مقالات وآراء سياسية

إبتلاء العسكر !!

عبدالله مكاوي 
ما يحدث في شوارع الخرطوم من مجازر واعتقالات وارهاب ممنهج، يشير بوضوح لنوايا قوي العدوان الانقلابية في السيطرة علي السلطة باي ثمن وكيفية ، وذلك بوصفها مسألة وجودية ، مرتبطة بالحصانة من ناحية، والمحافظة علي الامتيازات السياسية والاقتصادية المهولة من ناحية. وهذا ليس بامر مستغرب اذا ما امعنَّا النظر في طبيعة هذه القوي وطريقة وصولها للسلطة!
فالمكون العسكري الذي يسيطر علي السلطة بقوة السلاح ، هو في الاصل ابن شرعي لنظام غير شرعي ، بل في الحقيقة هو منظمة اجرامية او تشكيلات عصابية متكاملة ، استولت علي السلطة بانقلاب غادر في يونيو 1989م . ومنذ ذلك الحين حدث تحول جذري في معني ومبني السلطة ، بحيث تحولت السلطة الي آلية نهب لموارد الدولة ، وامتهان كرامة المواطنين ، وانتهاك حقوق من يعارضها او يُشتمْ منه ذلك .
وهذا النموذج الاسلاموي السلطوي الذي قدمه نظام الانقاذ، ينحدر من اصول فكرية مشوشة ، قائمة علي الخلط بين الدين والدنيا ، الذاتي والموضوعي ، الوهم والواقع ، الممكن والمستحيل ، الطموحات والامكانات ، التقليد والحداثة .. الخ ! ومصدر هذا الاضطراب هو الاستعاضة عن الاستراتيجي والقيمي المتمثل في  بناء منظومة فكرية ومشروع سياسي يستجيب لتحديات الواقع بلغة عصره ، وبما يراعي مصلحة الوطن ورغبة المواطنين ، والاكتفاء بتكتيكات (وسائل وادوات وتبريرات دينية) توصل الي السلطة باسهل طريقة واسرع زمن واقرب فرصة، غض النظر عن المخاطر الناتجة عن غياب (امكانات القدرة علي الحكم ، الشرعية الشعبية ، الاتفاق علي كيفية حكم البلاد .. الخ من متطلبات الحكم الرشيد). المهم ، هذه المرجعية المنحرفة او خليط التشوهات النفسية والثقافية والاجتماعية والاخلاقية ، وباختصار الرغبة الشبقة في تلبية واشباع الغرائز البدائية دون عوائق حضارية ، كان لابد لها من افراز آليات سلطة تشابهها ، وعلي الاخص ما يختص بحمايتها . اي مواليد متحورة قابلة للتشكل وتنفيذ كافة المهام صرف النظر عن قذارتها ، وذلك لانها من رحم (مختبر) نزعات الكره والاستعلاء ، باعتبارهما الدعامتان الاساسيتان اللتان ينهض عليهما، المشروع والدولة الدينية.
فالدولة بعد ايلولتها للاسلامويين الجهلاء بمتطلبات العصر ، والمستكبرين علي ارث وخبرات المجتمع ، اخذت تكتسب صفاتهم وتتخلق باخلاقياتهم وتتعامل باساليبهم ، ليسري في اوصالها الفساد كمحرك دفع ، والنهج الابوي والعائلي كطريقة ادارة للمؤسسات والاجهزة. ومؤكد هذا العبث السلطوي والخلل الاداري والفساد المالي سيكون له مردود علي الدولة والمجتمع ، وهو ما قاد لانهيار الدولة كوظيفة ومفهوم ، وانعكس علي المجتمع بؤس وشقاء وانحطاط علي كافة المستويات .
ومجمل هذا الوضع والممارسات الصبيانية ، ان تحولت البلاد لاقطاعية يستفيد منها الحكام ، بعد امتلاكهم لمصادر القوة المادية المتمثلة في المال واشباه الرجال والسلاح ، ونسج شبكات علاقات زبونية مع المحيط الاقليمي والخارجي ، وبصفة خاصة روسيا والصين ، كدول تقتات علي بيئات او متلازمة الاستبداد/ الفساد لتعظيم مكاسبها باقل كلفة. وبالطبع هكذا اوضاع مختلة قادت البلاد في نهاية المطاف ، للانسداد السياسي والتردي الاقتصادي والاحتقان الاجتماعي . ليقود الشباب السوداني وكامتداد لثورات الربيع العربي وارث ثوري محلي ، ثورة سلمية طموحة وشجاعة ومكلفة، ضد اكثر الانظمة استبداد وفساد وتغلغل في مفاصل الدولة ومنظمات المجتمع، وذلك من اجل تغيير هذه الاوضاع المهترئة ، وتهيئة البيئة للتاسيس لمنظومة حكم ودولة مدنية .
وبعد نضالات جسورة وتضحيات جسام ، عرف المتحكمون بالدولة الاقطاعية تحت ضغط الثورة، ان دوام الاوضاع بصورتها المقلوبة من المحال! وبتعبير آخر ، احدثت الثورة العريضة التي اجتاحت كل ارجاء البلاد ، حالة من التناقض الحاد داخل السلطة الحاكمة ، اي بين البشير وشركائه الاسلامويين وطيف عريض من اجراء السلطة (الانتهازيين) وهو ما يمكن تسيمتهم (السلطة الناعمة) ، وبين آليات حمايتها الممثلة في الجيش والدعم السريع واجهزة الامن والشرطة (السلطة الخشنة) ! وهذا التناقض او فك الارتباط بين الشركاء الانقلابيين امر مفروغ منه اذا ما تضاربت المصالح ، طالما المرجعية المؤسسة (المشروع الحضاري) تعاني غياب الفكرة والمشروع السياسي والضوابط القيمية ! وهذا ما جعل الجماعة (الشراكة) الاسلاموية في اصلها، عبارة عن جسد (مسخ اخطبوطي وحشي) يفتقد للراس والروح ، فكان لابد له في مرحلة الضعف ان تتنصر اطرافه ممثلة في الارجل والايدي (القوات النظامية والغير نظامية)، علي البطن والفرج (المدنيين وحلفاءهم).
والحال كذلك ، ليس هنالك مشروع او دولة اسلاموية ولا يحزنون ، حتي نقول انهما ذهبا او تبقي منهما جزء ، ولكنها مجموعة مصالح مغلفة بالدين ، قد يتفقون او يختلفون حولها (بدلالة ان عرابه نفسه تم اقصاءه بكل سهولة في حموة هذه الصراعات المصلحية!) . وهذه الصراعات هي ما وسمت الدولة المسماة اسلاموية سابقا ، واخرجت لنا اثقالها راهنا ، ممثلة في هذا المكون العسكري بكل سجله الاجرامي، وتجرده من اي مرجعية اخلاقية او سياسية او ادارية او قيمة ايجابية من اي نوع! اي هو (اكرمكم الله) اشبه بقاذورات نظام قذر.
ولسوء حظ الثورة ، ان الظروف فرضت عليها الدخول في شراكة مع هذا المكون الاجرامي ، وهي تراهن علي استمرار اشتعال جذورة الثورة كحارس لشعاراتها، وما زاد الطين بلة ان المكون المدني ممثل في قوي التغيير وبالاخص قوي الهبوط الناعم ، ومن بعدها التواجد المريب لدكتور حمدوك علي سدة رئاسة مجلس الوزراء ، قدما اسوأ نموذج للشراكة من خلال استسلامهم الكامل للمكون العسكري، لدرجة اصبح وكانه يتفضل عليهم بالشراكة! ولولا جهود لجنة ازالة التمكين لنعينا الشراكة منذ اول ايامها. ومع دخول الحركات المسلحة علي خط الشراكة، اكتمل مخطط تصفية الثورة وطموحات الانتقال الديمقراطي ، لتتوج هذه المؤامرة بانقلاب العسكر في 25 اكتوبر، الذي كشف قبل كل شئ، ان المكون العسكري ليس في وارد ترك السلطة او التفريط في مكتسباته، وان اقصي ما يقدمه في هذا الشأن، هو شراء شركاء وحلفاء له بالفتات، والاهم انه كشف ان الثورة لم تمت ، وما زال شبابها قابض علي جمر ثورته ، غير هياب مواجهة جحافل القتلة المدججين بالاسلحة بكل اصنافها وصولا لاستخدام الدوشكات ، لقمع الثورة السلمية وانهاء مشروع التغيير في محطة الشراكة البائسة.
ولسوء حظ المكون العسكري انه يفتقر للحاضنة الداخلية ، إلا من حاضنة رخيصة  يشتري ولاءها كما سلف ذكره ، كما فعل مع قادة الحركات المسلحة وادعياء النضال والمتضررين من قيام الثورة من انصار البشير، واصدقاء الشموليات لاسعارهم الزهيدة، وبعض رجالات الطرق الصوفية والادارات الاهلية الذين تجاوزهم الزمان، ولكن مع كلفة سياسية واخلاقية باهظة، رفعتهم مع اولياء نعمتهم من المكون العسكري علي ذات الدرجة من الاجرام والانحطاط، علي طريقة المرء يحشر مع من يحبه او يحالفه عندما يحين اوان الحساب. ولكن بما ان هكذا دعم اجوف وكاذب لا يعتد به، إلا علي سبيل التبرير والتشدق بتوافر الحاضنة، فهذا ما دفع المكون العسكري للاعتماد علي الدعم الاقليمي والخارجي (روسيا الصين/ اقلاه واضحين في مواقفهم)، وما يحتكم عليه من اسلحة واموال ومرتزقة في ثياب نظاميين وغير نظاميين.
اما المفارقة، ان ما راكمه هذا المكون العسكري من عناصر القوة، هو خطأ استراتيجي وقعت فيه المنظومة الاسلاموية، بسبب حرصها علي البقاء في السلطة غير الشرعية، باي كلفة وكيفية! ففي اول عهدها حرصت علي احتكار المال والنفوذ السياسي لدي شريحة محددة من الاسلامويين، وهي فترة الافتتان بالسلطة والاستمتاع بمباهج الحياة والاسراف في الملذات، ولكن عندما بدأت المخاوف تسيطر علي الاسلامويين وعلي راسهم البشير من فقدان السلطة، وهي مرحلة الحرص علي الكرسي، وجهت جزء وازن من الثروة والنفوذ للاجهزة الامنية والعسكرية والمليشياوية، بقصد الربط بين بقاء النظام والامتيازات الكبيرة التي تتحصلها تلك الاجهزة والكيانات من غير وجه حق. واذا كان هذا المنحي خدم النظام ضد المعارضين بكفاءة، إلا انه من ناحية اخري اسهم في زيادة طموح قادة تلك الاجهزة، خصوصا بعد ان فقد النظام الاسلاموي كرته الآيديولوجي الذي يحشد به المهوسيين، وتركزت كل مصادر قوة النظام في تلك الاجهزة.
وبعد الثورة ذهبت المنظومة الاسلاموية بشكلها القديم الذي استنفد غرضه، ولكن بقيت مصادر قوتها، ليست حية فقط، ولكنها للاسف مثلت اللاعب الاساس في الملعب، والاسوأ انها العقبة الكادا امام طموحات الثورة واحلام التغيير، خصوصا بعد ان تصدرتها اكثر (القيادات!) غدرا وجهلا وبطشا ونهبا. والحال، ان الانقلاب الذي قام به المكون العسكري كوارث لميراث السلطة الانقاذية، لم يحل ازمته بل زاد الامور تعقيدا، لان الاحتكام علي المال والسلاح وحدهما لا يستطيعان تامين سلطة، إلا بكلفة باهظة جدا، لدرجة تجعل السلطة نفسها فاقدة المحتوي، بعد ان تتحول لمجرد وكيل اعمال لرعاتها في الخارج، وتلازمها المظاهر العسكرية كظلها في الدخل! أي تتحول الي مجموعة مظاهر هلامية وانشطة دعائية، مما ينعكس في صورة عدم استقرار سواء علي مستوي  احوال الدولة او حالة المجتمع. والدليل هل هنالك عاقل يعتقد ان بشار حاكم لشعب او يحتكم علي دولة، رغم كل ما يملكه من قوة باطشة استخدمها بكل غباء وجنون ضد شعبه؟! وهل يعترف به احد غير داعميه الاقوياء الذين يستبيحون بلاده بطريقة مذلة؟ اما العالم والشعوب الحرة، فتعتبره مجرم حرب، ينتظر اليوم الذي يمثل فيه امام العدالة للاقتصاص منه علي جرائمه، وهذا في حال لم تاته كفوة تخلص البشرية من شره وتجربة نموذجه الدموي.
والبرهان وحميدتي وبقية اعضاء المكون العسكري وشركاؤهم قادة الحركات المسلحة، لا يختلفون عن بشار والاحتذاء بنموذجه، ومن هنا صعوبة الجمع بين وجودهما، وامكانية الوصول لحلول تخدم مطالب الثورة، وقضية الانتقال للدولة المدنية، والاصعب كيفية اخراجهما من المشهد السلطوي باقل الخسائر، وهما يسيطران بطريقة مصلحية وديماغوجية علي ما تحت ايديهم من قوات، وهذا غير اخلاصهم في خدمة مشاريع محور الشر ومصالح الراسمالية الطفيلية، وما يوفرانه هذان الاخيران من غطاء دبلوماسي ودعومات لوجستية لبقاء الجنرالات في سدة السلطة. وعليه، المعضلة الحقيقية تكمن في ان هكذا سلطة اجرامية مواجهتها سلميا مكلفة جدا، كما انها لا تعد باي ضمانات للتحول المدني، في ظل مؤسسة عسكرية مستلبة كليا لايديولوجية فاسدة، مصممة لخدمة قادتها ومعاداة المدنية والمدنيين، خصوصا بعد تصفيتها بعد الثورة من كل العناصر الداعمة للثورة! اما مواجهتها عسكريا فهي تعني منحها شرعية وان كانت شرعية مضروبة! اما مسالة التسوية مع المؤسسة العسكرية رغم بؤسها في ظل وضعها الراهن، فهو المطلوب. لاننا لا نتعامل هنا مع هذه المؤسسة علي حالتها الراهنة، ولكن مع تجربة تاريخية طويلة ظلت فيها هذه المؤسسة محتكرة للسلطة ومتحكمة في خيارات الشعب، وهو وضع اضر بالبلاد ايَّما ضرر، كما انه لم يستثنِ المؤسسة نفسها من الضرر. ولذا معالجة هكذا وضعية (وصاية) موروثة، تركت بصماتها في تكوين ووعي وسلوك المنتمين لها، ضربة لازب، لا اظنه من السهولة بمكان. وهو ما يتطلب طرح موضوعي من الثوار يستصحب هذه المسيرة المجللة بالاخطاء، لدرجة انها اصبحت ملازمة لوجودها وتعبيرات افرادها (اي كادمان عادة رذيلة)، وتاليا تحتاج للمرونة والزمن حتي يعاد تكوينها علي اسس حديثة وانتاج عقيدة جديدة بدور جديد، يتعايش مع الدولة المدنية بعد ان يصبح جزء من نسيجها.
وعموما، مسالة التسوية مع هذه المسيرة المذكورة والتجربة المريرة عملية صعبة، وللاسف ازدادت صعوبة بعد فقدان الثقة، الذي تعمق بسبب ممارسات المكون العسكري منذ تعنته في ترك السلطة، مرورا بجريمة فض الاعتصام امام قيادة الجيش وبصر جنوده وقادته، وكذلك اعاقته المتكررة لمطالب الثورة واستحقاقات الوثيقة الدستورية، واستمرائه انتهاكها باستفزاز، وصولا لانقلابه المشؤوم في الخامس والعشرين من اكتوبر، ومن ثمَّ اصراره علي التمسك بالسلطة باي ثمن، وبتواطؤ تام مع المؤسسة العسكرية والاجهزة الامنية والمليشيات والحركات المسلحة!
ولذا علي الامم المتحدة اذا ارادت فعلا ان تحدث اختراق في هذه الازمة المستفحلة، من اجل تقديم خدمة للبلاد وشعبها، تنجيهما شر المهالك والسيناريوهات السيئة التي يخبئها المستقبل المظلم، عليها ان تكرس جهدها والاستفادة من امكاناتها، والاستعانة بالخبراء والخبرات الوطنية، لتوحيد الشارع الثائر وقواه السياسية تحت مشروع واحد، هذا في جانب. وفي الجانب الآخر، عليها ان تمارس كافة الضغوطات بما فيها العقوبات الفردية، لاخراج واجهات المكون العسكري من المشهد السلطوي. لان هذا هو السبيل الوحيد لاعادة جزء من الثقة المفقودة بين المدنيين والعسكريين ، مما يشكل الارضية المناسبة ، التي تسمح بعمل تسوية مقبولة لدي الطرفين ، والاهم ان تكون ذات ضمانات حقيقية تمكنها من البقاء ليس لاكمال الفترة الانتقالية ولكن حتي لما بعدها.
واخيرا
الرحمة والمغفرة للشهداء ، وخالص العزاء لاسرهم المكلومة ، ونسال الله ان يجعلها آخر الاحزان ، وعاجل الشفاء للمصابين ، وعودة غانمة للغائبين والمعتقلين . وثورة عظيمة كهذه وثوار نبلاء كاولئك لا يستحقون هذا العنف ، فما يستحقونه وطن معافي ، ودولة مدنية تتيح لهم تفجير طاقاتهم للتنمية وفي الابداع. ودمتم في رعاية الله.
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..