أزمة السودان .. أزمة الأجيال وحمولاتها

جبير بولاد
.. عندما كنا نكتب ضمن التحليل لواقع الصراع السوداني سياسية واجتماعية و ثقافية ، كنا نركز في نهايات التحليل علي أن الازمة أزمة ذهنية جيلية وهرقت حروف كثيرة لدحض تلك الفرضية ووقفنا قليلا عند هذه الكتابات ، قارئين ومتأملين ، علها تكون حجة واجبة الإحترام والإعتذار حتي اذا ما تبين لك حجية المختلف معك و ليس هناك ثابت في الكون والثابت الوحيد هو المتغير في كل لحظة و آن .
.. المراقب لتجربة الممارسة السياسية في السودان بحياد تام خالي من التأثيرات التراكمية وبضمير يقظ سوف يهوله هذا الكم الهائل من التناقضات والنقائص التي يشيب لها الرأس قبل أن يعتل الذهن بسبب الدوار الذي يصيبه والحيرة .
وكنت قد كتبت قبل زهاء العشر سنوات مقال بعنوان (موبقات العقل الباطن السوداني) وهو متوفر في عدة مواقع اسفيرية وأعود وأجد ذات المقال وموضوعه هو المعبر تماما عن حالة ما نعيشه ويعيشه الوطن من جراء ذهنيات ما زالت تجتر ذات طرائق تفكيرها العدمي ومستعدة ان تعيد تجاربها الي ما لا نهاية في عناد مع التاريخ وبلاهة متكررة .
.. ابذل ذات المقال و ذات التحليل لهذه الذهنيات وبذات حمولاتها ، وأحيانا كثيرة جدا في واقعنا السوداني المؤلم تجد أن من الكرامة فقط ان تعيد ما كتبت فقط لو كان يجدي .
نص المقال :
(مُوبقات العقل الباطن السوداني)
.. بداية ، لابد من مدخل مفهومي ، تقريبي ، للأقتراب من هذا الموضوع، ولمعالجة هذا المدخل دعونا نستدعي المدخل التقني حول طريقة عمل الكمبيوتر وكما هو معلوم لدينا – بطبيعة الحال – أن لجهاز الكمبيوتر ذاكرتين أحدهما تدعي بالذاكرة العشوائية والآخري تدعي الذاكرة الأستدعائية .
الأولي تمثل مخزون ضخم جدا لكل معلومة صغيرة أو كبيرة حواها أو سيحويها الكمبيوتر ، والآخري تأخذ عند الطلب من المخزون وتقدم المعلومة المراد التعامل معها ، يتم هذا في أتساق وأحيانا يصيب هذا التنظيم خلل ما فلا تتم العملية كما هو مرجو منها. ولكن حتي في هذه الحالة بواسطة الخبرة يتم التوصل لنواة الخلل والعمل علي أصلاحها .
.. كان لآبد من استصحاب هذه المقدمة التقنية للأقتراب من توضيح واقع الحال السوداني في أضداد عقليه الواعي و الباطن .
فالعقل الباطن يمثل الذاكرة المخزونية الهائلة لكل الخبرات والتجارب البشرية ، ويتم التعامل مع أي حدث بواسطة أستدعاء هذه الخبرات للتعامل مع الحالة الماثلة ويقوم بهذه العملية العبقرية الغير مرئية العقل الواعي وهو كما شبهناها أعلاه بتقنية الكمبيوتر مع الفارق الكبير في الحس والشعور وخصوصية الخلق الأنساني .
.. نسوق هذه المقدمة في أطار بحثنا عن جذور المشكلات السودانية ، علي المستوي الثقافي والأجتماعي والسياسي ، بمعني هل لعقلنا الباطن وخبراته علاقة بمشكلاتنا أم لا ؟؟! .
للأجابة علي هذا السؤال ، يجب الأخذ في الأعتبار أن هذا التحليل يمس الشخصية السودانية في كافة أنساقها المختلفة ، المثقف ، النخبوي ، التقليدي ، القواعد ، القيادات ، الرموز ، …. الخ.
كثيرا ما يحار المرء في الأختلال الواضح في المواقف وردود الأفعال لأنُاس مؤثرين جدا في مسيرة الحياة الأجتماعية والثقافية والسياسية السودانية ، هذا الأختلال الذي لا تستطيع أن تفسره من خلال تتبعك لخطهم الفكري وتحقيقاتهم الأكاديمية وبذلهم للأفكار و الأراء النظرية التي كثيرا ما تتفق معها ، ثم في مفترق محدد ما تأتي مواقفهم غير متسقة البتة مع مسار هذا التتبع الذي كان من المفترض أن يقيهم عند المحن شرور المواقف المخاتلة والصادمة لكثير من الناس أصدقاء كانوا أم حلفاء .
في أعتقادي أو عبر فرضية هذا المقال تستطيع أن تصل الي أن جل السودانيين يفكرون بعقل ويمارسون بعقل آخر !! نعم ، العقل الواعي فيهم يمثل تقاطعات الوعي مع العالم والنشاط الفكري والنقدي ويحسم الأمور علي المستوي النظري لصالح منطق عقلاني محدد ، يتسق مع الحالة المعينة و لكنه ذات العقل يستند في محنه وكبريات أموره الي عقل باطن حاسم في النهائيات ، يحوي مخزون هائل من المواريث السالبة ، المعطونة في بؤر الخوف والطمع ، والعُقد ومركبات النقص ليكون في نهاية المطاف هو المسيطر النهائي علي المواقف عبر تاريخ طويل من التنكب والأخطاء القاتلة .
عقل يباشر معارك فكرية عالية ولكنه عند الهزيمة يستدعي مواريث العقل الباطن السالبة فيتقهقر ليحتمي بالعنصر والقبيلة والطبقة الأجتماعية . نحن نفكر ونعقلن الثقافة ونشحنها بالمفاهيم المتقدمة من أمثال المساواة والبحث الدائم عن العدالة الأجتماعية ونحميها بجهاز قيمي ضخم من الأمثال والأغاني علي المستوي الشعبي ولكن في أول منحني تاريخي تبرز سمات مخزون العقل الباطن ضد مكتسبات العقل الواعي ، فتتراجع المفاهيم وتتبدل المواقف ويتم التخلي عن الحلفاء في الموقف والفكرة أمام سطوة قاع مخزون العقل الباطن وشحنته الأجتماعية التي تبحث عن تمجيد الذات فينا في سياقات الأنا والأسرة والقبيلة ضد ذات القيم التي جهرنا بها في أزمنة وأمكنة آخري كانت النصرة المجيدة فيها للعقل الواعي في تقاطعاته مع عالم متحضر تقاس فيه المعاني والمقامات بأقترابها من قيم المساواة والحرية للآخرين والعدالة الأجتماعية وأحترام الآخر، بل نذهب أبعد من ذلك في الحنث بكل ذلك نصرة لعقلنا الباطني الموجه لمجمل خيبات حياتنا السودانية لنحتكر الفرص التي تميزنا فيما بعد عن الآخرين المشتركين معنا في نفس الوطن والقيم والوجدان .
..أننا نتحدث كرموز عن تحولات كبري في مفاهيم قواعدنا ولكن لا نريد لهذه القواعد أن تتقدم قيد أنملة ، لأن هذا يهدد مستقبل بقائنا رموز لهم ذات قدسية ، نريد الأحتفاظ بكل هذه المكتسبات لسلالتنا التي نمهد لها الطريق لتخلفنا في طريق “الرمة دون حراس” ولتمشي الهوينا علي رنين أيقاع خطواتنا المخاطلة ، والماهلة لسرقة أزمنة التاريخ واجياله من تعيسي الحظ من أبناء الوطن المشترك .
نتحدث عن الأستنارة ولكننا نبث أدخنة الظلام في أول أمتحان لواجبات الأستنارة ومطلبيتها ، نفشل في أن نكون المثال والقدوة والقيمة المعاشة روحا وجسدا وعقلا واعيا يهزم ويهذب ويشذب موبقات الباطن الموازي .
.. نحن أزاء عقلين متضادين ، لم نستطع تغليب المتقدم منهم والمستنير والحامل لقيم الحداثة والتنوير . أننا نتعلم كنخب أفضل تعليم ، في أرقي الحواضر العالمية ونعود لممارسة دور شيخ القبيلة والطائفة بكل نرجسية الذات القديمة المنبعثة من عقلنا الباطن الحاوي صغائر الفضائل والمكتنف بتخاليط التاريخ الأجتماعي السوداني ، حيث ظلامات الممارسة والتي تؤدي الي عدم الأعتراف بالقصور والفشل في أنجاز ثورة ثقافية حقيقية تخرج الوطن من كبواته .
.. يظل الحال هكذا الي أن نلتفت حقيقة لفض هذه الأنشوطة العويصة و التي أعقدت العقل السوداني من أنجاز بناء دولة تحوي أمة متجانسة ذات وجدان واحد مشترك يقينا شر التمزق و الحوجة الدائمة والتشرد والتعايش المُر مع كوننا شعب محتقر دبين شعوب الأقليم .. أي درك أسفل ساقنا اليه هذا العقل ذو الموبقات العظام ؟!!.
.. الي متي يظل عقلنا الواعي أسير ومكبل بسلاسل مخزوننا الباطني الآسن ، الذي يمارس علينا دوما خوفنا من بعضنا ، خوفنا من تبني مواقف جدية في مسار التغيير وأحداث الثورة السودانية الحقيقية ، ليست ثورة تغيير الحاكم في المركز فقط ولكن ثورة التغيير الحقيقي في أنعتاقنا من موبقات العقل الباطن الأجتماعية والثقافية والسياسية ، لابد من الخلاص منها تلك الموبقات التي آخرت قاطرة التحدث والحداثة في واقعنا السوداني . نحن لم نكن أبدا ضحية فقط للمؤامرة والمستعمر وأجندة الخارج ، نحن ثمرة طبيعية ومنطقية لطريقة تماهينا في مأزق عقلنا الباطن وأملاءته التي تتحكم في وعينا وفي أتخاذ قرارتنا الصايبة وما لم يتم الأعتراف بهذا الأمر ومعالجته فلن يبقي جسدا البتة أسمه السودان ليمارس حتي الترنح بين العقلين .
..أخيرا لابد من وقفة متأملة عميقا ، وقفة تنظر للأمام والخلف ، تنظر للخلف لتري ما قطعنا من شوط وتصحيح خطي هذا الشوط المقطوع بغير تدبر ولا حكمة ، وكذا لابد من نظرة للأمام لنري بعين العقل الواعي ماذا ينتظرنا من خطوات أعقدنا عنها مكوثنا الهزالي في تلك الموبقات من طرائق التفكير والممارسة .
هذه عبرة مستخلصة من حاضر واهن ، بلغ به الهوان أن نظام كامل يتداعي أمام أعيننا ، بعد أن جرد الوطن من أي فضيلة وبعد هذا ما يزال يترنح في خشبة المسرح السوداني والكل حضور متفرج يداعب خياله بأهازيج المخزون الباطني الخائب ويستبعد الحقائق الجديدة علي الأرض لأنه ببساطة أدمن العمل والتحليل من خلال موبقاته التي ما قدمت شبر في تاريخنا الحديث .. حقيقة ما أكثر العبر وما أقل الأعتبار .