مقالات وآراء

لاخوف على الوطن رغم الخلاف

عبدالدين سلامه 
لست من أؤلئك المتشائمين بانحدار الوطن نحو التّقسيم رغم عدم استبعادي انجراره للأسوأ ، فثورة الشباب المنطلقة الآن لاتوحي بذلك لأن الشباب الذين يتظاهرون في كل بقاع الوطن هم خليط من أصول داخلية مختلفة وقبائل متباينة لايجمع بينها سوى الإصرار على بقاء الوطن موحدا ، فقد هتفوا جميعا (همّ الوطن همّي وأم الشهيد أمي) ، وتحدّثوا في كل أطروحاتهم عن كامل البلاد لاعن بقعة محددة ، وحتى تسجيلاتهم المختلفة على الأسافير لم تنادي سوى بالحفاظ على وحدة اللحمة الوطنية ، أما الجهوية والقبلية والمناطقية فلم تعد سوى حائط مبكى في بعض عقول الأمس التي تصرّ على نسخه في واقع اليوم.
التقسيم ليس مطروحا من أيّ فئة من فئات المجتمع في الوقت الحالي ، والجميع متّفق حول بعض نقاط الحل التي يجب أن تكون منصّة انطلاق لأية وساطة أو مبادرة وطنية ، فالسلمية الطاغية على المشهد مظهر هام لايجب الحياد عنه لأنها مثّلت ضامنا قويا لتماسك البلاد رغم انهيار المرافق والخدمات والأحوال ، والوعي الكبير الذي يحمله هذا الجيل الاستثنائي المدرك تماما لكل مايفعله خير ضامن ، وحتى الأحزاب المختلفة باتت تعوّل على هذا الجيل وتؤكد أن الخلاص بيديه ، فالأحزاب في تاريخها العريض لم تقدم للبلاد سوى الحلول المسمومة التي أوصلتنا إلى مانحن فيه ، فقد جرّبت البلاد منذ استقلالها حكم العسكر أكثر من مرّة وجرّبت حكم الأحزاب أكثر من مرّة والنتائج واضحة وضوح الشمس في كبد السماء .
أحزاب اليمين تجربتها في السودان معروفة عبر التاريخ ، ويكفي أننا الآن سودانين لاسودان واحد  ، وفي العالم أيضا رأينا ماذا فعلت القاعدة وماذا قدّمت داعش ، وحتى في بلادنا لم تقدّم الثورة المهدية غير البطولات الانفعالية التي أثبتت شجاعة الإنسان السوداني ولكنها لم تحافظ على الوطن ، والأحزاب الطائفية لم تقدّم غير الإقطاع والجبايات وتكريس القبلية ، أما أحزاب اليسار فعلى مستوى العالم يبقى الإتحاد السوفيتي وسوريا والعراق واليمن الجنوبي وكوبا خير نماذج ، وفي السودان تبقى التجربة المايوية في بداياتها نموذجا صارخا ، فالأحزاب اليسارية قوّضت مختلف أشكال الحكم وهدمت مقدرات الوطن في مختلف المراحل بخلطها بينه وبين الحكومات ، والحركات المسلحة لازالت نتائج سمومها تتراءى في دارفور وغيرها  .
لانريد لشبابنا أن يعيش ذلك الخلط الذي وقعت فيه القوى السياسية فيهدم المرافق العامة ويخرّب الطرقات وحوافها، فالوطن لهم لالغيرهم طال الزمن أوقصر ، وثورتهم لها مبرراتها ولكن محاربة الحكومة أو أفرادها لاتعني تخريب الوطن بأية حال ، لأن الوطن سيؤول لهم ويجب أن يحافظوا على مقدراته ، فمحاربة التهريب على سبيل المثال أجدى وأنفع من تكسير (الأنترلوك) ، وحراسة مواقع الإنتاج والتعدين والمنافذ ومراقبتها اللصيقة أفضل من خلع اللوحات وحرق مقرّات الشرطة ، لأن محاربة النظم تكون بخنقها إقتصاديا لابتخريب المال العام الذي سيتحمّل تكلفة إعادة بنائه المواطن والوطن لا الأشخاص والكيانات والحكومات التي يقفون ضدّ وجودها .
قضية الشباب الحالية يؤمن بها معظم السودانيين دون شك ولها مبرراتها ، فهم من انتزع البلاد من براثن النظام السابق وتمّ استبعادهم من جانب العسكر باسم حماية البلاد من المهددات ، ومن  الحركات المسلحة باسم السلام ، ومن الأحزاب المختلفة باسم الدولة المدنية ، وحاولت مختلف القوى تثبيط هممهم والنيل من تطلعاتهم وآمالهم وأحلامهم ، غير أن ذلك كله لايعني بأية حال أن تكون مواجهتهم للطرف الآخر بالسلمية ولمقدرات الوطن بالتخريب ، فالدماء الغالية جدا التي دفعوها فاتورة باهظة لتحقيق أحلامهم يجب أن يكون لها ثمن يناسبها ، وعلى الأحزاب والعسكر والحركات مراجعة أفكارهم والجلوس إلى بعضهم للحديث لجرد حسابات الواقع بشفافية واضحة ، ولابد من سماع صوت الشباب وماذا يريدون ، فالكل الآن يسمع صوت الشباب بمايريد لابمايريدون ، والكل يدّعي نظريا لاعمليا وقوفه مع الشباب ، والشباب على الضفّة الأخرى لم يقل أنه يريد كراسي الحكم ، ولكنه قال أنه يريد دولة قانون ومؤسسات تتحقق فيها شعارات الحرية والسلام والعدالة ، وأن يتمكن الجميع من العيش بما يناسب وضع دولة خرافية الموارد لاسبب يجعل مواطنيها من أفقر شعوب العالم ، ولاسبب يدعو شبابها لمعانقة البطالة والهجرة ، ولاسبب يحمل ولاتها ورموزها للتبعية والخنوع ، فالتوازنات الإقليمية والدولية دون شك ستقف حجر عثرة ، لكنها لن تتمكن من فعل شيء لو اتفق الجميع على الصمود ، فالخيانة والذاتية هي سبب الكوارث ، ولاسبب يجعل الآخرون يرهنون قرارهم لغير مصالح الوطن .
الحل الناجع يتمثّل في دولة القانون لا الإقصاء ، دولة التماسك لاالتنافر ، فهاهي أمريكا التي يضربها البعض مثلا أعلى للدولة قالت لترامب لا حينما حاول أنصاره تقويض دولة القانون ، لأن القانون هو الحاكم الأول والأخير ، ولن تنجح أي وساطة لاتنطلق من مبدأ ترسيخه
وقد بلغت .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..