مقالات متنوعة

ثورية مصطفى وشعبية الحوت

إسماعيل عبد الله

الثورة جنين يتخلق ثم يولد إنساناً كاملاً يدك بانسانيته عرش الجبابرة , ويهد بصدق سريرته  قصور الطغاة , و المحظوظون هم من يحتفلون بحضورهم للحظة الميلاد المجيدة لثورات الشعوب , وهم  من يكون لهم شرف المشاركة فيها بالدموع و بالدماء , لقد ظل العملاق مصطفى سيد احمد المقبول يشدوا بصوته الثائر , منذ سبعينيات القرن الماضي حتى الدقائق الأخيرة من حياته في منتصف تسعينيات ذات القرن , مجسداً أعظم مثال للمطرب الوطني الغيور الذي لا يتوقف إبداعه عند حدود هموم العشق وتخوم  آلام العاشقين , بل يتعداه إلى العشق السرمدي الأكبر , ألا وهو الغرام  والهيام المرتمي في حضن الوطن , الذي صوره أبو السيد  في رمزية الأم الحبيبة تارة , وتارة أخرى شبهه بالعشيقة الحسناء , فالقصائد المختارة بعناية فائقة من قبله  كان لها إسهام واضح في شحذ همم الشباب و طلاب الجامعات بمعاني وقيم الوطنية الصادقة ,  لذا نجد أن هبّة ديسمبر و معها تسونامي الانتفاضات التي سبقتها , ما هي إلا نتاج لهذا الفعل المتراكم الطويل الأمد , الذي لعبت فيه الموسيقى و الشعر و الغناء و الأدب و النص المكتوب , دوراً مؤثراً أخرج هذه الثمار الناضجةً وأتى بتلك القطوف اليانعة , التي شهدتها ساحات مدن بلادنا في أيامنا الحاضرة هذه , فعندما كنا نتفيأ ظلال القطار الذي كان يقلنا في إجازاتنا الصيفية  , مستمعين و مستمتعين بـــ (البت الحديقة و الحزن النبيل) من منتوج أعمال هذا الكائن الأسطوري , كان الأمل يحدونا برغم مرارة الحياة التي يكابدها طالب الجامعة آنذاك , في أوج بطش نظام حكم هذه الجماعة المهووسة , التي أحالت بيوت الأسر السودانية إلى مواكب وقوافل للعزاء , بعد ان كانت صوالين هذه البيوت ضاجة ببهجة الاحتفاء وصاخبة بالاحتفالات وبالأفراح , و جميعنا يكاد  يوقن بأن تساؤل هذا الكائن الخرافي المسمى بــ (مصطفى) في ملحمته الملهبة للمشاعر الثورية (نورا) , عندما استفهم ذلك الجيل بمفردات مموسقة بايقاع الحماسة من شاكلة : (متين إيد الغبش تتمد , تتش عين الضلام بالضو) , حينها كانت قلوبنا تمتليء حتى تفيض بيقينٍ راسخٍ ,  بأن المشهد المحسوس غناءً والعاكس لمنظر تدفق هؤلاء الغبش الذي كان يغشى مخيلتنا , و اقتحام هؤلاء المحرومين لمكمن الداء المتمثل في عقر دار حكومة الفقر و الدمار , سوف يحدث,  و سوف نكون شهداء عصر عليه , وقد كان , في هبة ديسمبر المجيدة في خواتيم العام المنصرم , والتي نعتبرها رؤية صادقة لملاحم بطولية قد تحققت , بفضل رحلة طويلة مدعومة بالعزيمة والإصرار , قادها حملة الفكر الوطني الخالص والخالي من الشوائب , من شعراء و فنانين و أدباء وروائيين ودراميين , طيلة فترات القهر و الاذلال التي جثم فيها كهنة (الاخوان المسلمين) على جسد الوطن , فاليوم تأكدنا تمام التأكد من أن (أبي سامر) يومها , لم يكن يتمنى على الله الأماني و لم يكن هو ذلك الحالم في يقظته , عندما كان يصرخ صادحاً : (ماني غرقان في التمني ولاني سارح في الأماني , زارني خاطراً بل شوقي و احتواني) , وها هي الأماني التي طمح إليها هذا القامة ورددها في أهازيجه قد تحققت , وها هو الخاطر الزائر لمخيلة صديقنا الفدائي الذي رحل عنا مكابداً ويلات داء الفشل الكلوي , قد اصبح مشهداً مألوفاً بعد مرور هذا الشهر الديسمبري , فتلاقت أشجار نخيل الباوقة مع  (دليب)  كردفان في عناق ثوري حميم , وردد نهر النيل أغاني (التويا) ممزوجة بايقاعات مطرب الشرق (سيدي دوشكا).

أما محمود عبد العزيز فمنذ نشأته كان منتفضاً وثورياً منافحاً , ومتمرداً عنيداً على كل خصيصة إرث ناشز ودخيل على ذائقة و ثقافة البيت والشارع السوداني , فطبع وجدانه بمآسي الحفاة العراة و ذوي الإعاقات الحركية , وضمّد جراحات شرائح من المجتمع ما كان لها أن تجد سبيل  للتنفيس عن كربتها ومأساتها , إلا عبر صوت الحوت بعلامة جودته المميزة , ونبرات صوته الحزين الممتصة لغضب و أشجان كل ممحون , فرحل هو الآخر في بواكير العمر بتداعيات نفس الداء اللعين الذي ألم (بكليتي) أبي سامر , فالثائرون الصادقون يشعلون الحرائق الهوجاء في دمائهم غير آبهين ولا حريصين على حياة يدوس فيها الظالمون بأحذيتهم على رؤوس البائسين , ولأن خلايا استشعار أمثال الحوت ومصطفى مشحونة بخلاصة الحس الانساني  العتيق , فانّ أبدانهم لا تقوى على حمل كل هذه الأثقال والأحمال من المشاعر العظيمة , فتجدهم يحترقون جسداً و روحاً , ويخرجون من هذه الدنيا وأعينهم ساخرة ومستهزئة بتمسكنا نحن بحياة الذل والإهانة , فالطاغية و منافقوه من عبدة أصنام السياسة  كانوا يعلمون  حجم جماهيرية الحوت , فتخيل وتصور أنهم حاولوا أن يقدموا له (الرشوة) وهو مايزال موضوع على نعش بارد ومحنط , دون حياء منهم و بوجوه أراق مياهها (الحواتة) , فأرسل هؤلاء المنافقون و المتملقون  طائرتهم الرئاسية فأقلت الجثمان من مطار الملكة علياء بالأردن إلى مطار الخرطوم , فكان الاستفتاء المذهل الذي لم يعادله إلا استفتاء الشعوب السودانية , عندما تحلقت حول صاحب الرؤية الجديدة  في الساحة الخضراء , وهي ذات الساحة التي لفظت الطاغية قبل بضعة أيام , ويا لغرابة تدابير وتصاريف الأقدار!! , إنّ أمواج (الحواتة) جرفت كل المتاريس و نسفت جميع السدود و اقتلعت نعش (الحوت) من داخل الطائرة (الرشوة) , و ذهبت بمرشح الجماهير الأوحد إلى حيث شاءت , ثم احتفت في تشييعه بطريقتها كمجموعة (حواتة) , هذه الشريحة المجتمعية التي انهزم الطاغوت امام مدها الثوري , واخفق أيما إخفاق في أن يروضها , كان يجب على طاغية الزمان أن يرعوي من ذلك الاستفتاء الجماهيري الواسع النطاق , منذ تلك اللحظات الحاسمات و الفاصلات  , فذلك الاجماع الشعبي العفوي قد وضع الحوت وهو مسجياً نعشاً مصندقاً , في أعلى درجات الانتخاب الديمقراطي الحر و النزيه , متقدماً بملايين الأصوات على صاحب الطيران الرئاسي , لقد كان استفتاءً لم يصرف عليه (قرش أحمر) من مال خزينة الدولة (بيت مال المسلمين) , ولم تسخر له امكانيات الدولة مثلما فعل أنصار الدكتاتور , عندما رهنوا مستقبل و مصير البلاد و حياة ومعيشة العباد بانتخابه في عشرين – عشرين.

ما زلنا نذكر مقولات وتنبؤات رسول الديمقراطية و التسامح و السلام , الذي تصادف ذكرى رحيله سنوية هذين الرائعين المذكورين أعلاه , و يتطابق اسمه مع اسم الثاني منهما , فالتنبؤات والمقولات المأثورة التي بدأ يظهر رأس جبل جليد تحققها , وهي دنو وقرب أجل احتدام معركة (كسر العظم) كما أسماها أحد أبناء هذا الوطن الأوفياء , وهي معركة بالضرورة يجب عليها أن تندلع فيما بينهم ,  و هي التي سوف تكون خاتمتها فناء الحزبين الشقيقين الشريرين , فكما قدم الأستاذ محمود محمد طه روحه قرباناً للخلاص من طغيان النميري من قبل , هاهم ثوار ديسمبر ويناير قد انهمرت دمائهم العزيزة مهراً نفيساً وغالياً لوضع نهاية لحكم الطاغية وزمرته , فقد قرروا إسدال الستار على تاريخ دويلة (الهوس الديني) التي مارست بتر الرقاب  وقطع الأرزاق على مدى ثلاثين عاماً, وهاهم ثوار ديسمبر يطوون ملفها الأسود و للأبد.

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..