التخاذل الإقليمي عن مناصرة الثورة السودانية

أثبتت التجارب، على مر التاريخ، أن الغلبة دوما تكون للشعوب؛ فقديماً نازعت الكنيسةُ الملكَ في ملكه وفرضت سطوتها عليه مستقلةً جهل الشعوب، بل لم تكتفِ بالحكم في الدنيا وإنما أصبحت توزع صكوك الغفران لضمان الجنة في الحياة الآخرة. ولكن ما أن وعت الشعوب، حتى أسدلت الستار على الصراع الطويل بين السلطتين الزمنية والدينية أو القيصر والبابا أو الكنيسة والقصر. وبعدها إنفرد الملوك بملكهم لفترة من الزمن، ولكن هيهات! فالوعي لا حدود له ولا كبير أمامه. في مدة قصيرة من الزمن وجد الملوكُ أنفسَهم في مواجهة الشعوب وقد جرّدهم وعيُها من لبوس القداسة والإستحاقات التاريخية المجانية التي ما انفك الملكُ يدخرها لنفسه بموجب شهادة ميلاده لا أكثر.
والحقيقة تقول أن من يعمل أكثر هو الأجدر. وما هي إلا سنوات حتى سحبت الشعوب البساط من تحت أقدام الملوك، وأضحى الملك الآن (عمدة بلا أطيان) كما يقول أهلنا في السودان، يؤدي مهمة مخاطبة الشعب في الأعياد الرسمية والمناسبات، كما أن له وظيفة أخرى يتشاركها مع الأمين العام للأمم المتحدة، وهي التعبير عن قلقه إزاء الكوارث الطبيعية والحروب التي تجتاح الشعوب.
وقد أضحى القصر والكنيسة الآن بعيدَيْن كل البعد عن إدارة شئون البلاد في الدول المتحضرة؛ ولكون الشعب قد فعل بالملك ما سبق أن فعله الملك بالبابا، فقد إنطبق على الملك المثلُ السوداني المعروف (كريت والقرض)…
وانتصر الشعب…
أما السعودية ومصر فهما الدولتان الأكثر تأثيراً في المحيط الإقليمي، ومع ذلك ستكونان الأكثر تأثراً بالثورة السودانية. والسبب لا يرجع لثقل وزن السودان أو تأثيره على دول الجوار، وإنما لنموذج الثورة الذي يمكن أن يقدمه الشعب السودان في المحيط الإقليمي. فالطغاة يراهنون دوماً على فشل الثورات والمصير الذي آلت إليه بعض دول الجوار بطريقة أجبرت الأغلبية في الشرق الأوسط على تجاهل نجاح الثورة التونسية. لذا فإن نجاح الثورة السودانية وإستمرارها بسلام سيصحح الكثير من المفاهيم.
فحكومة مصر الحالية مثلاً ، قوضت الثورة الناجحة في مصر وأعادت حكم العسكر من جديد؛ أما السعودية فوضعها هو الأكثر تعقيداً في المنطقة، والسبب أنها تلكأت في عملية الإصلاح إلى أن فاتها القطار. فعلى الرغم من الإصلاحات التي إبتدرها ولي العهد السعودي لتقليص دور المؤسسة الدينية في الحكم، إلا أن هذه المؤسسة مازلت شريكة أصيلة في الحكم لقرابة القرن، فضلاً عن أنها تتّبع منهج الإسلام (الوهابي المنغلق) والذي سيقف حجر عثرة أمام الإنفتاح على العالم وتحقيق التنمية بأقل كلفة ممكنة. ومن ناحية ثانية فليست هناك أية مساعٍ من جانب السعودية لمنح الشعب قدراً يسيراً من حقه الأصيل في المشاركة في إدارة شئون الحكم.
وتأسيساً على ذلك فليس من المتوقع أن يكون هبوط المؤسستين، الدينية والملكية، هبوطاً آمناً كما كان الحال في دول الغرب، بل على العكس فلربما يكون هبوطاً إرتطامياً يودي بمصير الأسرة المالكة إلى المصير الذي لقيه القذافي. فالوعي بحقائق الأشياء من حولنا في تزايد مضطرد والإنفتاح على الآخر قادم لا محالة، وليس أدل على ذلك من الأثر الذي خلفه إغتيال الصحفي (خاشقجي) على أوضاع المملكة. فمن يطّلع على أحوال قصر الحكم وقتذاك، يلمس حيرة أمرائه في هذه الورطة التي وقعوا فيها وحركت الأرض تحت أقدامهم. فقبل ذلك كانوا يفعلون ما يريدون دون هوادة و لا أحد في مقدوره أن يسألهم. وهذا ما يبين قوة المجتمع المدني ومنظماته من ناحية، وقوة سلاح الإعلام الذي لم يعد تحت السيطرة المحلية.
لذا فخوف دول الجوار من نجاح الثورة في السودان هو الذي دفع بالطغاة لتجاهلها، وهو ما دفع السعودية لتقديم المساعدة لنظام الرئيس عمر البشير في السودان على الرغم من قتله لعشرات المتظاهرين. فمن وجهة نظر هؤلاء الطغاة فإن إرتفاع شعب السودان نحو سماء الحرية والتنمية والإنفتاح على العالم يتناسب عسكياً مع أمد بقائهم في الحكم، خصوصاً وأنهم يعلمون جيداً أن مستوى الوعي السياسي في السودان متقدم نسبياً على غيره من دول الجزيرة العربية، وقد عرف شعبُ السودان الثوراتِ قبل أكثر من نصف قرن عندما أطاحت الثورات الشعبية بحكم العسكر في العامين 1964 و1985م.
عليه فإن التلويح بالفشل وضياع السودان بسبب الثورة لا يعدو أن يكون (فزاعة) ، والفزاعة لم تعد تخيف حتى الطيور.
عثمان مبارك أبو خالد
[email protected]