مقالات متنوعة

سين وجيم ثورة 19 ديسمبر السودانية

عاطف الحاج سعيد
يخرج الآلاف من السودانيين بمختلف فئاتهم العمرية في مظاهرات يومية تتوزع على أنحاء الوطن الكبير منذ التاسع عشر من ديسمبر ضد نظام ما يسمى بالمؤتمر الوطني، يخرجون بعزم ويقين وشجاعة بائنة، لكنهم حائرون ويتساءلون:
–       هل ستُسْقِط المظاهرات الحالية الحكومة بصورة مباشرة؟
الإجابة التي قد تبدو مُقْلقة بدرجة ما، هي أن:
–       لا
–       إذاً لماذا؟
وفقاً للتجربة الإنسانية الحديثة في تعاطيها مع النظم الديكتاتورية لكي تنجح مظاهرات/احتجاجات/ثورات ما في تغيير شامل لنظام سياسي قائم لابد ان يتحقق واحد من السناريوهات التالية:
السناريو الأول: أن يصل النظام القائم إلى قناعة بأن استمراريته لم يعد لها جدوى ويقوم بتسليم الحكم لحكومة انتقالية تشكلها قوى الثورة مثلما حدث في ثورة 25 أكتوبر 1964 السودانية عندما سلم الجنرال إبراهيم عبود الحكم لمجلس انتقالي أو مثلما حدث في تونس في العام 2011 عندما نطق زين العابدين بن علي بجملته الشهيرة “لقد فهمتكم!” ثم هرب لتتولى القوى الوطنية تسيير شؤون البلاد إلى حين انعقاد الانتخابات، لكن من المؤسف أن هذا السناريو غير قابل، كما يبدو، للتحقق في الحالة السودانية الراهنة وذلك لأن البشير لا يبدي أي استعداد لتسليم السلطة بسبب سيف الجنائية المسلط على رأسه وبسبب بطانته القريبة التي تصور له الأشياء على غير حقيقتها بسبب رغبتها في بقائه حفاظاً على مصالحها واستمراريتها، وبسبب أن كثير من دول المنطقة ترغب في بقاء البشير لأنه أفضل من يحقق لها أجنداتها حتى على حساب مصالح السودان الوطنية ومصالح شعبه.
السناريو الثاني: أن تجد المظاهرات/الاحتجاجات/الثورة سنداً عسكرياً ينحاز لها في اللحظات الحاسمة، سواء من القوات المسلحة النظامية او من قوة متمردة قاهرة وهو غير متاح حاليا، بسب ان القوات المسلحة السودانية اضعفت بشدة خلال سنوات الانقاذ وأوجد البشير قوات موازية ومناظرة لها نسبياً في القوة بهدف تحييد تأثيرها في مثل هذه الاوقات (تحويل جهاز الامن الى قوة مقاتلة وتكوين قوات الدعم السريع). كما ان القوة المتمردة على الحكومة (حركات دارفور المسلحة والحركة الشعبية شمال) فضلت ان يتم التغيير مدنياً لان تدخلها قد يفشل الحراك الشعبي تماماً ويمنح الحكومة مبرراً لنفض الغبار عن خطاب التخوين والتآمر مع الأجنبي ويحول بذلك المدنيين داخل المدن الى اهداف عسكرية.
–       إذا ما فائدة المظاهرات إذا كانت لا تُفْضِي إلى التغيير مباشرةً؟
الفائدةُ الأولى التي تحققت فعلياً هي كسر حاجز الخوف من مواجهة آلة البطش الحكومية وتماسك الصفوف، فقد أصبحت المواكب تكبر كل يوم، أصبحت الرغبة في الفداء والتضحية عظيمة، يخرج المتظاهر وهو يعلم أنه ربما لا يعود، ربما يصاب ربما يعتقل ويعذب لكنه لا يأبه. ترسخت قيمة ايثار الغير/المجتمع على النفس وهو مكسب عظيم ويشكل وقوداً لهذه الثورة، وقود لا ينضب!
الفائدةُ الثانية هي أن الحراك الثوري نجح في استقطاب أولئك الذين يقفون في المنطقة الرمادية، قبل المظاهرات كان هناك مترددون وخائفون ومحبطون ويائسون من التغيير، وهناك من انتسب للنظام في يوم ما لكنه فقد ايمانه به ويريد أن يتطهر عن طريق الغطس في نهر الثورة، كل هؤلاء اكتسبوا ثقة الآن وأضافوا مدماكاً لهيكل الثورة العظيم.
الفائدة الثالثة أن الشباب الذين أشعلوا الثورة بكل جسارة وحموها بوعي كبير قدّموا أنفسهم بصورة مختلفة عن التصور الشائع/الملفق/المتوهم عنهم بين الأجيال السابقة بأنهم سلبيين وانصرافيين ولا يُعْتّد بهم في أوقات الشدة، لكن الآن أصبح الجميع يثق بهم ويتقبلهم على ما هم عليه من شعر مجدول أو بنطال ممزق إذ لم تعد لمسائل المظهر أهمية، وهذا انتصار رمزي على ما سعت الإنقاذ لترسيخه عبر سنواتها بشيطنة الاختلاف وانتهاك الخصوصيات. ساهمت هذه الثقة في ردم الهوة بين الأجيال وانتفاء صراعها السلبي، فقد أصبح من المألوف أن ترى بين المتظاهرين الأب والأبن والبنت والأم معاً يهتفون بثقة ومحبة كبيرة ضد عدوهم المشترك.
الفائدة الرابعة هي أن المظاهرات خلقت الآن اجماعاً حول حتمية ذهاب النظام واجابت على الخطاب السياسي للإنقاذ المُخَوّف من التغيير بترديد اعلامها: “أنظروا كيف أصبحت سوريا وليبيا واليمن بعد خروج شعوبها في ثورات؟”، أجابت ثورة 19 ديسمبر على هذا الخطاب بإعلانها سلميتها منذ البداية وحافظت على هذه السلمية وحرستها خلال شهر كامل من المظاهرات المستمرة في كل مدن السودان، وتجنبت كل محاولات الحكومة لجرها لمربع العنف وحرص الثوار ألا تتضرر ممتلكات أي مواطن أثناء مواكب الثورة وألا يردوا على عنف السلطة إلا بالهتاف، وحتى العنف المحدود الذي رافق الأيام الأولى للثورة قد وجه بصورة أساسية لمقار المؤتمر الوطني، ورمزية هذا السلوك لا تحتاج شرحاً.
الفائدة الأخيرة هي أن الثورة قد أجابت بوضوح على سؤال ساذج واقصاءي عزفت عليه أوركسترا الاعلام الإنقاذي كثيراً حتى أصبح مصدر قلق لشرائح كبيرة من السودانيين: البديل منو؟  الثورة قدمت أجابتها بصورة عملية عندما تقدم صفوفها تجمع المهنيين السودانيين المكون من النقابات المهنية الشرعية الممثلة لكل فئات المجتمع السوداني وهو بطبيعة عضويته يضم علماء لا شك في صدق نواياهم الوطنية ولا شك في سلامة تأهيلهم الأكاديمي وفي خبراتهم العملية المكتسبة عبر سنوات طويلة داخلياً وخارجياً بالعمل في كبرى المؤسسات المحلية والدولية، وأصبح الجميع يثق في هذا التجمع وحلفائه وفي قدرته على تقديم البديل الوطني الكفء خلال الفترة الانتقالية.
–       إذاً ايةُ فايدةٍ تُرْجَى من هذه المكاسب؟
الفائدة ان كل هذه المكاسب المتحصلة ستحفز تجمع المهنيين السودانيين والاجسام السياسية المتحالفة معه لحشد السودانيين لتوجيه الضربة القاضية لنظام 30 يونيو وذلك عن طريق اعلان العصيان المدني والاضراب السياسي الشامل في جميع أنحاء السودان، وهو أمر يحتاج لتنسيق كبير وحوارات مستمرة مع الأطراف الفاعلة وكسب المترددين وتحييد المخالفين، وسيقود نجاحه حتما لانهيار النظام وسقوطه لأن دولاب الدولة سيتوقف وسيفقد النظام موارده وسينهار كل شيء، وعندها يصبح التغيير أمراً حتمي التحقق ولا يمكن تجنبه، وغالباً ما يتم عن طريق نسخة معدلة من السيناريو الثاني المذكور عاليه.
عاطف الحاج سعيد <[email protected]>
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..