مقالات سياسية

وطن قيد الإقامة الجبرية (2)

د. السموءل  محمد عثمان

أشرنا في الحلقة الأولى من المقال لحقيقة أن السودان كان مرشحاً لأن يكون سلة غذاء العالم ، وكيف أن هذه الحقيقة بفعل سياساتنا أصبحت حلماً صعب المنال ومجرد أمنيات ، رغماً عن الظروف المواتية لتحقيق ذلك المتمثلة في الأراضي الشاسعة الصالحة للزراعة وتوفر المياه سواء أكانت مياه الأمطار أو الأنهار .
لكن عجزنا بعد تلك الثروات في العمل على إدخال الصناعة لتصبح قيمة مضافة للزراعة للاستفادة المثلى من المنتجات الزراعية والثروة الحيوانية الكبيرة التي يتمتع بها السودان .

نتحدث عن مشروع الجزيرة والثروة الحيوانية المنتشرة في ربوع البلاد ، والقطن والصمغ العربي والسمسم  والكركدي ،  وكثير من المحصولات الأُخرى ،  هذه المحاصيل التي فشلنا في تحريك عجلات المصانع لنستفيد منها الاستفادة المثلى وظللنا نصدرها مواد خام لتستفيد من ذلك بعض الدول ، ليكون لنا أجر المناولة وغابات السودان وثرواتها ، وقضارف النماء وسهول كردفان وجبل مرة ودارفور ودلتا القاش الأكثر خصوبة .
استعرضنا فيما بعد الثروات المعدنية الهائلة التي جاد بها علينا المولى سبحانه وتعالى التي من أهمها الذهب . هذه الثروات بالاستغلال الأمثل لها كانت ستغير حياة إنسان السودان وتجعله من أكثر سكان العالم رفاهية واستقراراً .
سياسياً الوضع لايختلف كثيراً  ، فالسودان كان عليه الأمل أن يلعب دوراً محورياً في إقليمه العربي وفي القارة الأفريقية ، مستنداً في ذلك على تاريخ ناصع مزدان بخرطوم اللاءات الثلاثة ، كما لاينكر دور السودان في القارة الأفريقية إذ كان من أوائل الدول الأفريقية التي نالت استقلالها فساعدت وألهمت باقي دول القارة في نيل استقلالها .
يقول الزعيم محمد أحمد المحجوب عمل السودان مع زعماء المستعمرات البريطانية في أفريقيا وساعدهم على تحقيق التحرير ، وكان اتصالي الأول بالزعماء الأفارقة  في لندن عامي 1946 – 1947 عندما قابلت كوامي نكروما الزعيم الغاني ، وجوموكنياتا الزعيم الكيني ، وقابلنا ثلاثتنا معاً عدداً من المفكرين السياسيين والكتاب الأفارقة وبعض دول العالم . افترقنا ليعود كل منا إلى بلده ليشجع حركة التحرير هناك ويعززها ، وكان السودان أول من نال الاستقلال وتبعته غانا بعد سنة .
كان الرئيس نكروما هو الذي دعا إلى عقد المؤتمر الأول لبلدان أفريقيا المستقلة في أكرا بتاريخ 15 نيسان 1958 ، والذي اشتركت فيه ثمانية بلدان الحبشة وغانا وليبيريا وليبيا والمغرب والسودان وتونس ومصر ، وحضر أيضاً عدد كبير من المراقبين من بلدان أفريقية لم تكن قد نالت الاستقلال بعد ، وبحث المؤتمر في عدد من النقاط التي طرحتها في خطابي أمام المؤتمر : تحرير البلدان الأفريقية التي لاتزال رازخة تحت الحكم الاستعماري ، وإقامة تعاون اقتصادي بين البلدان الأفريقية ، وحكمة سياسة عدم الانحياز ، وضرورة إقامة سلام عالمي وفقاً لميثاق الأمم المتحدة ومؤتمر باندونغ . وعقد مؤتمر القمة التالي لروساء دول البلدان الأفريقية في أديس أبابا في 30 أيار 1963م وفي هذا المؤتمر ولدت منظمة الوحدة الأفريقية ، وبحثنا سوق مشتركة وعملة أفريقية موحدة وبنك مركزي فضلاً عن وضع سياسة مشتركة.
تميز السودان في تلك الفترة بقادته مثل الزعيم الأزهري الذي رفع علم الاستقلال ، وبجانبه زعيم المعارضة محمد أحمد المحجوب بكل طيبة نفس، فكنا نحتاج لهذه الروح بين سياسينا فيمابعد وهذا النوع من العلاقة .

يقول المحجوب حين عقد مؤتمر القمة جلسة سرية في اليوم التالي ، عدد الملك حسين الخسائر التي مني بها الأردن في حرب الأيام الستة ، وذكر لنا الرئيس ناصر بصورة مطولة كيف بدأت الحرب ، والخسائر التي تعرضت لها الجمهورية العربية المتحدة ، والإجراء الذي علينا أن نتخذه الآن ، واستمرت المحادثات حتى ساعة متأخرة من المساء .
قال الرئيس ناصر أن بلاده علاوة على خسائرها في الرجال والعتاد العسكري والحاجة إلى إعادة بناء قواتها المسلحة ، ستظل تخسر 110 ملايين جنيه سنوياً بسبب إغلاق قناة السويس .
وأشار الملك حسين إلى أن بلده يحتاج 40 مليون جنيه سنوياً لبدء نفقات إدارة الدولة والمحافظة على الجيش ، وتزويد المواطنين في الضفة الغربية التي احتلتها إسرائيل بالأغذية والرواتب والأجور للمحافظة على معنوياتهم .
كيف تجمع هذه الأموال ؟ هذا هو السؤال الذي طرح على أعضاء مؤتمر القمة بصراحة .
ساد الاجتماع صمت كلي ، لم يتكلم أحد .
كنت جالساً إلى جانب الملك فيصل ، فالتفت إليه وقلت “أبا عبد الله ، أن لك الكلمة الأولى” .
كان الملك فيصل متردداً في البدء ، قال “هل أكون البادئ ؟” أجبته “نعم” فكر لحظة ثم قال : ستساهم المملكة السعودية بخمسين مليون جنية استرليني سنوياً” .
ثم التفت إلى الشيخ الصباح ، حاكم الكويت ، وقلت “إذا كانت المملكة العربية السعودية ستساهم بخمسين مليون جنية ، فمن المؤكد أن الكويت ستساهم بستين مليوناً .
اعترض سموه قائلاً” لكن لاتنس أننا دفعنا لمصر خمسة وعشرين مليون جنيه “! قلت له” كان ذلك عمل إحسان مضى كالصدقة الخفية ، لا تهتم به الآن ، نهتم بالمساهمات للوضع الحاضر فقط ”
التفت الشيخ الصباح إلى وزيري الخارجية والمال الكويتيين وشاورهما همساً، ثم أعلن أن الكويت ستساهم بخمسة وخمسون مليون جنيه استرليني  سنوياً .

ثم التفت إلى المندوب الليبي وقلت أظن مساهمة بلده يجب أن تكون ثلاثين مليون جنية في السنة ، فرد على حالاً ، ولي العهد الأمير حسن الرضا وزير خارجية ليبيا إنهما ليس مفوضاً إليهما جعل ليبيا تلتزم هذا المبلغ ، قلت : سنعتبر مساهمة ليبيا ثلاثين مليون جنية  استرليني ، يمكنكما أن تطلبا إلى جلالة الملك إدريس الموافقة ، وأنا متأكد من أنه سيوافق”
بعد أن ضمنا 135 مليون جنيه سنوياً ، وأظن أن الأمر استغرق نحو عشرين دقيقة  كتبت رقمين على قطعة ورق ومررتها إلى الرئيس ناصر ، فنظر إليها لحظة ثم هز رأسه موافقاً ، عندها أعلنت أن أربعين مليوناً تذهب إلى الأردن ، والباقي هو 95 مليوناً لمصر .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..