مقالات وآراء سياسية

زحمة المبادرات وامل الخروج من النفق المظلم

عبدالله مكاوي 

في ظل هذه الاجواء الملبدة بالاحباط ، من جسارة الانقلابيين في انتهاك كافة الاعراف والمحرمات ، والاصرار علي قيادة البلاد للهلاك ، بكل رعونة وعنجهية وجهل وتبلد احساس ، وارتماء في احضان اعداء الثورة والتغيير في الداخل والخارج . إلا ان تصاعد وصمود المد الثوري من جانب ، ومثابرة الحادبين علي مصلحة الثورة والوطن ، للتنادي والاجتماع علي قلب مشروع واحد ، من جانب . هو ما يفتح باب الامل للخلاص من هذا الكابوس الانقلابي الجاثم علي صدر السلطة في البلاد .
وما اثلج الصدر حقا هو المبادرة المشتركة ، التي ابتدرتها اربع مبادرات ، والتي تم عرض خطوطها العريضة ، علي قناة الثورة (سودان بكرة) عبر ممثل لكل مبادرة. واهمية جمع هذه المبادرات في مبادرة واحدة ، قابلة للتطوير والاندغام في غيرها من المبادرات ، انها شكلت ضربة البداية او النواة التي تجتمع حولها كافة المبادرات ، اقلاها من باب قصب السبق . لان مجرد وجود جسم او كيان يفتح الطريق للم شعث المبادرات وتزاحمها ، يضع اللبنة الاولي لانجاز مشروع الثورة السياسي والتنظيمي ، بعد ان يتخلص من النقاط المشتركة ويركز علي نقاط الخلاف ، والاهم ان يستصحب كافة العثرات التي لازمت هذه النوعية من المبادرات ، وهو ما يستلزم بعض الملاحظات:
اولا ، ظللنا نستسهل طرح المبادرات والمشاريع (التنظير) بكل جدية وحماس ، ولكن عندما ياتي دور الممارسة العملية، بتنزيلها علي ارض الواقع في شكل برامج تطبيقية، يدب الخلاف والتباين والتنافس غير المحمود ، وكل ذلك مشمول بقصر النفس واستعجال المنجزات ، والاسوأ الركون للاستسلام عند اول منعطف للعقبات ، ومن ثمَّ (فركشة) المبادرة او المشروع وتفرق اصحابها ايدي سبأ، او احتكاره لدي اقلية بعد تجييره لمصلحتها ! وهو ما يبيح التساؤل حول قابلية النخب السودانية للعمل المنظم ، والتماس الروح الجماعية في العمل ، قبل الانخراط في العمل نفسه؟ ولو صح ذلك ، يمكن تقليل اثره ، بوضوح الاهداف وتحديد الادوار وكيفية شغلها؟ والتوافر علي آليات متابعة ومراقبة وتقييم ومراجعة ومحاسبة متفق عليها مسبقا. اي كجزء من منظومة العمل ، وليس لها صلة بشخصنة القضايا او تصفية الحساب او التنافس غير الشريف . والاهم من ذلك ، ان يتم التعامل مع الفشل في حال حدوثه ، كخطوة في طريق النجاح ، إما باجتراح وصفات مغايرة او بذل جهد مضاعف ، وذلك بعد معرفة اسباب الفشل ، وليس اعتباره خطيئة او عيب يدفع للخجل او ترك العمل.
ثانيا، ليس هنالك ضرورة لطرح كل المبادرات طالما هنالك اهداف متفق عليها، ووسائل مطروحة للنقاش، وذلك كسبا للوقت ، الذي يلعب عنصر فارق ، في ظل اوضاع تزداد تردٍ يوما بعد يوم . اي بدلا من استهلاك الزمن في الوصول للتطابق بين المبادرات او طرح المزيد من المبادرات لكل جسم واتجاه ، ان تُعتمد هذه المبادرة المشتركة ، ويضاف لها ما يكملها ويجعلها ملبية للاهداف المتفق عليها ، وهي مدنية الدولة والتحول الديمقراطي.
ثالثا، ما ذكر اعلاه ليس من الصعوبة بمكان ، اذا ما كانت هنالك قابلية ليس لتقبل الراي والمشروع الآخر ، ولكن الانخراط فيه اذا ما اثبت انه الاقرب للمصلحة العامة او احراز مكاسب اوفر لصالح البلاد والعباد. اي الموضوع ليس موضوع تنافس بين المبادرات او شرف المحاولة لكل تجمع او كيان ، بقدر ما هو امتلاك زمام المبادرة لاخراج الوطن الي بر الامان .
رابعا، عدم التعنت في المواقف واكتساب قدر من المرونة ، بحيث في الوقت الذي تحسب فيه المكاسب، يوضع في البال كم المخاطر واحتمالات الخسران . وهذا ما يتعارض مع فقه الثوابت والتمسك بسقف المطالب دون زحزحة . وهذا بدوره يتطلب توسيع منظار الرؤية للمصلحة العامة وتنويع آليات الوصول لها. ولن يتم ذلك من غير اعادة تعريف للمصلحة العامة ، وفك ارتباط التطابق بينها وبين مصلحة الحزب والايديولوجيا والعقيدة والتنظيم ومصالح القادة ومطامحهم . وليس المقصود من ذلك تمييع القضايا او ممارسة برغماتية انتهازية ، ولكن ما نعنيه هو التخطيط للوصول للهدف ، بعدد من الوسائل والتكتيكات ، مع الاستفادة من الخبرات والاخطاء الماضية. وفي هذا السياق علي لجان المقاومة عدم الاعتصام بتصوراتها ومواقفها ورفض كل مساهمة غض النظر عن موضوعيتها ، او الانفراد بتحديد الوسائل والاهداف دون مراعاة لبقية شركاء الوطن ، او تماسك جبهة المعارضة. لان ذلك لا يصب إلا في صالح لجنة الانقلابيين ، الذين يستثمرون في التناقضات ويبثون الفرقة والشتات بين المكونات ذات المصلحة في التغيير.
خامسا، لابد من تجديد المقاربات للاجسام والكيانات والاحزاب والاجهزة والمؤسسات ، بعد مرور اعصار الكيزان علي البلاد ، واحالة نهارها ليلا دامس ، وفرص نهوضها دمارا يحتاج معجزة لمعالجته! بمعني علي الاحزاب ان تراجع دورها ووظيفتها بما يتلاءم والمستجدات ، لان ظروف نشأتها واهدافها وتصوراتها السابقة يبدو ان الاحداث تجاوزتها ، وهو ما يهدد بخروجها من المشهد السياسي علي مستوي الاقناع والتاثير ! واكبر دليل علي ذلك ان اجسام جديدة كتجمع المهنيين ولجان المقاومة ومنظمات المجتمع المدني غير السياسية ، تكاد تكون سحبت البساط من الاحزاب السياسية ، بسبب تجاوبها السريع مع حاجات الثوار ومتطلبات طيف عريض من المجتمع . وزاد الطين بلة مشاركة احزاب الهبوط الناعم في السلطة، واستجابتها لتوازنات السلطة علي حساب شعارات الثورة ومطالب الثوار ، وهو ما لطخ سمعتها وحرمها التعاطف (إلا باكراه) وشكك في جدواها.
وترميم هذا المصاب ، يتطلب رؤية ووظيفة وقيادات جديدة لهذه الاحزاب ، بحيث تكون قادرة علي التجاوب مع متطلبات الثورة واقناع الثوار وجمهرة السودانيين، بدورها واهليتها لهذا الدور. اما اصرار ذات القيادات علي تصدر المشهد ، واعادة انتاج ذاتها بالتمسح بشعارات الثورة ، وتقديم اعتذارات هوائية لزوم اعادة الانتاج، فهذا ما يزيد من الشرخ مع القوي الثورية الشبابية ، ويسبب المزيد من تآكل المصداقية الحزبية. عكس تقديم هذه القيادات مع الاعتذار لاستقالاتها، فهذا من ناحية، يرد الاعتبار لهذه القيادات علي مستوي الاحترام . ومن ناحية ، يضع مرتبة القيادة في مكانة لائقة ، تفرض علي من يتولاها مسؤولية كبيرة ، تجبره علي بذل اقصي ما عنده ليستحقها. ومن ناحية ، ادب تقديم الاستقالة يشكل تطبيق عملي لاعادة تعريف المصلحة العامة السابق ذكرها . اما الاصرار علي الكنكشة القيادية بعد كل هذه الاخطاء كما هو حادث اليوم ، دون وضع اعتبار لظروف المرحلة او حتي غيرة من حجم التضحيات التي يقدمها الثوار بارواحهم (اعادة تعريف لمعني المصلحة العامة في ارقي تجلياتها). فهو يدل علي انه ليس هنالك استفادة من الاخطاء او محاسبة لمرتكبيها، هو ما يعني قبل كل شئ ان قيادة احزابنا اكثر تقليدية ومحافظة وتكلس شأن اي سلطة استبداية. وهل الاستبداد في محصلته شئ آخر غير الحرص علي بقاء الاوضاع علي حالها ورفض التغيير؟
اما في المقلب الآخر ، فالجيش وجهاز الامن والشرطة ، عند مقاربتها بتصورات قديمة تجد امتدادها في تجربتي ابريل 85 واكتوبر 64 ستصطدم بحاجز تحولات جذرية تعرضت لها هذه المؤسسات ، وليس هنالك مقياس لدرجة ترديها وانهيارها ، اصدق من وجود قوات الدعم السريع كتشوه او مسخ افقد هذه المؤسسات احترامها ! .
بمعني توقع انحياز الجيش بهكذا تركيبة وعقيدة ومهام (اصبح مرتبط مصلحيا بالسلطة) للثورة والتغيير مجانا ، هو من باب الامنيات! ويصح ان تركيبة السلطة تضع جهاز الامن سابقا والدعم السريع آنيا ، كحلقة اضيق (ذات موثوقية) واكثر ارتباط بالسلطة واستفادة منها ودفاعا عنها ، لانها اقرب لكونها ضمير سلطة فاشية متعفنة. إلا ان ارتهان الجيش لقيادته ، جعله يلعب دورا مؤثرا في تحصين السلطة. والحال كذلك ، ما يجعل عملية التغيير اكثر صعوبة ، انه ليس هنالك وسيلة لاستخلاص السلطة من قبضة المجرمين الانقلابيين ، الذين لا يتورعون عن سفك دماء الشعب عن آخره ، إلا بتجريدهم من وسائل قوتهم . وهو ما لن يمر إلا عبر فك ارتباطهم بالمؤسسة العسكرية ، ورد الاخيرة الي معسكر الشعب والوطنية . والغريبة ان البرهان رغم غباءه المعهود منتبه لذلك ، ولذا يعمل بكل اسلحته علي بث الفتنة بين الثورة والمؤسسة العسكرية ! .
ومن هنا علي اي مبادرة ترغب في النجاح وتخليص البلاد من مصير قاتم ينتظرها ، ان تحدد اصل الصراع وآلية كسبه . وبناء علي ما ذكر اعلاه ، اصل الصرع هو صراع وجودي بين الثورة واللجنة الامنية علي كسب ود المؤسسة العسكرية . وفي هذا الصراع الثورة تغازل العسكر بسلميتها ، لتحريك ما تبقي لديهم من نزعة اخلاقية ووطنية ! . واللجنة الامنية ترتكز علي الترهيب والترغيب وشراء كبار الجنرالات في المؤسسة العسكرية ، وعلي تلبية اجندة الداعميين الخارجيين ، وشراء ولاء مرتزقة الدعم السريع وافراد جهاز الامن .
واذا صح اعلاه ، يترتب عليه ، ان اي مبادرة يجب ان تعمل علي جبهتين ، اولها ، اقناع الثوار بمتطلبات العمل السياسي القائم علي الحوار ، واهمية تقديم امتيازات للمؤسسة العسكرية في مشروع التغيير ، حتي تجد مصلحة للمشاركة فيه ، ومن ثمَّ دفعه الي الامام وحمايته من الاجهاض مستقبلا . وثانيها ، التواصل مع المؤسسة العسكرية ، واقناعها بتغيير كثير من قناعاتها المغلوطة عن اهمية مدنية الدولة ، وعدم مساس ذلك بهيبة او دور المؤسسة في هكذا دولة ، وان الامن القومي الحقيقي هو حماية تماسك الدولة من التهديد لها بواسطة احد مكوناتها (حتي لو كانت المؤسسة العسكرية نفسها!!)، او السماح لاختراقها خارجيا باستباحة ثرواتها وموقعها، او تعريض حياة مواطنيها للخطر (ولو بتوظيف تلك المؤسسة نفسها ضدهم) . والمهم ، ذلك المسار لن يكتب له النجاح دون التخلي عن لغة التخوين المتبادلة او التقليل من شأن كل طرف ، او تجاهل موازين القوي ومراعاة هشاشة الدولة في كافة المناحي . لذلك ليس صحيح ما يروج له البعض ان في مقدور الثورة (منفردة) الانتصار الجذري بضربة واحدة ، وإلا كيف يتم ذلك؟ وما سبب الانتظار ، ودفع كل هذه الاكلاف ، ان لم تكن الغاية انحياز المؤسسة العسكرية؟! والاهم ان مشاكل وتعقيدات الدولة من الصعوبة بمكان ، بما يحتاج لتكاتف الجميع ، ومن هنا اهمية دور المبادرة في انجاز مشروع قابل لمشاركة الجميع ولو في الحد الادني .
وصحيح ان الاحباط التاريخي والخذلان الراهن من المؤسسة العسكرية ، يجعل اي محاولة لمد جسور الثقة معها ، عملية بالغة الصعوبة ، إلا ان المصلحة العامة المراد تاسيسها علي اسس جديدة ، تستحق شرف المحاولة ، والضغط علي الجراح ، بل والهتاف باسم المؤسسة العسكرية في المواكب ، وصولا لبلوغ توليفة حكم ، تجعل للعسكر نصيب فيها ولو مرحليا ، حتي تستقيم العلاقة المشوهة بين المدنيين والعسكريين ، وتستقر الدولة المدنية علي اسس راسخة مجتمعيا ، وعندها فقط يمكن خروج المؤسسة من السلطة ، مع ضمان عدم عودة دائرة الانقلابات للدوران من جديد ، بعد اكتفاءها بدورها المعهود في النظم الديمقراطية. وهذا ما لا يمكن تقبله، إلا إذا اتفقنا ان عملية بناء دولة مدنية ، مشوار طويل ويحتاج لفترة لا تقل عن عقد من الزمان ، اذا ما كنا محظوظين ولدينا نخب مخلصة لهذه الدولة ، وتم التخلص من تشوهات الدعم السريع والحركات المسلحة بطريقة سلمية.
وتاسيسا علي ما سبق ، يكثر الحديث عن الدولة المدنية وكانها منجز كامل يعيقه فقط حكم العسكر! ولكن ما يجب التاكيد عليه انه ليس هنالك امكانية لقيام دولة مدنية ، من دون التوافر علي ثقافة مدنية يكتسبها مواطنون مدنيون . اي الدولة المدنية والحياة المدنية تحتاج الكثير للقيام به ، وما السعي الجاد للتخلص من الحكم العسكري والانظمة الاستبدادية ، إلا لانه يشكل المدخل الاساس للولوج اليها ، ومن دون ذلك يستحيل الوصول اليها . ولكن ما بعد ذلك يعتمد علي ، مدي تشبع النخب السياسية والفاعلة في الشأن العام بمتطلبات الدولة المدنية ، ومن ثمَّ تقديم نموذج يحتذي لبقية المواطنين . وفي هذا الاطار يجب تخليص سمعة الدولة والثقافة المدنية مما لحق بها من سمة سيئة ، كالفوضي والتحلل القيمي والانفلات الامني ، وغيرها مما يلصقه بها اعداؤها والمتضررون من ترسيخ قيمها في البلاد . والاهم ان يتم ذلك بكل تواضع واسلوب جذاب . وفي هذا السياق يمكن استلاف والتصرف في مقولة منسوبة لعلي بن ابي طالب رضي الله عنه (ادعو للمدنية بسلوكياتكم وليس السنتكم) .
واخيرا
حالة الانسداد الراهنة تتطلب طروحات واساليب عمل مغايرة ، للاطروحات والاساليب التي قادت للانسداد من كل الاطراف ، وهو ما يدعو اما لتقديم خطاب مغاير او قادة مختلفين ، لا يتمتعون بالرؤية الثاقبة والدراية بمشكلات البلاد فقط ، ولكن ان يستصحب ذلك قدرٍ عالٍ من التسامح والتفكير في المستقبل . ودمتم في رعاية الله .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..