أخبار السودان

طريق الإغتسال والغفران

خارج المتاهة

محمد عتيق

حكمت البلاد عقوداً من السنين ، ساد الدين ‏خلالها شعاراً ونشيدا ، أزياءً ومظاهر .. تحولت المؤسسات الحكومية إلى شركات خاصة وقطع غيار للأعوان والمنسوبين ، والدولة كلها مالاً سائباً ‏يرتع فيه الأقارب وأركان الحكم ، ‏وانطلق الفساد سوساً في كل الاركان والمسامات ، ‏فأنا من قوم يعادون الملكية العامة بل ولا نطيق للدولة مسؤوليات تجاه الشعب والمجتمع ، حزب عقائدي وليس مجرد انقلاب عسكري ، وهذا يعني أنه ‏من القوي الحديثة التي تعرف أين تتكون وتكمن أرواح التمرد والثورة ؛ مصانع العقول في مؤسسات التعليم ، ومصانع التطلع للحياة ‏الكريمة في النقابات والتنظيمات الديمقراطية ، ثم ما يعينهم أجمعين في المؤسسات الصحية (دوائر العلاج والوقاية) ، فكان لابد من تدمير كل تلك المؤسسات ؛ أولاً ‏بتفكيكها وإيقاف رعاية الدولة لها مادياً ، ثم جعلها مجالات لاستثمار الأعوان القادرين .. ‏وبذلك جففنا منابع الوعي والإستنارة وبؤر الثورات والانتفاضات ، ولا بأس طالما ان ابناءنا/ عائلاتنا يستطيعون التجول في الخارج تعليماً وعلاجاً واستمتاعاً ببناءات واختراعات الآخرين ، ومتع الحياة الدنيا ..

‏وسيادة الدين – كما اسلفت – كشعار ونشيد وطقوس في الأزياء والمظاهر تساعد على تنفيذ سياساتنا المذكورة ولكنها تصطدم بأي جزء أو إقليم ‏في البلاد لا ينسجم مع هذا (الشكل) من الدين ، فعملنا على تصعيد الحرب الأهلية السياسية في جنوب البلاد إلى حرب جهادية (لنصرة الدين) ، لانه سلاحنا الماضي ‏في السيطرة على العقول والأفئدة ، فدفعنا ذلك الجنوب دفعاً نحو الانفصال ..

‏وكان ظهور البترول وإنتاجه خير معين لنا في الإستزادة من تلك المباهج ، لننطلق اكثر في سياسات (التمكين والتجنيب) والاستثمارات الخارجية (لنا ولتنظيمنا) والتطاول في البنيان وفي الزوجات .. ولتأمين واستدامة كل ذلك عملنا علي تقوية أسوارنا – أسوار القصور – في مواقع الحكم والسكن ‏بأجهزة ‏الأمن والمليشيات الظاهرة والنائمة والقوات النظامية وتخصيص الجزء الأكبر من الميزانيات العلنية ، وبعض الخفية ، لها ، وأطلقنا غول القبلية والجهوية كأسوار ‏إضافية تفصل بين أبناء الشعب بجُدُر سميكة محكمة ..

‏في غيبوبتنا تلك ، كان هنالك جيلٌ جديدٌ ينشأ ويتكون ، جيل الذين كانوا أطفالاً عندما جئنا والذين وُلدوا في عهدنا ، كان يتخلق في ظل أهازيجنا الدينية (الكاذبة) وإيقاعات التي أسميناها ساحات الفداء ، وصدى الأقوال الداجنة للشيوخ والدعاة المدجنين ، يخرج في الغسق مغمض العينين ، خاوي البطن لمدرسة متهالكة البنيان ، بائسة المناهج ، ومعلمين ينوءون تحت اثقال الحياة وتكاليفها .. تمتد سنوات عمره الغضة بين مطاردات التجنيد الإلزامي لمحاربة الأشقاء في جنوب الوطن والزحف في الصفوف اللعينة ، محروماً من رؤية المصانع التي تهدر بالإنتاج والمزارع المثمرة والحدائق المصفوفة بالورود والألعاب ، والطرق المرصوفة تربط أطراف بلاده ، جيل لم ير في هذه الدنيا سوى البؤس والأوساخ في كل شيء ؛ المدن قريً قاحلةً ، وسائل الإعلام والتثقيف خاويةً وكئيبة ، ولا يجد في الدين الجميل سوي الوعيد والإتهام والملاحقة .. استوى الموت عند هذا الجيل مع الحياة : الموت استشهاداً في سبيل وطن لائق او الحياة كما ينبغي بكرامة تحفها الحرية والرفاهية التامة .. وبعد محاولات مضنية ، انتفض اليوم في ما يبدو لي انها انتفاضته الحاسمة في وجهنا ..

استعراض هذا البانوراما اليوم أوقد ثقاباً عجيباً في دواخلي .. فمهما كانت سيرتي وصفاتي الظاهرة إلا انني إنسان ينطوي على ضمير قابل للاستيقاظ والعودة ، العودة إلى حقائق الحياة وأنها الى زوال ولا يبقي فيها الا الأثر طيباً او خبيثاً ، وان كل الذي اكتنزناه انا ورهطي هو من أسباب الشقاء الواقع علي هذا الوطن وسكانه ، والعودة أيضاً الي صحيح الأديان يملؤني ندماً وحسرة ؛ تدير امام ناظريَّ شريطاً يعج بالضحايا وبالفرص الضائعة علي امتداد سنوات التيه ، فتشتعل الحقيقة ناصعةً امام الوعي : الطريق الوحيد الذي يمكّننا من العبور الي الضفة الاخري ، الضفة الخالدة نظيفين قريرين هي : ان نتنازل عن الحكم وعن الذي اكتنزناه داخل وخارج القطر ، وان نخضع طائعين للحساب في الدنيا ليكون الفوز والنعيم في الآخرة الخالدة ، نعم ، هو الطريق الوحيد لللإغتسال والغفران.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..