بصفة عامة ، وامام كفلاءهم اصحاب القناة في الخليج بصفة خاصة . اما في الداخل فحرصهم الاكبر علي احتقار الثورة والحقد علي الثوار وكرههم الفطري للمدنية والمدنيين، الشئ الذي دفعهم لاستباحة الداخل بصورة همجية ولصوصية ممنهجة. وذلك ما تمظهر بصورة جلية في عدم اكتراثهم لان يسجلوا ولو زيارة مظهرية منافقة لاسر الشهداء ، او اظهار اي قدر من التعاطف الزائف مع الجرحي والمفقودين ، ناهيك ان يستنكفوا الولوغ في دماء الشهداء او اهدار كرامة المواطنين . وللمفارقة في اللحظة التي تم فيها الاعتداء علي مكاتب العربية والحدث ، تم ذات الشئ وبصورة افظع للنزلاء بفندق وسط الخرطوم ، ولم يقدم لهم اعتذار ولا يحزنون او وعد برد منهوباتهم ومحاسبة الرباطة النظاميين ! وقد اظهرت الصور كم الفظاعات التي يرتكبها هؤلاء المعتوهون بدم بارد وحقد دفين . وقبل ذلك ما تواتر من اخبار انتهاكات واتهامات وصلت درجة الاغتصاب والتحرش الجنسي وسرقة الجوالات وكل ما يقع تحت بصر هؤلاء الهمباتة ، بل وثقت صور مكتب العربية المتداولة جانب من النهب والسلب والاعتداء الوحشي ، وهذا غير قطع وسائل الاتصال وعزل الثوار في الداخل للاستفراد بهم دون رقابة.
المهم ، هذه الهرولة من قبل الجنرالات الجبناء لتقديم فروض الاعتذار الذليل للسادة في الخارج ، مع تشديد القبضة الامنية والممارسات العنفية المشوبة بالاحتقار في الداخل ، تعكس حالة من السادية والانفصامية المتلبسة للطغاة. وخطورة الامر ان هؤلاء الطغاة لا يكترثون للمخاطر المحيطة بالدولة ، او مصير الشعب الذي رمته الحظوظ السيئة او الاخطاء المتكررة او الفشل المتوارث في براثنهم ، لان كل ما يعنيهم هو تسكين مخاوفهم وتلبية مطالبهم واطماعهم . ومن هنا تبرز صعوبة اقناعهم بافساح المجال لغيرهم ، وتزداد الصعوبة عندما نعلم ان من يقدمون انفسهم كمستشارين ومساعدين للطغاة ، يتميزون بخصلة الخوف من الطغاة ومنافقتهم بتعظيم شخصيتهم ودورهم . اي هم جزء من صناعة الطاغية ، وتاليا ينحصر دورهم في تاكيد هذا الوهم . وهذا للاسف ما يجعل الطغاة لا ينتبهون للخطر المحدق بهم ، قبل البلاد وشعبها ، إلا في الساعة الخامسة والعشرين اي قبل بضعة ساعات من سقوطهم او اغتيالهم . وما يجعل هذه الصورة تزداد كآبة ان الطغيان يشكل دورة لا تنتهي إلا بنهاية حلقاتها . واهم ما يميز هذه الدورة هي الغفلة والغيبوبة والانكار لبداهة الحقائق .
وايضا من سمات هؤلاء الطغاة ، انهم بقدر ما يعكسونه من شجاعة واساليب بطش عنفية علي سدة السلطة ، إلا انهم الاكثر هلعا وجبنا عندما يواجهون الخطر الحقيقي الذي يستهدف ارواحهم ، لدرجة يبدو انهم يحقدون علي او يحتقرون اكثر من اي شئ آخر ، شجاعة الثوار والمناضلين العزل ، وما يجاهرون به من بسالة وجسارة تسترخص ارواحهم ، وتجبر الهامات الحرة علي الانحناء . واحتمال هذا ما يفسر كم الغبن والوحشية التي تواجه بها الثورات السلمية والثوار السلميين.
والحال كذلك ، واحدة من الاشكالات التي تواجه الثورة السودانية ضمن حزمة من التحديات والصعوبات ، انها تواجه مجموعة او جملة من الطغاة محليا و اقليميا ! وهذا للاسف ما يرفع كلفة هذه الثورة من ناحية التضحيات وجسامة العقبات . خاصة وان واحدة من اساليب الطغاة وممارسة الطغيان علي اصوله ، هي اتخاذ القرارت غير المدروسة ، بل والعبثية غالبا ، غض النظر عن كلفتها علي كافة المناحي . وليس هنالك افضل نموذج لذلك من انقلاب الطاغية البرهان وشريكه في الطغيان حميدتي ، رغم كل المحاذير التي سيقت لهم. ليوردا بكل غباء البلاد موارد الهلاك عبر حشرها في هذا النفق المغلق المظلم .
وعموما ، وجود طاغية نذير بذهاب ريح البلاد وتشتت شمل اهلها ، فما بالك بوجود طاغيتين كلاهما اشر واحط من الآخر ! فهما عندما يتفقان فذلك للسيطرة علي السلطة والثروة واقصاء الآخرين ، وعندما يختلفان فهي دعوة مجانية للاحتراب الاهلي ، وفي كل الاوقات فعلاقتهما يحكمها التآمر والتربص بالآخر ، رغم ما يظهر انه من انسجام مصطنع ، كوسيلة لمواجهة الخطر المشترك (الثورة / الحكم المدني). والسبب ان طبيعة الطاغية لا تحتمل المنافسة او المشاركة. والحال ان نموذج الطغووية التي تميز البرهان وحميدتي هي من اردأ نسخ الطغيان ، بحسبان ان الاولي يغلب عليها الغدر والنفاق والاخري النهب والاجرام ! اما الخبر السيئ ان هذا التناقض تمت السيطرة عليه وتوظيفه خارجيا لضرب الثورة وتعطيل التغيير داخليا.
وعليه ، تصبح عقدة الثورة وعقبة مشروع التغيير في السودان ، يجسدها وجود طاغيتين لهما طموحات الاستفراد بالسلطة واعادة سيرة الاستبداد في اسوأ مظاهرها ، عطفا علي تعبيرهما عن مصالح فئات ليس لها مصلحة في التغيير الذي يمس عصب امتيازاتها غير المستحقة، علما بانها فئات عابرة لكل المكونات العسكرية والامنية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وبوصفها فئات ذات طبيعة طفيلية فهي تعتاش علي احتكار الثروة والتواصل مع السلطة لاستخدام آليات الدولة في خدمة مصالحها الخاصة.
ولكن وصول هذا المركب السلطوي الاحتكاري الفاسد الي طريق مسدود، بعد تضييق هامش المناورة في السيطرة الي الصفر ، سواء بسبب الفشل في تلبية ابسط اساسيات الحياة للمواطنين ، او كسر حاجز الخوف من اجهزة قمع السلطة. احدث خلخلة في تماسك مركب السلطة بعد انفجار الثورة وخلط الاوراق . والحال كذلك ما انقلاب البرهان او لجنة البشير الامنية ، إلا آخر كرت في جعبة مركب التسلط والفساد الاستبدادي ، الذي يصر علي السير في ذات الطريق المسدود ، الذي اودي بالبشير ورموز نظامه الي كوبر بعد ان اصبح عبء علي هذا المركب . وما الثورة إلا فرصة للخلاص من هذا المركب الذي استنفذ اغراضه وتجاوزه الزمن ، وتاليا ما التمسك به إلا وصفة لخراب مستعجل للبلاد بعد ان اثبت عجزه وفساده وكلفته العالية علي المستقبل . اما اصراره العدمي علي البقاء باي ثمن ، فهو ما يفتح المجال امام كافة الاحتمالات المخيفة.
وعليه ، من غير بروز واجهات جديدة في المؤسسة العسكرية ، اكثر دراية بتعقيدات الواقع ومتطلبات التغيير الحقيقي والاهم الحرص علي سلامة البلاد والعباد من ناحية ، وقدرة الشباب الثوري والقوي السياسية علي تبني مشروع للتوافق علي مشتركات مرنة تلاءم فترات الانتقال الهشة ، كفترة تاسيس للدولة المدنية والحياة الديمقراطية ، من ناحية اخري، لا يبدو ان المستقبل يبشر بخير . اي باختصار ما نحتاجه مهارة القيادة وسط كل هذه الاجواء الملبدة والمعاندة للقيادة ، او المشبعة بالفتن وسوء النية والتعامل مع المكونات المدنية ، والتي يرعاها ويستثمر فيها قادة المكون العسكري.
واخيرا
الرحمة والمغفرة للشهداء وعاجل الشفاء للمصابين وعودة المغيبين ، وعام سعيد علي البلاد واهلها. ودمتم في رعاية الله.