
صحيح ان عوامل انفجار الثورات في المنطقة العربية كانت مهياة منذ امد طويل ، بعد ان تكلست انظمة الحكم ، واصبحت تعيد انتاج الفساد والتردي علي كافة الاصعدة . الشئ الذي جعل حياة الشعوب سلسة من المعاناة والحرمان من كافة الحقوق . لتُخيِّم حالة من البؤس والاحباط ، كقدر ملازم لسكنات وحركات معظم شعوب المنطقة العربية . ومع انفتاح شباب المنطقة علي عوالم العولمة، وما تتيحه من فرص للحياة الافضل ، بعد الخلاص من شروط الاستبداد والفساد . شكل ذلك الدافع الاساس للحراك الثوري في المنطقة العربية. ولكن توقيت الثورات العربية للانعتاق من ربقة الاستبداد ، والتطلع للحكم الديمقراطي والدولة المدنية ، تزامن للاسف مع مرحلة افول النموذج الديمقراطي بنسخته النموذجية ، وصعود الخطابات الشعبوية ، وانظمة اقتصادية وحشية، خصمت من منجز الحرية الفردية ودولة الرعاية الاجتماعية.
وفي ذات السياق برزت تجارب سياسية تستفيد من منجز الحداثة ، علي مستوي النظم الادارية والانضباط التنظيمي ومضاعفة القدرات الاقتصادية ، كمحرك للحياة الاجتماعية ، علي حساب النموذج الديمقراطي وما يتيحه من فرص للحريات السياسية والتداول السلمي للسلطة وحصانة حقوق الانسان . ويقف علي راس هذا النموذج تجربة الصين وروسيا الي حدٍ ما. وهذا النموذج الذي يقايض الحرية بالرفاه او الاستقرار، يستمد جذوره من ثقافة الاستعباد ، ولذلك ليس مصادفة ان نجد نسخة مطابقة لهذا النموذج ولو باسلوب رجعي ، راسخ في منطقة الخليج ، كجزء من تقاليد بيئة بدوية ، وجدت في المال الريعي ما يكرسها كحالة مقبولة .
ويبدو ان هذا النموذج الاخير (السلطة للقادة /الامراء/ الضباط ، وبقية الشعب هم ما تجري عليه السلطة اجراءتها ، اي الشعب مجرد موضوع لذات السلطة) هو ما يراد للثورات العربية ان تحتجز فيه . ومن اجل ذلك يتم اجهاض احلام الثورات العربية ، بدول تنعم بالحرية والسلام والعدالة. وهذا النموذج المطلوب بطبعه ، يحتاج لمستبد لادارته . وهو ما دفع القوي المعادية للثورات ، لرعاية نماذج من المستبدين الجدد ، لوراثة الثورات او قطع الطريق عليها . وهي نماذج قد تكون ناعمة كقيس سعيد في تونس او عبدالحميد تبون في الجزائر ، او نماذج خشنة كحالة السيسي في مصر ، وذلك من اجل ارسال رسائل تحذيرية للقوي الثورية ، من عواقب اصرارها علي مشروعها الثوري . وهي نماذج وجدت قدر من النجاح بسبب استقرار حالة الدولة في تلك التجارب ، علي عكس ما يواجه هذا النموذج في دول هي بطبعها غير مستقرة او ينقصها الرسوخ ، كالسودان وليبيا واليمن ، وهو ما يجعل من الصعوبة بمكان تطبيق هذا النموذج فيها ، من غير تعريض بقاء الدولة (الهشة) نفسها للخطر . ومن هنا يبرز تناقض الثورات الذي يسبب الهشاشة ، اي الدول الاستبدادية ذات المؤسسات المستقرة قابليتها للثورة اصعب ، ورغم ان نجاح الثورة فيها اقل كلفة ، إلا ان عملية التغيير اكثر تعقيد بسبب رسوخ تلك البني الدولتية ، ولذلك من السهولة بمكان اجهاضها . اما الدول المستبدة الفاشلة في ترسيخ مؤسسات الدولة ، فعملية قيام الثورة فيها سهلة نسبيا ، إلا ان كلفتها عالية لانعدام الحساسية بقيمة الانسان ، كما انه يصعب السيطرة علي الثورة بسهولة او اجهاضها تماما ، ولكن في ذات الوقت ، غياب مؤسسات الدولة يُصعِّب من نجاح الثورة والايفاء بوعودها . اما الفشل فغالبا ما يقود لتفكك الدول (الهشة) او حكمها بقوة الحديد والنار ، الشئ الذي يجعل مجرد الكلام عن دولة او مجتمع هو من باب المجاز .
عموما ، ورغم التشابه اقلاه في محصلة الربيع بين جميع دول الثورات ، إلا ان هنالك اختلاف بين خصوصية كل دولة وتجربة واساليب التخريب الداخلية والخارجية التي اسهمت في اجهاضها او اضعافها . اما حالة السودان كدولة فقد كان الاوفر حظا من التناقض ، فرغم ثراء الدولة إلا ان شعبها الاكثر فقرا ، ورغم استقلالها مبكرا ونجاح ثورتين في تاريخها ضد النظم الاستبداية ، إلا ان تجربتها السياسية هي الاقل استقرارا ، والمنتجة لاكثر الانظمة تسلطا وفسادا . والمقصود تجربة تحالف الايديولوجية الدينية والمؤسسة العسكرية ، ومؤكد هكذا مركب جهل وغرور وعنف ، هو الاكثر تاهيل لتنفيذ اي برامج غض النظر عن واقعيتها او كلفتها. وهو ما لم يتاخر كثيرا ، لانه في ظرف ثلاثة عقود كالحة ، شهدت تطبيق المشروع الحضاري (الهلامي) ، تحولت البلاد الي كومة رماد ، بعد ان اهدر الموارد وصادر كافة حقوق المواطنين ! وهو ما ارجع البلاد الي حالة اللادولة ، بعد ان ازاح الحياة السياسية والمؤسسات المدنية ، لصالح سيطرة تحالف العسكر والمليشيات والراسمالية الدينية ، مع غلبة سطوة المليشيات (العقائدية والقبلية) بما يتلاءم وضحالة ما تبقي من شبهة مؤسسات الدولة.
المهم ، بعد قيام الثورة سقط النموذج الاسلاموي سياسيا وقبلها تم تعريته اخلاقيا ، ولكن ظلت هياكله التي تحمي نموذجه في كامل سيطرتها ، ان لم تزدد نفوذا وتجردا من كل اعراف المجتمع ! اي اورثنا نظام الانقاذ قوي باطشة ، عقيدتها العنف وكنز المال ، ولذلك هي حريصة علي حماية مصالحها ، عبر السيطرة علي السلطة باي ثمن .
وبعد الثورة كان الاعتقاد ان الشراكة ستمكن المدنيين من استخدام ادواتهم السياسية ، للحد من نفوذ العسكر وتغول المليشيات . إلا ان ما حدث هو نوع من التحالف بين العسكر والسياسيين لتقاسم الفترة الانتقالية ! ولضلوع العسكر في المؤامرات ، فقد تم التآمر علي الشركاء السياسيين واقصاءهم ، لصالح الحركات المسلحة ! ومن ثمَّ اكمال مخطط اجهاض الثورة ، كمرحلة اولي في مشروع صناعة المستبد ، كهاجس اقليمي . وهذا الدور يمكن ان يلعبه البرهان كخيار اول وحميدتي كخيار ثانٍ . ولكن فشل الانقلاب البرهاني/ الحميدتي في السيطرة المطلقة علي السلطة ، رغم تحالفه مع كل القوي الحاملة للسلاح ، واستناده علي مؤسسات الانقاذ المسيطرة علي جهاز الدولة ، وحرصه علي بناء قنوات تواصل مع الدول الاقليمية واسرائيل ، وتلقيه الضوء الاخضر للقيام بالانقلاب . والسبب ان قوي الثورة ما زالت حية وناشطة وقادرة علي السيطرة علي الشارع ، وكذلك الرفض الخارجي الذي ادان الانقلاب الارعن، لدرجة ايقاف كل مشاريع الدعم وتحسين العلاقات الذي قطع شوطا كبيرا ، وما ترتب علي ذلك من زيادة للضائقة المعيشية ، مما حول حياة المواطنين الي قطعة من الجحيم .
وبسبب فشل الانقلاب في حسم الامور لصالحه ، وعجز القوي الرافضة للانقلاب في اسقاطه ، وصلنا الي ما اسمته الدكتورة اماني الطويل توازن الضعف . والحال كذلك ، من يستطع حسم الصراع هو من يقلب دفة التوازن لصالحه . فالقوي المدنية اذا ارادت تعديل ميزان التوازن ، عليها قبل التفكير في تكوين جبهة واحدة ، التخلص من اسباب الفرقة لتصبح الوحدة ممكنة . وسبب الفرقة في اعتقادي يرجع الي احتكار الثورة ومن ثمَّ شرعية تمثيلها ، ولذا من دون تحرير الثورة من السيطرة والاحتكار والتمثيل ، وجعلها شراكة. يصعب تقديم تنازلات ، او الاتفاق علي تصور مشترك. ويكفي تجربة الحرية والتغيير في احتكار الثورة وتمثيلها ، وما جره ذلك من تداعيات وكوارث ما زلنا نعاني تبعاتها . والخطوة التالية يجب دراسة الخصم ومعرفة نقاط ضعفه وقوته من غير تهويل او تصغير ، ومن ثمَّ اختيار افضل اساليب المواجهة ، التي تراعي توازن القوي واحوال العباد وحالة الدولة . خاصة ان المشلكة ليست في الفشل في اختيار الاسلوب المناسب او خسران اي جولة مواجهة ، ولكن في عدم تقدير نوعية الخصم وطبيعة الصراع وخطورة تداعياته.
وبما ان القوي المدنية ما زالت تعاني حالة تضعضع الثقة بين المكونات وتضارب الاولويات ، ومحافظة لجان المقاومة علي ابقاء جذوة الصراع مشتعلة ، ولكن من غير وجهة محددة . فقد وقفنا في محطة الجمود ، وفيها يركز المكون العسكري علي تمكين حالة الامر الواقع . ولكن هذا المكون نفسه يعاني تناقضات قد تعصف بتماسكه . فالبرهان مثله مثل حميدتي يتطلع للعب دور المستبد الذي ترغبه الدول الاقليمية ، وايضا يماثله في عرض كافة الخدمات التي تسمح له بلعب هذا الدور . وهو يستفيد في ذلك من دعم الدولة العميقة ، سواء في المؤسسات المدنية او العسكرية او الامنية او الاقتصادية . ولكن نقاط ضعفه تمثلها تحالفه المرحلي مع منافسه الاكبر حميدتي . كما ان حليفته الاقرب مصر اصبحت اقل ثقة فيه ، وتاليا رهانا عليه، خصوصا بعد ما اظهره من ضعف علي مستوي القيادة، وانعدام المصداقية علي مستوي الاقوال والافعال .
اما حميدتي رغم ما يبديه ظاهريا من عناصر القوة ، سواء من خلال تمدد قوات الدعم السريع ، او النفوذ الاقتصادي المحمي بقوة السلاح ، او تمتين علاقاته مع ابوظبي وتل ابيب ، او استفادته من وسائل الدعاية وشراء الذمم . إلا ان نقاط ضعف حميدتي تمثلها ، ان قواته تفتقر للعقيدة العسكرية او الاصح ان المال هو عقيدتها الاساس ، وهو بطبعه سلاح ذو حدين . اضافة الي الطابع العائلي والقبلي الذي يسم قيادة قواته ، مما يخل بمبدأ الكفاءة والاهلية ، وتاليا يقمع طموح الافراد المنتمين للقوات من خارج معيار الافضلية القرابية . اما المعضلة الكبري ان حميدتي نفسه غير مؤهل للقيادة التي يطمح اليها ، مهما استثمر فيه المستثمرون ! وما يقف عقبة امام تاهيله ، ان تكوينه نفسه مشدود لمحصلة وعيه وتربيته ، اي الاساليب البدوية والبدائية للقيادة ! والحال كذلك ، حميدتي يراهن علي تحويل ادارة الدولة ، الي ادارة اهلية ، يعتلي شخصه رئاسة نظارتها ! لذلك ليس مصادفة انه يحاول جاهدا ، ضخ الدماء في شراين الادارة الاهلية المتيبسة ، والتي سلفا تجاوزتها التطورات الادارية ، ولو ان ذلك لا يمنع توظيفها في حدود الاعراف المحلية . ومؤكد حميدتي يستفيد من حالة غياب الدولة ، في سعيه لبعث الحياة في الاجسام والهياكل ما قبل الدولة ، لتشكل له حاضنة قليلة الكلفة وسهلة التوظيف . اما حلفاؤه في الخارج فيستخدمونه كاداة فقط ، وليس عن قناعة ترفعه لمستوي التعامل الندي . وهذا ما يفسر ان كل لقاءته تتم في الظلام ، ولاغراض لا يمكن الافصاح عنها.
اما قيادة الحركات المسلحة ، بعد ان سقطت سياسيا واخلاقيا بمشاركتها في الانقلاب ، وقبلها بيع شعارات الثورة ودماء الثوار وانصار الحركات وعشيرتها ، في مؤامرة اتفاقية جوبا المعيبة ، فقد توقف حمار طموحات قادتها عند عقبة تطلعات البرهان/حميدتي ! لتتحول الي مجرد ادوات بيد البرهان وحميدتي ، نظير مكاسب وامتيازات تتلاءم وحدود دورهم ، اي كموظفين في مشروع البرهان حميدتي . وهو ما يبرر القول ان مكاسبهم الذاتية الصغيرة ، تناسب حجمهم كقادة صغار .
اما بخصوص القوي المدنية ، فلجان المقاومة مصدر قوتها ، هي قدرتها علي تحريك الشارع ، كاكبر قوة ضغط ضد القوي الانقلابية . وكذلك التمتع بالنقاء الثوري ، الذي عماده الصدق في الاقوال وترجمتها لافعال . ولكن نقاط ضعفها ، التاخير في تحويل ضغط الشارع لفعل سياسي يخدم اهداف الثورة ، لان تحريك الشارع يظل في النهاية اداة وليس غاية . وهنا نقطة ابتعادها او صعوبة التقاءها مع الاحزاب السياسية . وهنالك نقطة ضعف اخري ، وهي طريقة الادارة الافقية للجان المقاومة قد تناسب الفعل الثوري ، ولكنها غير مناسبة للعمل التنظيمي ، الذي يحتاج لقيادة موحدة، تمكنها من ادارة الصراع بكفاءة . واحتمال هذه الطريقة نفسها في العمل ، هي ما يعيق تكوين تحالف جديد ، يستفيد من اخطاء تحالف الحرية والتغيير . لان الاشكال يظل ليس في التحالف ، ولكن من يديرون التحالف، ويوظفونه لخدمة اغراض خاصة.
اما تحالف الحرية والتغيير، رغم انه اكبر تحالف سياسي تشهده البلاد ، إلا ان مشاركته في السلطة ، وقبله انفراد جزء منه بادارة الحوار مع العسكر ، من غير توافق سياسي علي طبيعة الحوار واجندته وسقوفاته ، وقبل ذلك اختيار فريق تفاوض مؤهل ، مع تزويده بخبراء تفاوض ، كل ذلك اصاب هذا التحالف بالضعف واوجد بين مكوناته الخلافات الجذرية ! وهذه المسالك الانفرادية في اتخاذ القرارات ، عكست نزعة تسلطية لعديد من مكونات التحالف ! ليساهم كل ذلك في انتاج التجربة البائسة للشراكة ، حتي وجه له المكون العسكري الضربة القاضية باقصائه من السلطة . وما ترتب علي هذه التجربة الفاشلة ، من احباط وعدم اقتناع بجدوي التحالف ، وما شكله ذلك من حجر عثرة امام تكوين تحالف جديد ، رغم الحاجة الماسة اليه ، للتخلص من الانقلاب باقل كلفة وفي اسرع زمن ، ومن ثم الشروع في التاسيس لدولة حديثة .
اما الحزب الشيوعي فيحسب له قدرته الماهرة علي تحليل الصراع ، ولكن علته تكمن في ادارة الصراع ، وبما في ذلك النقص في امتلاك قدر من المرونة السياسية ، تسمح له باستخدام الاساليب التي تتلاءم مع كل مرحلة! والاهم استخدام اللغة والاساليب السياسية عوض عن استخدام اللغة والاساليب الثورية علي طول الخط . اي آن للحزب الشيوعي ان يتخفف من حمل عبء قيادة الجماهير، ويكتفي بدور المساهم في الثورة والتغيير كغيره من المساهمين.
اما ما يخص بقية مكونات الشعب ، فيبدو انها تقف كعادتها علي الحياد ، او المشاركة القلبية كاضعف الايمان . وفي انتظار ميلان الكفة للجهة المنتصرة ، والقادرة علي احداث الاستقرار ، غض النظر عن كلفته . ولكن لسوء حظ هؤلاء ان الاوضاع الراهنة لا تعد باي استقرار ، اذا ما استسلموا لسلبيتهم وترك عبء النضال علي الثوار .
وامام هذا الجمود والهشاشة والتحديات الجسام ، لابد ان يكون الفعل المقاوم معادل لها او يزيد . وهو ما يتطلب التوافر علي جسم مرن يتعدي الدعوات للتظاهرات ، الي بناء استراتيجية لاسقاط الانقلاب وترتيب الاوضاع لما بعده. ولصعوبة تكوين هكذا جسم ، في ظل اوضاع معارضة طابعها الانقسام والتشرذم ، يمكن البدء بتحديد طبيعة الصراع واطرافه ، ومن ثمَّ كيفية حسمه لصالح الثورة ومشروع التغيير.
وفي هذا السياق يمكن المجازفة بالقول ان الصراع ذو وجهين ، وجه يتعلق بالاطار السياسي ووضع يتعلق بكيفية المحافظة علي كيان الدولة من الانهيار ؟ وعليه الثورة امام تحدي التاسيس لوضع سياسي جديد ، من دون المرور بكارثة فقدان الدولة ، او دخولها في دوامة عنف لا يبقِ ولا يذر.
اذا صح ذلك ، لكي تنجح الثورة باقل كلفة واسرع طريقة ، يجب ان تملك خطاب قادر علي مخاطبة الكتلة الساكنة او الوافقة علي الحياد والباحثة عن الاستقرار وهي الغالبية. وهذا الامر ازداد صعوبة بعد النموذج البائس الذي قدمته حكومة حمدوك ، وبالاخص في الجانب الاقتصادي ! لان حمدوك طبق مشروعه الاصلاحي بقسوة لا تتلاءم مع احوال الغالبية الفقيرة ، الشئ الذي ترك انطباع سلبي علي مجمل رهان الثورة ، وكذلك ضعضع الثقة في جدوي المدنية وكفاءة المدنيين . وعليه ، كسب هذه الشريحة او نصيب كبير منها ، هو ما يمنح الثورة فرصة اكبر لحسم الصراع . الذي هو في اصله ضد نخبة عسكرية ومليشياوية قبلية وطبقة راسمالية طفيلية ، ولكنها تملك السيطرة علي الثروة والقوات الحاملة للسلاح ، وتتمتع بدعم اقليمي مهول، اضافة للاستفادة من جهاز الدولة المصمم لخدمة الانظمة الاستبداية والقادة الانقلابيين ، او اقلاه مصمم للتعايش معهم.
ومن هنا يجب الاشارة للعنصر الاهم لكسب الصراع ، وهو قدرة التاثير علي المؤسسة العسكرية ، وكسبها لخط الثورة . ومكن الصعوبة في هذا المجال ، هو فقدان الثقة بين الطرفين ، بسبب ما تعرضت له هذه المؤسسة من تشويه ، حرفها عن واجبها الاحترافي ، الي خدمة قادة انقلابيين او انظمة شمولية ، نظير امتيازات ضخمة تنالها نخبة الضباط الكبار . لذلك كسب هذه المؤسسة يحتاج لمفارقة الخطاب العاطفي ، من شاكلة شرفاء الضباط ، وغيرها من اضفاء صفات بطولية او وطنية ، يصعب تصديقها لمن ينتمي لمؤسسة ، مارست كل هذا التخاذل ضد شعبها . ولذلك ما يجب التفكير فيه والاستعداد لمنحه ، هو امتيازات ووضع مريح خلال الفترة الانتقالية وما بعدها ، لهذه المؤسسة المعتلة ، حتي استتباب احوال الدولة المدنية ، وذلك بالقدر الذي يحفزها للانضمام لمشروع التغيير . واهمية وجود هذه القوات في صف المعارضة، ليس لخيريتها التي لم نشهدها تاريخيا ، ولكن لانها افضل السيئين، مقارنة بمليشيات الدعم السريع وجهاز الامن وقوات الحركات المسلحة. خاصة بعد التجريف الذي تعرضت له الحياة السياسية ، وغزو الفضاء السياسي والسلطوي بواسطة هذه القوات المسلحة . اي نحن حيال واقع غير سياسي ويصعب ادارته بلغة السياسة فقط ، وعليه لابد من وجود جهة عسكرية قادرة علي حماية الثورة والدولة وانتزاع السلطة ، والاهم قادرة وراغبة في لجم استعدادات اجهزة وقدرات مليشيات مصممة للقتل والنهب ومرتبطة بالسلطة وجوديا . واذا صح ذلك ، لا مكان من الاعراب للاءات لجان المقاومة بهذه الكيفية الحاسمة ، إلا اذا انكرنا طبيعة الواقع وحركتنا الرغبات . بمعني ، ليس هنالك من يرفض خروج العسكر من السلطة وبناء دولة مدنية محترمة؟ ولكن السؤال كيف يتم ذلك في ظل واقع معسكر كليا ، ودولة منهارة وسيولة شاملة تحكم المشهد؟ وهذا بدوره يردنا لمسالة هشاشة الثورات امام عظمة التحديات . وصحيح انه ليس هنالك مستحيل امام الاصرار والعزيمة ، ولكن الاكثر صحة ان الوعي السياسي الناضج يتعامل مع الواقع كما هو ، اما الوعي السياسي الرغبوي فتشده الطموحات الكبري ، مما يدفعه لتهميش حجم العقبات ، وهو ما ينذر بعواقب وخيمة . اي ما تحتاجه الثورة لكي تعبر ليس الشجاعة فقط ، ولكن الحكمة ايضا .
والخلاصة ، يبدو ان السبب الاساس في هشاشة الثورات اضافة الي انها عملية هدم وبناء في ذات الوقت ، انها تواجه معضلة في منطقتنا الشرق اوسطية ، وذلك لانها اما تواجهه بنية دولتية مستبدة يصعب تغييرها ، او بنية دولتية هشة قابلة للانهيار.
واخيرا
نسال الله الرحمة والمغفرة للشهداء ، والحرية للمعتقلين والعودة للغائبين ، وعاجل الشفاء للمصابين، الذين يحتاجون لاكثر من الدعاء ، وهو المساهمة الايجابية في علاجهم ، كجزء يسير من رد الدين . ودمتم في رعاية الله.
أجل! الشجاعة والحكمة!