في شأن العلاقة مع مصر !!

اسماعيل عبد الله
يبدو أن حكومات السودان المتعاقبة ومنذ مؤتمر اللاءات الثلاث ، تتعامل مع الشأن المصري من منطلق العاطفة المرتبطة بالعلاقة الأزلية بين الشعبين ، منذ بزوغ فجر حضارتيهما العريقتين – كيميت وكوش – المتشابهتين في كل شيء، لذلك جاءت تصريحات الدكتورة مريم الصادق المهدي وزيرة الخارجية السابقة محيّرة للأذهان ، وهي تخاطب رصيفها المصري بوصف (الأخ الأكبر) في تواضع مفاجيء ومجاف للمهنية ، ولا يتناسب مع فخامة تلك المناسبة الدبلومساية الرسمية ، التي لا مجال فيها لتقديم كلمات الاطراء المتداولة حصراً داخل الاطار العائلي والأسري ، وعلى شاكلة نفس المنهاج العشوائي قد سار من قبلها علي كرتي الوزير الأسبق في عهد الدكتاتور ، الذي لا يرى غضاضة في اسكان المواطنين المصريين على طول الشريط النيلي الممتد من مدينة الجيلي شمالي الخرطوم حتى حلفا، ومن بين ثنايا الخطابين يتراءى للرائي ذلك الخط الانهزامي المهادن ، الذي استمسك به رأسا الدبلوماسية السودانية في الحقبتين ، ويتكشف مدى استحواذ القاهرة وقوة تأثيرها على ذهنية الخرطوم ، فمهما بحث الباحثون الاكاديميون لن يجدوا سبباً واحداً لحدوث مثل هذا التماهي اللا اخلاقي سوى الاستلاب الثقافي .
بعد أن احكم الرئيس السوداني الأسبق جعفر محمد نميري فبضته على السلطة وشئون الحكم ، وبعد ان دحر انقلاب يوليو التصحيحي اصبح عروبياً اكثر من العرب انفسهم ، ومن هنا كانت نقطة انطلاقة مصر نحو الهيمنة السياسية والثقافية على السودان ، التي القت بظلالها على ثلاثة اجيال تمثل اليوم رأس الرمح في الفعل السلطوي ، لقد كان المنهج التربوي هو المدخل الانسب نحو تحقيق هذه الغاية ، فجيء بمحي الدين صابر وزيراً للتعليم وهو رجل معروف عنه ولاءه للمدرسة المصرية ، فاجرى جراحة على النظام التعليمي الذي كان متبعاً لدى منظومة دول الكومونويلث ، فبدأ الهبوط التدريجي لمستوى جودة التعليم العام والعالي ، الى أن تم نحره تماماً بواسطة الاخوان المسلمين عندما عرّبوا المنهج الاكاديمي بالجامعات والمعاهد العليا، وبذلك كانوا قد ارتكبوا في حق المؤسسة التعليمية ابشع الجرائم التي عرفها التاريخ الاكاديمي السوداني ، وكما يقال من اراد أن يدمر أي أمة من الأمم ويصل بها الى حضيض الانحطاط ، عليه افراغ المدارس والكليات من المحتوى الجيد للمنهج الاكاديمي ، وعليه ملأ العقول بالغث من محتويات الكتب الصفراء ، فما نراه اليوم من هرولة واستسلام واسترخاص من رجال الدولة لانفسهم وللدولة ، ما هو الا نتاج طبيعي لكسر شوكة المؤسسة التعليمية والتربوية.
وزن معادلة العلاقات السودانية المصرية بميزان المصالح المشتركة التي لا يتحامل فيها طرف على الطرف الآخر، يكمن في ضرورة استكمال مشروع ثورة ديسمبر المجيدة ، ووجوب بلوغه غاياته المنشودة ، المتمثلة في كنس العملاء والمرتزقة والأفاكين والقوالين والمتفيقهين والمتصيحفين ، واستبدال المشهد القاتم الحاضر بلاعبين جدد من الشباب المستقلين غير المتحزبين ولا الحركيين المسلحين ، لقد مضت سنتان ونصف السنة على تولي اول حكومة اعقبت خروج الدكتاتور من مسرح السلطة ، فخبرنا العسكر وعرفنا ماهي احزاب قحت وكشفنا الاتفاقيات المبرمة تحت الطاولة لحركات سلام جوبا ، وجاءت الخلاصة صفر كبير ، وانكشفت الوجوه وانحرقت الكروت ونهبت الثروات واشتعلت الحروب، واصبح السودان مرتعاً للساجدين تحت وطأة الحذاء الأجنبي والأقليمي ، لقد احزنني حديث الاعلامي عمار وهو يئن أنين الجريح عندما وصف هرولة الحزبيين وتهافت الحركيين من اجل البصم على مبادرة المبعوث الأممي ، بأنهم قد رفضوا ذات المبادرة عندما قدمها رئيس الوزراء المستقيل ، لقد قالها عمّار صراحة بنبرات صوته الحزين (إنّها عقدة الخواجة صاحب العيون الزرق) ، وهكذا فتحوا الأبواب على مصاريعها تلبية لنداء هذه العقدة المستحكمة.
السودان وطن يضحي من أجله الصغار ويبيعه الكبار، من يتوقع أن يأتي على المفاوضين بشأن أزمته الوطنية من هؤلاء الكبار يوماً لا يقيمون فيه وزناً لدماء هؤلاء الاطهار الصغار السائلة على الجدار؟، ففي الوقت الذي يموت فيه المراهقون الرافضون لحياة الذل والانبطاح والانكسار ، يسترسل الزعماء والوزراء والخطباء والوجهاء في مداهنة المبعوثين القادمين من وراء البحار ، وفي مثل هذا الطقس المشحون بتقديس الغريب وركل القريب وتقريب الجار ، تتهيأ الطائرات والشاحنات والسفن المحملة بالذهب واللحوم والصمغ وكريم الاحجار ، لتمخر عباب البحر وهي ممعنة في الترحال والتسفار والابحار.