مقالات وآراء

الجيش السوداني والسياسة

 اكرم ابراهيم البكري

لعب الجيش السوداني دورا أساسيا في شغل مقاعد السلطة في السودان منذ الاستقلال عام 1956، إذ نفذ عدة انقلابات قضت على فترات قصيرة كانت السيطرة فيها للمدنيين عبر 3 حقب ديمقراطية برلمانية، كان أطولها 4 سنوات، ومجموعها 9 سنوات. ففي نوفمبر من العام 1957 تمت عملية تسليم وتسلم بين رئيس الوزراء عبد الله خليل ونائب القائد اللواء إبراهيم عبود في نوفمبر 1958 وبهذا انتهت حقبة حكومة الائتلاف الديمقراطية بين حزب الأمة والاتحاد الديمقراطي والتي كان يرأس مجلس سيادتها السيد / إسماعيل الأزهري  وعبد الله خليل الذي يرأس رئاسة الوزراء ونتيجة لخلافات بين الأحزاب قام عبد الله خليل بدعوة الجيش لاستلام السلطة وعقب الانقلاب غير الدموي تولى الجيش بقيادة اللواء إبراهيم عبود إدارة البلاد 7 سنوات الى ان تم اسقاط حكمة باحتجاجات في 21 أكتوبر من العام 1964  اعتبرت  بمقاييس اليوم فرض كفاية على بعض المدن السودانية الكبيرة دون كثير مدن وقري سودانية اخري الى ان حل يوم 15 نوفمبر من عام 1964 أجبرت أعمال الشغب والإضراب العام الفريق عبود على نقل السلطة التنفيذية إلى حكومة مدنية انتقالية، والاستقالة في نهاية المطاف وتسليم السلطة للمدنيين وبالتالي بدأت حقبة جديدة في تاريخ السودان السياسي يمكن ان نسميها بحكومة مدنية الأحزاب الثانية والتي وضح فيها جلياً قصور النظرة الوطنية وتكالب الأحزاب على وأدِ التجربة المدنية حتى داخل الحزب الواحد فقد شهدت تلك الفترة حوالى الخمس حكومات حكومة سر الختم الخليفة الاولي ، وحكومة سر الختم الخليفة الثانية ، حكومة محمد احمد المحجوب ، حكومة إسماعيل الازهري ، حكومة محمد احمد المحجوب فخلال الفترة من العام 1964 الى العام 1969 تكونت 5 حكومات بمعدل حكومة كل 11 شهر الى ان تم اغتيال المدنية الثانية في مايو 1969 بواسطة  جعفر محمد نميري الذي اتسمت حقبته التي استمرت 16 سنة بمتناقضات كثيرة وتحولات ما بين اقصي اليمين واليسار السياسي وشهدت انقلاب الحزب الشيوعي عليه في العام 1971  ودخول  قوات الجبهة الوطنية الى الخطوم في العام 1975 واحداث ود نباوي والجزيرة أبا مفارقات دموية كبيرة الى ان سقط حكم النميري في مارس ابريل من العام 1985 وبدات حقبة جديدة وفرصة اخري للأحزاب السياسية هنا يجب ان نضع في الاعتبار  ان كل تلك التغييرات الفوقية ما بين عسكر ومدنيين لم يصيب التغيير أي من المفاهيم  الاقتصادية التي كانت تدار بها البلاد منذ الاحتلال البريطاني  فقد كان الصراع السياسي من اجل مصالح اقتصادية تساعد على تراكم راس المال في ايدي محددة  ) فقد كان واضحاً ان الأنشطة الاقتصادية للأحزاب في السودان تستخدم للحصول على الولاءات اللازمة للمواقف السياسية والاجتماعية وبالأخص الحزبيين الامة والاتحادي ودخل على الخط في نهاية ال70 الاخوان المسلمين الذين استفادوا من المصالحة مع نظام نميري والدخول في سلطته التنفيذية والتشريعية وبالتالي ازداد تراكم راس المال في ايدي الجبهة الإسلامية القومية والتي دخلت السباق الانتخابي بنفوذ اقتصادي كبير  الامر الذي ادي الى وضع عراقيل ومثبطات للممارسة الديمقراطية الثالثة  بشكل كبير مستفيدة من السيولة النقدية  والأصول العقارية التي تراكمت خلال7 سنوات فقط من مصالحتها الشهيرة مع نظام مايو  لا يمكن ان نستثنى أي من الأحزاب السودانية الكبيرة من استغلال مواقعها على سدة الحكم من اجل تحقيق غياتها والتي تمثلت  في تمتع لعضويتها الصف الأول بمستوي معيشي مرتفع  اغلب  عضويه الأحزاب السودانية والمشاركين في الحكم العسكري وضباط الجيش الحاكمين  لهم دور في صفقات مشبوهة تعمل على تحويل فائض الأموال  من الزراعة والتعدين وتجارة المواشي الى حسابات خاصة داخل او خارج السودان  كما شهدت الحقب العسكرية في الحكم تنفيذ مشروعات صناعية خاسرة لم تتوفر لها الأدوات والإدارية والتقنية اللازمة .
لم يستفيد رجال السياسة في السودان من تجربة تغول العسكر على السلطة لذلك فان التغيير الذي احدثته أكتوبر   وابريل سرعان ما انهار امام أطماع السياسيين السودانيين وجاءت حكومات عسكرية مرة اخري وقد ادي تكالب السياسيين والعسكر للثراء بهذه الطريقة الى اخراج أطراف اخرى ممثلة في الجماهير والفقراء والشرائح الاجتماعية الضعيفة من المعادلة السياسية تماماً مما كان له الأثر الأكبر على الانعكاسات المستقبلية على الوطن ولا نخفي القول بان النخب السياسية السودانية وجنرالات المؤسسة العسكرية  استغلت الأوضاع السودانية اسواء استغلال وعملت على تسليع السياسية مما ادي الى افقار السودان والذي كان يوماً يسمي بسلة غذاء العالم
يجب ان نسلم بان مهما كانت التجربة المدنية سيئة فذلك لا يعنى باي حال من الأحوال ان الحكم في السودان يجب ان يخضع للمؤسسة العسكرية ولذلك لعدة اعتبارات فالحقبة التي سيطر فيها الإسلاميين على سدة الحكم في البلاد كانت  الأطول و الاسواء على الاطلاق   وخلال الثلاث عقود والتي امتدت من  1989 الى 20019  تغيرت كثير من المفاهيم التي كانت من الممكن ان تؤدي الى تطوير الممارسة الديمقراطية كما ان المؤسسة العسكرية السودانية خضعت لجراحة تشويه متعمد أدت الى انهيار كل القيم القليلة التي كانت بها وظهرت مكونات عسكرية تتمثل في مليشيات عشائرية وقبيلة أدت الى ازاله كاملة للنسيج الاجتماعي الذي كان يوصف بالمتهتك قبل الإسلاميين
أصبحت قضية التحول الديمقراطي مهيمنه على العملية السياسية تماما في السودان بعد اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة ولعل الوضع الحالي في ظل محاولات جنرالات الجيش وقيادات مليشيا القبائل المسلحة المستميتة في السيطرة على الحكم أطول فترة ممكنه تساعدهم على نهب كثير من موارد الدولة تجعلنا نطرح مجمل من الأسئلة الضرورية لنعرف كيف تخوض الثورة طريقها مقبل الأيام لعل أبرز تلك الأسئلة الضرورية يتمثل
ما هو دور المؤسسة العسكرية السودانية الرتب الوسيطة وصغار الضباط في هذه العملية…؟
صحيح ان الصوت الثوري الطاغي الان بعد عمليات القتل والقنص التي تقابل بها مواكب الاحتجاج السلمية يطرح عودة العسكر الى الثكنات ولكن ما هي الطريقة او الآلية التي تضمن عدم التدخل العسكري في التجربة الديمقراطية حتى بعد ذهاب البرهان كأمر حتمي وبالتالي نحمي الديمقراطية مستقبلا من تغول الجيش عليها فالشق الغالب   الان يقلل من أهمية الجيش في التحول الديمقراطي المدني
والحقيقة التي بين أيدينا الان والتي يجب ان نعيها جيدا ان المؤسسة العسكرية الحالية تعانى تماما مثل الوطن من علامات ضعف وانهاك ومرض مميت ادي الى تغول مليشيا القبائل على صلاحيات واسعة كانت سابقاً للمؤسسة العسكرية ولكن بالرغم من  ذلك فان القضاء على تلك المليشيات الواقعة تحت مسمى الدعم السريع ليس صعبا بالمرة  خلال تلك الفترة تحديداً
المشكلة الحقيقة تكمن في إعادة تكوين الجيش السوداني بعقيدة جديدة حلاف تلك العقيدة الحالية ولا حتى العقيدة القديمة القائمة على نطفة مشوهه منذ مراحل التخلق الجنيني الأولى له منذ ان كان تابعاً للجيش المصري وبعد   انسحاب القوات المصرية في العام 1924 تحول  الى قوة دفاع السودان فالعقيدة الأولى لبناء الجيش السوداني لم تكن وطنية من الأساس لذلك كان الدخول الى الجيش قائما على ابعاد عرقية من تلك القبائل النيلية التي تدين بالولاء للمحتل الإنجليزي واستمر هذا المنوال حتى بعد الاستقلال بشكل اقل حدة ومع مجيء الإسلاميين على سدة  الحكم تم القضاء تماما على عقيدة الجيش المتبقية في حب الوطن وتم إحلالها بكوادر الإسلام السياسي داخل المؤسسة العسكرية
تطهير المؤسسة العسكرية امر حتمي وبناء جيش له الولاء للوطن امر ضروري نعم امر صعب في الوقت الحالي ولكته ليس مستحيل، فالتجربة السودانية اثبتت تماما فشل العسكر والمدنيين في حل المشكل السوداني وكان الحال وضع البلد الان على مشارف حرب أهلية كاملة.
الامر في الوقت الحالي وعلى عكس ما يتبادر للكثيرين ان استقرار الوطن مرتبط بقبول الفترة الانتقالية الحالية بكل ما يعتليها .
ان وجود جنرالات اللجنة الأمنية على سدة الحكم لا يقود باي حال من الأحوال الى حكومة مدنية، جنرالات اللجنة الأمنية عليهم مغادرة المشهد السياسي وبذلك يمكن ان يتحقق نوعاً من الاستقرار ومن ثم منع التدهور والانهيار الحادث الان وبالتالي من الممكن الوصول الى صيغة تفاوضية مع عسكر اخرين من داخل المؤسسة العسكرية يكونوا محل ثقة للشارع الثوري .
لا يخفى علينا ان تجربة الحكم في دول العالم النامي تختلف كثيرا على نمط الحكم لدول العالم الأول فصيغة علاقة المدنيين بالعسكر والتي تنادي بعودة العسكر الى الثكنات هي أطروحة تعاني من انحياز معرفي واضح فهي ذات وضعية خاصة بالقارة الاوربية فالوضع في السودان معقد.
الرفض الحالي لكل المكون العسكري من الممكن ان يقود الى تأزيم الموقف كثيرا فليس من المعقول ان يسقط حاكم عسكري دون تدخل المؤسسة العسكرية ولكن في اعتقادي ان العملية الان تحتاج الى جانب اخر وهو مغازلة الرتب الوسيطة الموثوق فيها  للتدخل لصالح الثورة وقد يقول قائل ان تدخل الرتب الوسيطة وصغار الضباط من الممكن ان يقود الى حرب أهلية وهذا الامر فيه شقان أولهما ان الحرب الاهلية نسبة حدوثها اكبر الان في حالة رد الثوار على العنف المفرط من قبل الجنود وثانيهما هو تحرك  بعض الفصائل من المؤسسة العسكرية دون تنسق الى رد هذا العنف المفرط
وفى حاله انتصار الشق الأخير ليس من المستبعد ان يكرر نفس العنف مع المدنيين مرة اخري بالأخص عدم معرفة من تحرك من قوات المؤسسة العسكرية.
ان إشكالية التحول الديمقراطي في السودان من الممكن ان تكون معقدة للوهلة الأولى ولكن  ليست مستحيلة

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..