مقالات سياسية

نبقى حزمة كفانا المهازل

عثمان يس ود السيمت 
ماذا يعني توحيد المبادرات

تم ليلة أمس إطلاق مبادرة موحدة من أربعة مبادرات من خلال بث مباشر لتلفزيون (سودان بكرة). هذا الحدث الذي حظي بمتابعة من جماهير غفيرة يعكسها العدد الكبير جداً من التعليقات فور إنتهاء البث. ماذا يعني هذا الاعلان. المراقب للساحة السياسية السودانية لا يفوته ولا يخطئه ملاحظة الاحتقان الشديد للراهن السياسي ، بل إن الوضع السياسي الراهن يبدو مخيفاً تتجاذبه مآلات كلها خطيرة. فالوضع السياسي يعاني من الفراغ الكامل وعدم وجود سلطة تنفيذية منذ 25 أكتوبر 2021 تاريخ الانقلاب المشئوم، واستمرار تساقط الشهداء يدمي القلب. والوضع الاقتصادي تأزم لدرجة غير مسبوقة ، فقد تعطلت عجلة الاقتصاد وتوقفت تماماً بعد أن عادت البلاد لوضع المقاطعة الاقتصادية وتتدحرج بسرعة مخيفة لوضع الحصار السابق وتهديدات بوقف عملية إعفاء الديون . أما ملايين المواطنين الذين كانوا ينتظرون (ثمرات) كل أول شهر لتعينهم قليلاً على أعباء المعيشة يبدو أنهم سيطول انتظارهم. وشرايين الشمال والشرق تم تتريسها تماماً في محاولة شعبية لضبط الفساد الواضح الذي طال تهريب السلع الاستراتيجية للخارج بصورة تظهرنا أمام العالم كأمة من الأغبياء البلهاء السذج وأنا أشد على يد التروس في الشمال حتى ينعدل الحال، حتى وإن كان المحرك لهذا الأمر هو زيادة أسعار الكهرباء من وزير مالية سابق مازال يعمل قصباً عننا لا ندري شرعية وقانونية قراراته. أما الوضع الاجتماعي فقدْ فَقَدَ من يعانون منه الأمل في فرج قريب وهنا أقصد أهلنا في معسكرات اللجوء يمر عليهم الشتاء السادس عشر في معسكرات تحولت بواقع الحال لسكن دائم يتشاركون فيه البرد القارس والمطر والغيظ مع الحشرات السامة والهوام وناقلات الأمراض حتى ألفتهم وألفوها.
أزاء وضع كهذا لا نستغرب المتابعة الكثيفة والترحيب الشديد من قبل المتابعين بإطلاق مبادرة التوحيد بين المبادرات فماذا تعني هذه المبادرة : أولاً تعني أن الإلتقاء عند نقاط إتفاق سهل جداً ولم يستغرق الأمر أكثر من أسبوعين لتصبح المبادرات الأربعة مبادرة واحدة . ثانياً أن عشرات المبادرات المطروحة بالساحة الآن لو وضعت على طاولة الحوار سيكتشف واضعوها أنها تتفق أكثر مما تختلف وسيتفاجأوون أن المرمى واحد والهدف العام واحد والاختلافات فقط تكون في الأهداف التنفيذية ورؤية كل مبادر لأولويات الحلول.

ثالثاً وهو الأهم أن الإجابة على سؤال من البديل للإنقلاب العسكري حال سقوطه تكمن في توحيد الرؤى وهذا ما قامت به هذه المبادرات الأربعة بشجاعة وتجرد وإعلاء للشأن العام على ما سواه.
ولعبقرية الطرح في هذه المبادرة الموحدة والتي خاطبت كيفية إيجاد بديل للوضع الانقلابي الحالي وتقديمها تصوراً مختصراً مفيداً لكيفية تكوين هياكل الحكم تاركةً أمرين رغم أهميتهما إلا أنهما يجب أن يتم تناولهما بعد مزيد من التلاحم بين المبادرات. الأول هو برنامج الفترة الانتقالية وكيفية إدارة الفترة الانتقالية. والثاني عدم إقفال الباب أمام المبادرات الأخرى وأمام التعديل الممكن جداً لما أتفق عليه وقدم في المبادرة الموحدة ، وهذه قمة النضوج السياسي . ولكي تكتمل الصورة أستعرض المحاور الرئيسية للمبادرة وأترك للقارئ أن يطلع عليها كاملة إن أراد وأنصحه بقوة أن يطلع عليها.
أجهزة الحكم الانتقالي تتكون من برلمان إنتقالي (مجلس تشريعي) ومجلس وزراء ورئيس الوزراء يعتبر رئيس السلطة الانتقالية بدون مجلس سيادة وهذا يتناسب مع طبيعة المرحلة الانتقالية بالنظر لتجاوزات المجلس السيادي في الفترة السابقة، بالإضافة إلى أن مجلس السيادة أصلاً بدعة سودانية لتجاوز إختلافات السيدين المهدي والميرغني في الماضي . ومما سيسهل عملية تكوين اجهزة الحكم الانتقالي أن البرلمان سيشكل أولاً حتى قبل سقوط الانقلاب وستكون أولى مهامه إختيار رئيس الوزراء وسيقوم رئيس الوزراء باختيار حكومته من الكفاءات التقنية والسياسية دون تقييد له.
إن الآلية المقترحة لتشكيل أجهزة الحكم تعتمد على سرعة تسمية أعضاء البرلمان خاصة من قبل لجان المقاومة ، أما الأعضاء الآخرين فمن المؤمل أن تسميتهم لن تكون معضلة تؤخر تشكيل البرلمان. وهذا يتطلب سرعة إنجاز لجان المقاومة للبناء القاعدي وتكوين  بناء رأسي يمكن أن يسهم بشكل كبير في التعبير عن اللجان في المرحلة المقبلة. باستعراض سريع لتكوين البرلمان نجد أنه خاطب القوى الفاعلة في المجتمع وأصحاب المصلحة الحقيقيون ، كما أن تحديد العضوية بمائة وواحد يعتبر أمراً متناغماً مع الدعوات الشعبية المتكررة لخفض الإنفاق الحكومي وسرعة اتخاذ القرار ومحاربة الترهل الحكومي الذي كان السمة البارزة للعهود السابقة. وأرى أن البرلمان المنتخب يجب ألا يتجاوز في عضويته هذا العدد ، فأعرق المجالس الديموقراطية في العالم مثل الكونجرس الأمريكي عضويته لا تتجاوز هذا العدد رغم أن عدد السكان الأمريكيين تسعة أضعاف السودانيين تقريباً. كما أن نسب توزيع العضوية عكس تجرد أعضاء المبادرات الأربعة وأنهم وضعوا المصلحة الوطنية العليا صوب أعينهم وتجاوزوا المرارات التي صاحبت الفترة الانتقالية السابقة. إن تخصيص 51 في المائة للجان المقاومة لا يعتبر تمييزاً لها بقدرما هو تكليف لهم ودعوة لهم لاستمرار دورهم الذي يطلعون به الآن في قيادة الشارع لدور أكبر هو قيادة عملية التحول الديموقراطي والتي تعتبر الجهاد الأكبر والعقبة التي فشلت فيها كل الثورات السابقة، وأتمنى ألا يستمر بعض الناس بوصمهم بقلة الخبرة ، فمن يقود الشارع والحراك بهذه الكفاءة جدير بأن يستمر في قيادة الوطن مستقبلاً ولا تعوذه الكفاءة. جاء تمثيل الفئات المختلفة بأوزان تعكس الاحتياج في الفترة القادمة والدور المتوقع أكثر مما تعكس تمثيلاً برلمانيا لأوزان الشارع فقط، فالمهنيون هنا هم كل المنتسبين لاتحادات ونقابات وكيانات مهنية بالداخل والخارج وليس تجمع المهنيين المعروف، وبما أن المهنيين سيكونون المجالس الاستشارية كما هو متوقع في الفترة القادمة فإن تمثيلهم بنسبة 20 في المائة تعتبر أمراً ضرورياً بالبرلمان. تم تمثيل فئات أخرى مثل الحركات المسلحة الموقعة وغير الموقعة على إتفاقية جوبا على ألا يتم اختيار من شارك في سلطة انقلاب 25 أكتوبر وهذا أمر طبيعي ومتوقع . كما تم تمثيل الفئات الخاصة من أقليات دينية وذوي الاحتياجات الخاصة ومعاشيي القوات النظامية ورموز الابداع الفني والأدبي . تم اقتراح تمثيل الإدارة الأهلية خاصة في المناطق التي لا يتوفر فيها تواجد مناسب للجان المقاومة ، حيث هناك توصية للجان المقاومة بتضمين ترشيحاتهم أسر الشهداء وبعض شباب الادارات الأهلية . الأمر اللافت للنظر والذي يدل على تصالحية هذه المبادرة الموحدة هو تمثيل القوى السياسية الموقعة على ميثاق الحرية والتغيير في 2019 بنسبة 14 في المائة مما يؤكد عدم إقصاء القوى السياسية القديمة والحديثة. أكدت المبادرة الموحدة على تمثيل المرأة بخمسين في المائة من كل الترشيحات وهذا يدل على استمرارية دورها الذي أبرزته في الشارع ونتمنى أن يكون ذلك أيضاً في الجهاز التنفيذي وأجهزة الحكم الأخرى.
تجاوزت هذه المبادرة التعقيدات السابقة التي تؤدي لتأخير عملية تكوين الجهاز الحكومي ، فالبرلمان يختار رئيس الحكومة والذي يؤدي اليمين أيضاً أمام البرلمان . يعتبر من أهم مهام البرلمان في بداية تكوينه هي إنشاء لجنة لوضع إعلان دستوري وتشكيل لجنة اختيار رئيس الوزراء من بين ترشيحات الأعضاء وليس من الضروري أن يكون عضواً بالبرلمان.
إن هذه المبادرة الموحدة شكلت إختراقاً في الوضع السياسي المتأزم وبارقة أمل ستنهي هذا الاختقان السياسي . لكن نتوجه بالنصيحة الضرورية للجان المقاومة بسرعة إنجاز البناء القاعدي وتشكيل البناء الرأسي المناسب للمرحلة وللدور الذي يتوقعه الشارع منهم ، حتى وإن كانت رؤيتهم لتنظيمهم قد أخذت شكل البناء القاعدي فإن رؤية الشعب السوداني لهم الآن تختلف جداً بل وتعتبرهم طوق النجاة لقيادة البلد في المستقبل وتحقيق طموحات الناس ، ومن الحصافة أن تتبع توقعات وآمال الناس أكثر مما تعتصم ببنود تأسيسية قد لا تصمد أمام فوران الأحداث . كما ننصح المبادرات الأخرى بالساحة السياسية إلى سرعة التناغم مع هذه المبادرة الموحدة لتتحقق أعظم وأضخم جبهة سياسية (مرحلية) وربما دائمة في تاريخ السودان تنهي دوامات الفشل والانقلابات العسكرية وضياع الديموقراطية في مهدها دائماً.

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..