مقالات وآراء2

صون دماء الشهداء ,, 

منذ أول يوم لهبة وغضبة ديسمبر , مهر شباب بلادنا مخاض ثورتهم الشعبية , بدماء عدد غير قليل من الشهداء الذين كانوا في ريعان شبابهم  وفي عمر الزهور , وصلاً لما قدمه أقرانهم في سبتمبر من قبل خمسة أعوام في ملحمة جسورة , قذفت بالرهبة والهلع و الخوف والفزع والجزع  في قلب الطاغية و زبانيته , و من قبل ذلك بذل الأحرار من ثوار كل من جبال النوبة  والأنقسنا و دارفور المهج رخيصة في طريق التحرر و الإنعتاق , فعلى الرغم من أن عدسات وسماعات الكاميرا لم توثق لهم  بصورة أو بصوت , فإنّ  ذاكرة الأحرار من أفراد شعبنا ما زالت حافظة للقيمة الوطنية العظيمة لتضحياتهم المشهودة  , فجميع  الشهداء وبمحتلف فئاتهم و أعمارهم و جهاتهم و خلفياتهم الفكرية هم الأعلى مرتبة ووالأفضل مكانة منا جميعاً , وهم الأعظم  درجةً  وذلك لحملهم أرواحهم على أكفهم و تقديمها قرباناً لإسعاد الناس في المراحل القادمة من الحياة , فلهم سمو المقام لأنهم واجهوا رصاص الطغاة بصدور عارية إلا من الإيمان بالله وبقيمة هذا التراب , ومن منا لم ترتعد فرائضه من الإجابة التي أدلى بها ذلك الشهيد اليافع في إنتفاضة ام درمان , عندما حاولت والدته و أمه الرؤوم أن تثنيه عن الخروج , و تحرمه شرف الأندماج  في الشارع الثائر , بحكم إرهاصات قلب الأُم  , حين قال لها : (يا أمي إذا لم نخرج نحن فمن سوف يزيح عنكن الغمة ؟) , لقد خان التعبير كهولنا وخذلهم حدسهم عندما وصفوا الجيل الذي ينتمي إليه أمثال هذا الصغير اليافع بمالا يليق , ويا لسرعة الرد و الاجابة المفحمة لانزلاقة لسان هؤلاء الكهول ,  إذ تجيء اليوم بشريات التغيير مخضبة بدماء هؤلاء اليافعين , الذين خيبوا ظن الذين سبقوهم في الولوج إلى الحياة  , ولقنوا كبارهم  دروساً في قصص وروايات عشق هذه التربة السمراء , العشق الذي تتضاءلت أمامه قيمة الحياة وانحنت قبالته هامات الرجال , فمنذ قدم التاريخ  تجد رصفاء هذا الجيل الغض الإهاب , هم من ظلوا يتحملون وعلى الدوام  أثقال وأعباء التحولات الكبرى في مجتمعاتهم , فهم من يصنعون ويبنون صروح الحياة القادمة , فما يزال الصوت الداوي لأهزوجة هذه الهبة الديسمبرية (تسقط بس) والتي انطلقت  في كل مدن السودان , هو صوت حناجرهذا الجيل المزمجرة كالرعود ببروقها الخاسفة , وظل هو النداء الوطني  الأوحد و الهدير المزلزل  والمسيطر على سماوات هذه المدن السودانية  التي هتفت فقالت (سلمية .. سلمية) , مطالبة بترجل رأس النظام وصحبه عن كرسي سلطة الشعب. 

إنّ صون دماء هؤلاء الشهداء الشباب واجب وطني و إلزام أخلاقي , فهم من زرع في أنفسنا الأمل و أحيا شرايننا التي كانت ميتة وممتلئة بالدماء المتخثرة , فهتاف هؤلاء الشباب جعل دمائنا تجري في أوردتها بكل سلاسة و يسر , لقد أزاحوا عن مشهدنا كل الظلال القاتمة التي حجبت عنا رؤية المستقبل المشرق لبلادنا المنتصرة و المنصورة , فصون هذه الدماء العزيزة يكون بتحقيق التماسك والوفاق الوطني الشامل لكل واجهات العمل السياسي , من منظمات مجتمع مدني و أحزاب سياسية و حركات تحرر وطني عسكرية , فهؤلاء اليافعون قد حلموا بانجاز دولة المواطنة والقانون و العدالة الاجتماعية , وضحوا بأرواحهم في سبيل الحصول على نظام سياسي , يكفل للناس الحرية و يحفظ الكرامة و يحقق الوحدة الوطنية , فسوف نكون من زمرة الخائنين إذا لم نصن دمهم و لم نسر على درب التلاحم الوطني و الشعبي , من أجل إنجاز وتطبيق  دستور يحمي مكتسبات هؤلاء الشباب الطموحين وأهليهم , ونكون من (العملاء والمندسين) كما وصفنا العدو , اذا لم نقم بوضع عقد إجتماعي نقدسه ونحترمه  يكون مبرأ من هوى النفس وغرض الانتهاز , فلابد من ميثاق شرف يكبح جماح النفس البشرية المجبولة على الضعف , فهؤلاء الاسلاميون الجبابرة و الطغاة الذين ارتكبوا كل انواع الموبقات في حق الشعب و الأرض , كانوا وما يزالون يعتبرون بشراً ظالمين ومهلكين للحرث و للنسل , ذلك لأنهم لم يتواثقوا إلى عهد فيما بينهم تعاهدوه , فاساءوا استخدام سلطة الشعب وحولوها إلى إمارة شبيهة بدولة  بني أمية , فاستحلوا كل ما حرم رب العباد من قتل و سحل و اغتصاب للحرائر , وأكلوا أموال الناس بينهم بالباطل , وحتى لا تتكرر ذات التجربة المأساوية , علينا (نحن الأحياء) القيام بالإيفاء بوعودنا تجاه شهداء قضيتنا , بأن نفعل دور الأجهزة النيابية والقضائية و الرقابية بعد استكمال عملية التغيير الشامل , هذه الاجهزة الرقابية من شاكلة الحجر صحي و الزراعي والبيطري , ودواوين المراجعة والمحاسبة وهيئات المقاييس والموازين والمكاييل الضابطة للجودة , ودواويين النيابة العامة الفاعلة والمحايدة وغير الخاضعة لقهر نفوذ السلطة التنفيذية ,  لكي تنوب عن الناس في متابعة حقوقهم القانونية , وإرجاع النظام المالي إلى سابق عهده عندما كان (أورينك) خمسة عشر يؤدي دوره  بكل صرامة , كضابط دقيق وحاسم لكل مورد مالي يخص الخزينة العامة للدولة , وليس كما هو حال دويلة المشروع الهلامي الآيلة إلى السقوط اليوم , وما بددته من مال عام تحت مسوقات فطيرة هي التمكين والتجنيب و التحلل , فبالأمانة و بالصدق وتقديس العهد والوعد و بالإيفاء بالحقوق , نكون قد صنا دماء شهداء الثورة الشعبية السودانية , كما علينا تكريم وتثمين دور كل أم اقتطعت فلذة من فلذات كبدها و دعمت بها  هذا المد والموج الثوري الكاسح , فكل الأمهات اللائي لم يترددن ولو للحظة في المشاركة بأغلى ما لديهن في إنجاح ثورة الشعب , نظل نحن الذين ما زلنا على قيد الحياة مدينين لهن ولكل مواطن شريف منح زينة حياته الدنيا رخيصة في سبيل تعبيد شارع وطريق رفعة  هذا الوطن , ونبقى مطأطأين رؤوسنا إجلالاً ومهابة و اعترافاً بالقيمة النبيلة و السامية التي تزين رؤوس هؤلاء النسوة كتاج فخار لا يبلى و لا يخفت بريقه. 

لقد فدى هؤلاء الفتية وطن اجدادهم بالأرواح و جادوا لهذا البلد الفريد بعظيم المهج وعزيز الأنفس , فاجتازوا الإمتحان بجدارة و تفوق كبيرين , دون أن يطلبوا ثمناً  أو مقابلاً لهذه التضحيات الوطنية الخالصة , فكتبوا لوطنهم الخلود بحبر لونه احمر قاني  , تماماً مثل لون دمائهم الشابة المتفانية , وحطموا كل القيود و كسروها , كيف لا , وهم الجنود السائرون إلى الأمام , الذين يبتغون الحرية الكاملة غير المنقوصة , تلك المأخوذة و المنتزعة عنوة وإقتداراً , دون استجداء أو رضوخ لترهيب الطاغية و عملائه , فهؤلاء الجنود الشباب يعلمون تمام العلم , أنهم إذا لم يقوموا قومتهم هذه , و إذا لم يهبّوا هذه الهبّة الجارفة , فلن يرثوا إلا وطناً يرفل تحت بؤس الحطام و الانقسام و الفقر و الجهل والمرض , لذلك اتحدت هذه السواعد الخضراء و أقسمت على أن تبنيه وطناً قوياً متماسكاً كالحديد والفولاذ. 

 

إسماعيل عبد الله 

[email protected] 

 

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..