مقالات وآراء

الإعلام والصحافة والجدل بين رؤيتين

زين العابدين صالح عبدالرحمن

 

كانت فكرة قانون للإعلام والصحافة ، مختزنة في عقول العديد من قيادات الأحزاب ذات المرجعيات الشمولية ، الذين مايزالون يحلمون بدور الإعلام المحتكر للسلطة أيام ألمانيا الهتلرية ، ووزير إعلامها غوبلز ، والذي استطاع أن يدخل الإعلام كأداة في الحرب النفسية علي شعوب الدول التي تحيط بدولة ألمانيا ، وأستخدم فيها غوبلز كل ما انتجه علم النفس في ذلك الوقت . وبعد غوبلز أصبح الإعلام أهم أداة للأنظمة الشمولية في الدول التي تحكم بأنظمة عسكرية ، أو أنظمة الحزب الواحد رغبة في السيطرة ، وتقليص مساحة الحرية ، وهؤلاء الذين جاءوا بفكرة قانون للصحافة والإعلام ، وقالوا أنهم يريدون حماية حقوق آهل المهنة ، وأن يساعد القانون في توسيع مواعين الحرية ، لكي يؤدي الإعلام والصحافة الدور المنوط بهما كسلطة رابعة في المجتمع ، ولكن دائما يصبح القانون في نهاية الأمر أداة لقمع الصحافيين والإعلاميين ، حتى لا يتجاوزوا الخطوط الحمراء ، وفكرة القانون أن تخلق رقيبا ذاتيا عند الممارسين للمهنة حتى يصبحوا أداة ناقلة فقط لرأي السلطة . أو إعلام يخدم السلطة لوحدها. لذلك النظم الشمولية تحاول خلق كوابح لانطلاقة الإعلام والصحافة.

في تسعينات القرن الماضي عقد التجمع الوطني الديمقراطي المعارض عدد من جلسات الحوار لصياغة قانون (للإعلام و الصحافة) يتبناه التجمع عند ما يتم إسقاط نظام الإنقاذ ، كانت هناك رؤيتان الأولي تؤكد أن القانون مسألة ضرورية لأنه ينظم المهنة ، وبالتالي يحكم عمل الصحافيين إلي جانب يسهل أداء المهنة . الرؤية الثانية تقول أن الإعلام يجب أن يخضع للتسجيل عند مسجل الشركات ، ويحكمه القانون الجنائي والمدني في الدولة لكل متضرر منه، وأن عملية نجاح وفشل الإعلام والصحافة مرتبط  بالاداء الذي يقدماه، وإقبال الجمهور عليه ، وحتى في الدول الديمقراطية هناك إعلام الدولة وليس السلطة ، باعتبار أن الدولة تتخير الوزارة التي يمكن أن تقدم الدعم للإعلام ، دون التدخل في سياسة المؤسسة الإعلامية . جاءت اتفاقية (نيفاشا 2005م) وتوقف الجدل وغاب التجمع الوطني الديمقراطي ، وكل ما صاغه من قوانين . حيث انخرطت أحزاب التجمع في البرلمان الجديد (2005- 2011م) في جدل حول قانون جديد للإعلام والصحافة ولم يغير الوضع شيئا بسبب استمرار النظام الشمولي. أن نظم الحكم إذا كانت عسكرية أو مدنية تتخوف من استقلالية الإعلام والصحافة.

بعد سقوط الإنقاذ كان المتوقع أن تتغير الرؤية لكي تدعم عملية التحول الديمقراطي في البلاد ، وتتغلب الرؤية الداعية لوقف كل عمليات المراقبة والمحاسبة للعمل الإعلام والصحافة من قبل منظمات تابعة للدولة. وأن تجمد القوانين السابقة التي خلفتها الإنقاذ ، لكن وزير الإعلام في حكومة حمدوك الأولى (فيصل محمد صالح) سار في ذات الاتجاه القديم الداعم أن يكون هناك قانون للإعلام والصحافة معدل عن السابق ، وليس إلغاء القانون ، باعتبار أن ؛ الرجل مؤمن أن يكون هناك قانون للإعلام والصحافة ، تعبيرا لمرجعيته الفكرية الداعمة للقبضة على هذه المؤسسات الإعلامية وإرشادها . وانتصرت الرؤية الشمولية مرة أخرى في الفترة الانتقالية ، التي كان لها أن تتبنى الرؤية الديمقراطية ، وأن تحل كل المؤسسات التي تم تأسيسها بحكم القانون الشمولي . وتصبح حرية التعبير ومؤسساتها تابعة من حيث التنظيم والإشرف لقانون الشركات، وتتحصل الدولة منها رسوم تسجيلها ، وتكون خاضعة لدفع الضرائب ، للدولة وتخضع للقانونين الجنائي والمدني لكل متضرر أو طالب حق ، الأمر الذي يوسع دائرة الحرية ، ويتحرر الإعلام والصحافة من سياط الدولة ، وتوقف عملية الرقيب الذاتية للصحافي ، باعتبار أن العملية التي تقوم بها الدولة في الرقابة و التحكم على الأداء الإعلامي والصحفي سوف يحد من إنطلاقة حرية التعبير ، ويجعلها أبواق للدولة وما تريده ، ألأمر الذي يؤثر سلبا أيضا على عملية الإبداع في تلك المؤسسات ، وعدم الإقدام على محاربة الفساد في مهده وتصحيح الأخطاء ، وهي محاولات لخلق حصانة لمؤسسات الدولة من الرقابة. أن الإعلام والصحافة هي القواعد التي يؤسس عليها العمل الديمقراطي ، لذلك يطلق عليها السلطة الرابعة.

أن أغلبية الدول الديمقراطية ليس لها قوانين خاصة للإعلام والصحافة ، بل تخضع للقوانين العامة للدولة ، رغم أن هناك إذاعات وقنوات تلفزيونية تقدم لها الدولة الدعم المالي . وإذا ضربنا أمثالا لذلك ؛ نجد أن الحكومة البريطانية تدعم ماليا مؤسسة ( BBC) بكل فروعها من خلال وزارة الداخلية ، لكن المؤسسة لها اللوائح التي تحكم عملها ولا تخضعها للسلطة التنفيذية ، ودلالة على ذلك ؛ المثل المعروف أن مؤسسة (BBC) وقفت ضد حرب بريطانيا مع الارجنتين على جزر الفوكلند . وقالت المؤسسة هذه حرب مارغريت تاتشر رئيسة الوزراء وليست حرب بريطانيا . وأيضا إذاعة ” Voice of America” بفروعها المختلفة تجد الدعم من قبل الدولة ولكنها غير خاضعة للإدارة الأمريكية ، ولها استقلاليتها الخاصة ، وكانت داعمة لوقف الحرب في فيتنام . في استراليا مؤسسة ( SBS ) كانت الحكومة قد أنشأتها لكي تخدم مشروع التنوع الثقافي لدمج المهاجرين في استراليا ، واعتبرت الحكومة المؤسسة قد انجزت المشروع بنجاح ، بل أصبحت المؤسسة من المؤسسات الإعلامية العريقة ذات المشاهدة العالية وأعلنت الحكومة أنها سوف تخفض دعمها تدريجيا وبدأت ذلك من سنين ، والأن 75% من دعم المؤسسة يأتي من المواطنين ، ولم تكون المؤسسة يوما بوقا للحكومة ، بل من أفضل المؤسسات الإعلامية.

أن المؤسسة الإعلامية في السودان منذ خرج المستعمر ظلت حبيسة للفكر الشمولي الذي يخضعها خضوعا كاملا للسلطة التنفيذية الحاكمة، حيث ظلت ست سنوات في قبضة المجلس العسكري للرئيس أبراهيم عبود . ثم 16 تحت سيطرة السلطة ومراقبة مباشرة من رئيس الجمهورية جعفر نميري ، وخضعت للرقابة المباشرة من قبل الرئيس البشير وجهاز الأمن والمخابرات 30 عاما ، فالثقافة الإعلامية تتحكم فيها الثقافة الشمولية وظل العديد من الإعلاميين يقعون تحت وطأة اللوائح والإجراءات التي كانت مستمر فترة 52 عاما . يجب أن يدرك هؤلاء أن النظام قد تغير ، ويجب أن يتحرر الإعلام والصحافة من القيود التي كبلتها أكثر من نصف قرن ، حتى يستطيعا لعب الدور المنوط أن يلعباه في عملية التحول الديمقراطي، وتقديم المبادرات وأخذ المعلومات من مصادرها وتوصيلها للناس ، لكي يكون الكل مراقبا لمصالح الوطن والمواطنيين . والديمقراطية تجعل هناك جسما واحدا هو الرقيب والمحاسب لكل مؤسسات الدولة التنفيذية هو البرلمان . ونسأل الله حسن البصيرة .

 

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..