
نداء النجوم
(1)
حياة البادية عزّ أن ينالها خيال. اسماء البشر فيها ترمز لماضٍ تليد، وتهفو للمستقبل البعيد .. الاسمُ وَسمٌ .. رمز يلهم رؤى وفكرة .. يصوغ حلماً .. يبرق نحو ويكشفُ ، لسيد الاسم، آفاق القادم في سجِل الزمان .. متفرد قطعاً؛ لذا من السهل، كشربة ماء، التقاط الاسم الغريب والكنية المستلفة من خارج فضاء البادية المنطوية على ذاتها.
أخترتُ في هذا المقال، أن َ آخذك، عزيزي القارئ، في رحلةٍ آمل أن تكون خفيفة على نفسك، نسوح فيها خلال عالم الاسماء والكنايات في هذا الجزء من بادية كردفان الواسعة، وهي بادية الكبابيش، التي تقع في الجزء الشمال الشرقي من ولاية شمال كردفان. هنا ثمة تفرد يلمع، خيط منسوج في قُماشةِ تمتاز بها البادية عن الحاضرة.
ترن الأسماء رنيناً ينسجم مع طبيعة وحركة وإيقاع الحياة. وقد يروقُ لك أن نحدثكَ عن الطريف والثري بالمعاني من الأسماء . وأنت لابد تعلم أن قدماء العرب كانوا يطلقون على ابنائِهم اسماء خشنة ومهيبة كالقضنفر وعكرمة والليث وما شابه .. وكان أعجبني اسم “ابو النَجم مُلاعِب الأسِنـَة” صاحب المتنبئ. وقيل إنّ هدف العرب القدماء بالأسماء الخشنة تلبيس ابنائهم هيبة وخشونة، وهو عكس ما يفعل العرب المحدثون.
من لطائف الحكايات و من كتاب “الهَقَنَبَة” أي المزاح الذي يرش به البداة رمال حياة الصحراء القاحلة. زعموا أن رجلاً خاطراً “مسافر” مرّ بهم، فسألوهُ عن اسمه وإلى أين يقصد؟. فرد عليهم: (اسمي الكاكليت، وكنت عند عمي ود كاسر الهِيش وهسّاع في دربي قاصد ديار جدي ود كوع النمر) فسألوه مازحين: (باقي آ زول، أساميك دي صِح صِح ولاً بِتخَوِفْ فينا؟) ترى هل كانت فعلاً اسماء حقيقية أم أراد أن يثير فيهم الرهبة بتضاريس حروف أسمائه ووقعها المهيب؟ وفي شرق البادية تمتد مضارب “اولاد عُقبَة” ..
ولاحظتُ أن مؤلفي كتب القبائل والأنساب حين يمرون بذكر هذا الفرع يسارعون ، دون داعٍ، لنفي علاقة أولاد عقبة بالقائد المسلم عقبة بن نافع. رغم أنه ، على حد علمي، لم يدّعِ أحدٌ من أولاد عقبة صلة بعقبة بن نافع. وهذا بابُ يؤدي لكواليس “الأنساب” في سودان وادي النيل لا يهمنا أمره في هذا المقام.
(2)
حدثني عبدالله “القويضي” أنه سمع عن رجل كبير السن بتلك الجهات يُكنى ب”إيزنهاور ود بله” .. تأمل حوار الحضارات في هذا الاسم البديع.. وللرجل عصبة وعشيرة كبيرة يُشار إليها.
ولو قدر لك أن تزور تلك الربوع وسألت عنهم فسيدلونك عليهم بلسان بدوي مبين: (أَخطِم داك الرهد من صَبَاح واتقدم محل ما الليد تنشَبِك في الوادي بتلقى فَرِيق اولاد إيزنهاور.) والعبارة – لغير الناطقين بها – تعني أن تأتي الرهد من جهة الشرق واللِّيد هي غابة ممتدة مثل امتداد اليد ولذلك سميت. واذا التقت اللِّيد بالوادي فإن نقطة الملتقى تسمى المُشبَك وهو ما يسميه أهل الخرطوم وما جاورها من المدن والتخوم بالمُقرن. قال صلاح عبد الصبور يمدح ملتقى النيلين: ولا هذي ولا تلك/ ولا الدنيا بما فيها/ تساوي ملتقى النيلين/ في الخرطوم يا سمرا. ليس لإيزنهاور البدو بطبيعة الحال علاقة بالأمريكان والسي آي أيه ..
وأغلب الظن أن والده حين أطلق عليه هذا اللقب، إن صحت الرواية، قد سمع بالاسم من الراديو على أيام صعود اسم الرئيس الأمريكي دوايت إيزنهاور أثناء الحرب العالمية الثانية، فأعجبه الاسم وربما أحب البطل الأمريكي فسمى/لقّبَ به ابنه الذي حمل الاسم من بعد. ونتصوّر أن تمر الأيام والشهور والسنين ويصبح الابن ايزنهاور والداً وسيكرم جده بله بتسمية مولوده عليه فيصبح لدينا بله ازينهاور بله. فتأمل كيف سيدخل العرب بطل الأنجلوساكسون في أمرٍ عويص .. بله من أمامه وبله من خلفه.
(3)
في درب تقصي سيرة الأسماء والكنايات وقفنا على اسم يتوشح مهابته من التاريخ. إنه ” كتشنر ذا لورد اوف خرطوم “. بين جماعة من لاعبي”الضُمَنه” كان يتوهط من يُلقب بــ”كتشنر” وقد سار عليه اللقب حتى نسي الناس او كادوا اسمه الأول . . من الواضح أن للقب علاقة بالشارب الكثيف الذي يغطي وجه الرجل كما يبدو اللورد كتشنر في صورة الكتاب المدرسي. ونضيف ميزة اشتهر بها حامل اللقب وهي شغفه بقتل “النومات” في يد منافسيه من لاعبي الضُمَنه الأخــرين. في وجود اسماء دوايت ايزنهاور والشريف حسين وربما سياسيين آخرين يزنُ بين أصوات الشعر البدوي الدوبيت – اسم “طــارق عزيز” وزير خارجية عراق صدام حسين. وهنا ليس في الأمر عجب، فقد شغل طارق عزيز الفضاء العربي زمناً ثم دالت دولته. ” وهي الأيامُ كما شاهدتها دولٌ/ من سره زمن ساءته ازمان” من قول ابوالبقاء الرندي يرثي أيام العرب في الأندلس. يلتقط شاعر بدوي ذات المعنى ويعمّق وجود الاسم في ذاكرة البادية الفطرية، هاكم بيت شعر موحي لحسن محمد دياب: بَرِيــــد نَغَمـــاً بِرِدُوا لِســَــانُو/ وبَرِيـــــد بَادِيتُو و َنِـــزول عُربَــــانُو/ انا، اليوم، قلبِي ما اتنـــكر عليهو وخَــــانُو/ سُلطان شَرق، وكان طارق عزيز فِي زَمــــانُو!
(4)
واشتهر بيننا من يُلقَب بـ(المُرشَح). كان لقباً فصار اسماً تسمى به حتى ابناؤه وأحفاده. حين تسأله مرشح ماذا ؟ فسيرد عليك: “مرشح الدائرة صِفِـر” وقصته وقصة الدائرة صفر كما حكاها لي : أثناء إحدى الانتخابات التي مرت بالسودان، وحين حسبناها اتضح أنها أقرب لأن تكون الانتخابات الأولى في العام 1954م بإشارة كونه شاباً حينها، وكانوا في الخلا مع البهايم و(الانتخابات عَقَبَتنا علِي العرب .. ما حِضِرنا التصويت) وحين لم يصلهم أي مرشح ليعبِر عنهم وعن قَضَاياهُم، بلغة هذه الأيام، قاموا باختيار مرشح من أنفسهم، واختاروا مُحُمَد ود فضل المولى فسموه مرشحاً ..
وحين كانوا يُسألون عن رقم دائرتهم يردوا ضاحكين بأنها الدائرة صفر. سألته إن كان يذكر أول من أطلق عليه اللقب فردَ:” الزمن طال .. لكن اظنو المرحوم ابوريقة. وهكذا سارت عليه كنية المرشَح بدلاً عن اسمه الحقيقي، وأصبح مرشحاً مدى الحياة. لم يجد طريقه نحو الجمعية التأسيسية الأولى ولا الثانية ولا جميع البرلمانات التي تعاقبت على البلاد.. الصاحية منها ولّا النائمة .. ولم تسمع به حكومات تلك البرلمانات ولم يتسنّ له طوال هذه الفترة الطويلة الممتدة أن يتهم احداً بخرق او تزوير الانتخابات او ما شابه من جدل صفوة العاصمة.
(5)
وتقودني حكاية المرشح الراعي ومغزاها؛ إلى ما اعتاده ويكرره بعض كَتَبَة صحف الخرطوم. أعني حين يعيد أحدهم اكتشاف العجلة، فيخرج علينا سعيدآ متباهياً بإحدى مجازات الصحافة المكرورة والبائخة فيكتب ، ربما بعد أن تناول إفطاره بشية ضان كباشي او حمري قام على تربيته رعاة حاذقون. رعاة الضأن نفسه الذي سيتنكر له الكاتب في جملته القادمة: (هذه او تلك من البديهيات يدركها راعي الضان في الخلاء.) والعبارة ، في ظني، تنوء بالتعريض بالراعي وتوصمه بالجهل وتجعله مقياساً لمداه البعيد .. في الواقع الراعي هو المنتج في بلد لا تنتج أكياس بلاستيك، وكونه بعيداً عن اهتمامات الصفوة وعلومها لا يعني بالضرورة جهله فهو عليم بما يليه من أسرار مهنته، وكلّ ميسر لما خلق له. إنما هذا افتقار للحساسية الثقافية لصفوة مدمنة للفشل في مجال عملها بشهادة كبيرها. أعني الدكتور العلامة منصور خالد. وهي إلى ذلك صفوة عميقة الجهل بمسؤولياتها، لا راعي الضأن العارف بأسرار مهنته لا ينقصه سوى المقدرة العجيبة على الادعاء الزائف بعلومِ لا يطابقها عمل، وهذا في النهاية علمُ لا ينفع يُستعاذُ منه. مسكين راعي الضأن في الخلاء؛ يلقاها من كَتَبة الخرطوم ام من رعاة الإبل الذين يطلقون عليه لقب “كبسور” .. يغيظونه بعجزه عن مجاراتهم في الحركة ل”الشوقارة” أيام موسم الرِشاش الجاف والمرهق بهذه الأهزوجة الساخرة: كَبسور ابو سِفيريكَة/ أبشِر بالهلاك/ الرِشاش جاييكَهْ.
(6)
الاسم قد يُحملك ما لا طاقة لك به .. هنا طفل صغير، عمره ثمان سنوات. يوشح باسم طويل ومثير للانتباه .. الشريف حسين الهندي .. هكذا. ستجده في خلائه النائي مع أغنامه. ها هو بين يدي القارئ الكريم ليُطالع وجهه البريء وهو ينوء باسم اسطورة السياسة السودانية الشريف حسين الهندي، ذلك الرجل الذي لم يرحل حتى ترك في الدنيا “دوياً كأنما تداول سمع المرء أنمله العشر.”.. ثارت في نفسي روح التقصي عن سر وصول الاسم الى هذه البوادي الوادعة. هذا اسم يروح ظهور وزوال هناك، وإذا هو هنا إنسان من لحم ودم يتجول في الفيافي. وجدت الصلة التي جعلت جده يُصِر على توشيح حفيده بهذا الاسم. إذ حكى الجِد عن انتمائه للحزب الوطني الاتحادي (كان هناك حزب بهذا الاسم) وقصَّ عليّ الظروف التي ساقته للعاصمة ومشاركته – أي جد الفتى – بالصدفة في إحدى مظاهرات انتفاضة ابريل 1985م. تلك الأيام حين هاج الشعب وماج ضد سلطة النميري هاتفاً “في السادس المنصور من أبريل نبتدئ الحساب*. سألتُ الشريف حسين الصغير عن المدرسة، فرد بغير اكتراث :” كُل سنة بقولو لي بنوديك المدرسة .. وذاتو مدرسة قريب ما في “. سألته ماذا يعرف عن الرجل الذي يسمى عليه فرد ضاحكاً “عيْل كان شيخ جدي “.
(7)
على أيام الطلب في الجامعة، عَابَ أحد زملائنا على صديقه أن محبوبته “اسمها ما كوراكِي” أي لا يمكنه أن يِكُورِك (ينادي) عليها وسط جمع من الطلاب لأن اسمها “بلدي ما اسم حديث وما برستيج “. يقول صديقنا الهازل وبنات الجامعة (سِين) أسمائهن : سماح، سناء، سارا .. وهكذا. وقد نوه شاعر بدوي آخر بأسماء بنات العاصمة قائلاً: بنات العاصمة القومية (سِين) اسماهِن/ كواكب ضوَّن الأرض، البِحور، وسماهِن. بَلومات صي سكاكَ الغــَردّن فوق مــاهِن/ بَشُوف روبة النِعــام نُص الحجم قاسماهِن. جدير بالذِكر أن من أكثر اسماء النساء تداولاً في بادية الكبابيش، هي اسماء ذات دلالة خاصة بالثقافة والبيئة البدوية مثل ام رحيل، ام ظعينة، شيخة، ام عِزين، أم حقين .. الخ.
وقد شدّني وأثار حماسي من الأسماء اسم (الاسكندر) ورسخ عندي اعتقادُ طريف بأن أياً من تسمى به سيكون عظيماً وحشدتُ حجتي وضربتُ مثلاً بالاسكندر الأكبر – سيد الاسم – فالإسكندر فلمنج منقذ البشرية مكتشف البنسلين، الإسكندر سولجستين الراوي الكبير، الإسكندر بوشكين أمير شعراء روسيا، وأخيراً المفكر الفرنسي الإسكندر كوجيف الداعي ل”دولة عالمية متجانسة” وهي دعوة متقدمة على خرابيط صراع الحضارات ونهاية التاريخ التي حمل رايتها وروج لها الامريكيّان صمويل هنتغتون و فرانسيس فوكياما.
قررتُ متى رزقت بابن أن اسميه الإسكندر، ثم قرأتُ لابن الصحراء إبراهيم الكوني روايته البديعة “أنوبيس”. وفيها عانى بطل الرواية من الاسم الغريب الذي أطلقه عليه والده، فصرفت النظر عن قراري، وإن كان لا يزال في النفس من اسم الإسكندر شيء!
*كاتب وباحث سياسي